قباني وطنطاوي: الشاعر والشيخ

اثنين, 04/23/2018 - 17:10

صبحي حديدي

في مجلة «الرسالة»، العدد 661، 4 آذار (مارس) 1946، كتب الشيخ علي الطنطاوي هجاء مقذعا بحقّ «أدب الشهوة» كما سماه؛ متسائلا عن العناء في كتابته وطباعته ما دام الأمر لا يحتاج إلا «سهرة في الخمارة، أو ليلة في المرقص»، حتى تُستجمع أسباب هذا الأدب ومقوماته. ثمّ ذهب الشيخ إلى مربط الفرس: «طُبع في دمشق منذ سنة كتاب صغير، زاهي الغلاف ناعمه ملفوف بالورق الشفاف الذي تلفّ به علب (الشيكولاته) في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشام وضعه في خصور (بعضهن) ليمرقن به، في كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد، إذا قستها بالسنتمترات… يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرسة المتوقحة وصفا واقعيا، لا خيال فيه، لأنّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل، غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة… وقد قرأ كتابه الطلاب في مدارسهم، والطالبات». كان الشيخ يقصد الشاعر الشاب نزار قباني (1923- 1998)، وكانت المجموعة هي «قالت لي السمراء» التي صدرت في عام 1944؛ ملفوفة، بالفعل، بورق السيلوفان، تماما مثل زجاجة عطر أو علبة «شيكولاته» كما كتب الشيخ. موضوعات المجموعة كانت قصائد حبّ وغزليات حسّية، وفي الأسلوب اقترحت القصائد رشاقة مباغتة في تطويع المعجم، وأناقة جلية في اختيار المفردات، وشجاعة عالية في المجاورة بين الفصحى والعامية، وجسارة في تنويع التفاعيل. أكثر من هذا، كانت سوريا يومذاك تغلي بالشعر الوطني، وكان صاعقا ــ وجديدا طارئا، أيضا ــ أن تصدر مجموعة شعرية خالية تماما من أي قصيدة وطنية. لكنها، على النقيض، طافحة بنصوص على هذا المنوال: «سيري، ففي ساقيك نهرا أغاني/ أطرى من الحجاز والأصبهاني/ بكاء سيمفونية حلوة/ يغزلها هناك قوسا كمان/ لا تقطعي الإيقاع لا تقطعي/ ودمّري حولي حدود الثوان/ وأبحري في جرح جرحي أنا/ لشهوتي صوت… لجوعي يدان». لكنّ الشيخ لم يتوقف عند المحتوى، بل شملت غضبته البحور والنحو أيضا: «وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأنّ الناس قد ملّوا رفع الفاعل، ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه، فلم يكن بدّ من هذا التجديد». وفي هذا غبن كبير للمجموعة، غنيّ عن القول، لأنّ قصائدها تلتزم بقواعد النحو والصرف، بل تشفّ عن فصاحة عالية وبلاغة بديعة؛ على طريقة الشاعر بالطبع، وضمن خياراته في التجديد والتحديث. وليس مستبعدا، في المقابل، أن يكون الطنطاوي قد استنكر ــ في هذا البيت: «كأنما عينك وسط الضيا/ صفصافة تحت الضحى الزنبقي» ــ استخدام مفردة «الضيا» بدل الضياء. وفي القرار الأعمق من موقف الطنطاوي استقرّ ذلك الصدام بين موقفين من حرّية التعبير، وذائقتين، ومفهومين عن الشعر والأدب عموما، ومقاربتين فكريتين ومعرفيتين لا تخفى جذورهما الإيديولوجية المتناحرة. ذلك أنّ قباني سوف يردّ، بعد سنوات، حين يروي قصته مع الشعر، فيكتب: «لقد كان (قالت لي السمراء) في الأربعينات زهرة من (أزهار الشر). وإذا كانت باريس قد تسامحت مع بودلير حين أهداها أزهاره السوداء، وسلط الضوء على المغائر السفلية، والدهاليز الفرويدية في داخل الإنسان، فإنّ دمشق الأربعينات لم تكن مستعدة أن تتخلى عن حبّة واحدة من مسبحتها لأحد. لذلك جاءت ردود الفعل جارحة… وذابحة. وكلام الشيخ علي الطنطاوي، عن شعري، لم يكن نقدا بالمعنى الحضاري للنقد، وإنما صراخ رجل اشتعلت في ثيابه النار»! بعد سنوات قليلة سوف يغضب إسلامي آخر، قيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» السورية، هو مصطفى الزرقا؛ الذي اعترض على قصيدة قباني «خبز وحشيش وقمر»، معتبرا أنها «داعرة فاجرة انحلالية». ولأنه كان عضوا في البرلمان يومذاك، طلب الزرقا عقد جلسة لاستجواب الحكومة، بالنظر إلى أنّ الشاعر كان أيضا موظفا في السلك الدبلوماسي. ولقد فشلت كتلة الإخوان في الحصول من المجلس على توصية ضدّ قباني؛ ولكنّ التاريخ البرلماني السوري كسب واقعة ثمينة في صيانة حقّ التعبير، إذْ قال وزير الخارجية خالد العظم (على ما يروي شمس الدين العجلاني): «يا حضرات النوّاب الأعزاء، أحبّ أن أصارحكم بأنّ وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أمّا نزار قباني الموظف، فملفّه أمامي، وهو ملفّ جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة. أمّا نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعرا، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شعره. فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال»! ولم يكن بغير مغزى أنّ قباني، الذي تمرّ ذكرى رحيله العشرون هذه الأيام، ساجل مرارا بأنّ «الخروج على القانون هو قَدَر القصيدة الجيدة»؛ و«ليس ثمة قصيدة ذات مستوى، لا تتناقض مع عصرها ولا تتصادم معه»؛ ما دامت القصيدة «محاولة لإعادة هندسة النفس الإنسانية»، و«إعادة صياغة العالم»!

الفيديو

تابعونا على الفيس