د. يحيى مصطفى كامل
ليلٌ بليدٌ وكئيب يلف الدول العربية، ليل الثورة المضادة التي نجحت نتيجة عوامل عديدة ومتشعبة في إحباط الثورات حتى حين. فعدا الفوضى التي لم تزل تضرب في بعضها، فإننا نجد أن عيناتٍ ونماذج أشرس وأكثر دمويةً وبلادة صعدت على أشلاء هذه الثورات، مستبدلةً الطغاة السابقين الشائخين على مقاعد السلطة، الذين قد تكون سنواتهم الأخيرة قد شهدت دماً أقل، ربما نتيجة ما كانت حقبة الموات السياسي الطويلة قد أشاعته من طمأنينةٍ كاذبة ويقينٍ زائف بأن الثورة مفهوماً وفعلاً صارت شيئاً من مخلفات الماضي.
لكن يظل سؤالٌ جوهري، بل السؤال بـ»أل» التعريف، يفرض نفسه بإلحاح: كيف وصلنا إلى هذا المآل وكيف انتهى موج الثورة الهادر إلى هذا المصير البائس؟
لست أبالغ إذ أزعم أن الإجابة المحيطة بهذا السؤال الذي قد يبدو مباشراً بسيطاً قصيراً قليل الكلمات، قد تستغرق المرء عمراً بأكمله، وقد يفنيه في محاولة الوصول إلى إجابة ما كان أميناً صادقاً مع نفسه غير قابلٍ أو قانعٍ بالإجابات السهلة والصيغ الجاهزة المعدة للاستهلاك الواسع، كالوجبات الجاهزة السريعة، وسوف يصطدم بكل تأكيد بكثيرين ممن سيخالفونه الرأي (عاكسين بذلك تعدد الرؤى والأمزجة التي أسهمت في المحصلة إلى إيصالنا إلى ما نحن عليه).
بيد أننا نستطيع أن نقرر أن ثمة إجماعاً لدى قطاعاتٍ عديدة، في مقدمتها القوى السياسية غير المنتمية للإسلام السياسي، والمثقفون العلمانيون، أو لنقل غير المتعاطفين مع الإسلام السياسي بأطيافه، على أن قوى الإسلام السياسي تلك بعلاقتها المعقدة والمتراوحة بين التحالف والصدام، هي التي أوصلتنا إلى مأزق التاريخ، العالقين فيه. وأن الإسلام بريء منهم كونه يحمل تفسيراتٍ وتخريجاتٍ أكثر تطوراً وانفتاحاً على الآخر وعلى احتمالاتٍ مختلفة. هذا في الحد الأدنى، أما إذا أوغلنا فسنجد مثقفين كثرا بين الأطياف الفكرية المختلفة ممن تتسم علاقتهم بالميراث الإسلامي بقدرٍ لا بأس به من التوتر، يتراوح بين التحفظ على بعض التفاصيل ومن ثم التقبل والتعايش القلق حتى أولئك الذين يكنون عداءً وكراهيةً صريحة؛ ولا يسعنا أن نغفل مشاعر العداء الشائعة الآن بين قطاعاتٍ متسعة من الجمهور جراء «رهاب الإخوان» الذي عممته السلطة وأبواقها الإعلامية.
والشاهد أيضاً أن تلك الريبة وذلك التشكك والعداء لظاهرة الإسلام السياسي، تمتد إلى الإسلام «المؤسسي» والفقهاء الدائرين في فلك الدولة والموظفين بها بدرجاتٍ متفاوتة، فمن منا لم يسمع لفظة «فقهاء السلطان» تقذف اتهاماً لبعض الشيوخ المحسوبين على الدولة، كما أحسب أن كثيرين منا قرأوا كتاب «وعاظ السلاطين» مثلاً للدكتور علي الوردي، ورأينا الشيخ في فيلم «الزوجة الثانية» ينصح الفلاح الفقير بتطليق زوجته كي تتزوج من العمدة مردداً «وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم».
لست هنا بصدد تحليل ظاهرة الإسلام السياسي المتشعبة المعقدة، ناهيك عن الدفاع عنها، إلا أنني بت أرى أن إلقاء اللائمة على الإسلام السياسي (أو الميراث العربي الإسلامي) أضحى الإجابة السهلة السريعة وبات مموجاً من كثرة ما استهلك، كما أن فقهاء السلاطين وإن كانوا أسهموا وأدلوا بدلوهم فإنهم ليسوا وحدهم، فهناك إلى جوارهم، كتفاً بكتف، يسار السلطان ومثقفوه، أولئك الذين استغلوا ثقافتهم (الراقية الواسعة في بعض الأحيان) وإلمامهم بتنظيراتٍ ومدارس فكرية شتى في تسويغ القمع والانقلاب ومحاولة تسويقه.
للأسف فإن هذه العلاقة ليست بالجديدة، ويبدو أن طبيعة تطور طبقات المجتمع المصري التاريخي وموقع المثقفين فيه عليه معول كبير في تفسير ذلك، إلا أن مناقشة ذلك مما لا يتسع له المجال هنا. يكفينا أن نورد بعض الأمثلة. لقد كان الضباط المتحلقون حول عبد الناصر الذين قاموا بحركة 23 يوليو أغراراً، وكانوا ضائعين تائهين في تفاصيل كثيرة، حين ألح عليهم عبد الرزاق باشا السنهوري دكتور القانون والفقيه وسليمان حافظ القانوني نائب رئيس مجلس الدولة بتعطيل الدستور وعدم الدعوة لعقد انتخابات، خشية أن تأتي بحزب الوفد الذي يكرهانه، إلا أن بعضاً من الشيوعيين حينذاك تفوقوا عليهما بمراحل، إذ عقب حبستهم الشهيرة من 59 -64 قرروا حل حزبهم في خطوةٍ لست أعلم إن كان لها مثيلٌ في تاريخ الأحزاب الشيوعية، وقد استعاضوا عن حزبهم بالدخول فرادى إلى الاتحاد الاشتراكي، التنظيم الوحيد المسموح به حينذاك، علماً بأن أغلبهم ( إن لم يكن كلهم) لم يكن يرى النظام اشتراكياً حقيقياً! وقد اكتفوا حينها بموقفٍ لطيف هو «الدعم النقدي» وبعض المناصب في المؤسسات الثقافية ومجلة «الطليعة» التي استعاضوا بها كمنبرٍ عن التنظيم المستقل، استطاعوا من خلالها التعبير العلني والتنظير، بالطبع في حدود معينة وتحت رقابة قد تكون ذاتية في أحيان كثيرة.
لست هنا بصدد المزايدة عليهم أو محاولة التقليل من شأن الأهمية والقيمة النظرية التي كانت لمجلة «الطليعة» وسائر نشاطهم الثقافي، فقد كانت لهم ظروفهم وربما كان الموج عاتياً والمناخ معاديا، إلا أن ذلك لا يستطيع أن ينفي أنهم في نهاية المطاف أكسبوا النظام حينذاك دعماً ومشروعيةً لم يكن يستحقها، وأسبغوا عليه قشرةً حضاريةً (خاصةً في ضوء علاقاتهم بمثقفين ذوي شهرة وحضور عالميين كسارتر مثلاً) تنافت مع واقعه واهترائه وعبثه بأقدار البلد والناس كما تبدى لاحقاً في الهزيمة التي اصطلح بعضهم على تسميتها بـ»النكسة» في واقعةٍ نصبٍ وتزييفٍ وتلاعبٍ بالكلام أيضاً، كما أن ظروفهم التي قادتهم إلى تلك المسالك الزلقة ينبغي ألا تنسينا أن أحزاباً وتنظيماتٍ أخرى في مصر وفي أماكن أخرى من العالم اختارت الصمود والتحدي والاحتفاظ باستقلالها التنظيمي، في ظروف قمعٍ مماثلة إن لم تكن أشد. الأنكى والأزرى أنه بعد أن انفض المولد وإبان الهجمة الساداتية الرجعية، وتصفية الحسابات مع الحقبة الناصرية تم دمجهم ومماهاتهم مع النظام تماماً، ومن ثم تحميلهم جزءاً من المسؤولية عن قمع ذاك العهد، وما اعتبرت إخفاقاته باعتبارهم «اشتراكيين» وأن الحقبة الناصرية التي أُشيع وادُعي أنها أفقرت البلد كانت جراء «اشتراكية الفقر».
ذاك تاريخ. لكن المشكلة طفت إلى السطح هذه المرة مع ثورة 25 يناير وما أعقبها، التي فاجأت الجميع تقريباً، حيث وجدت الغالبية الساحقة من هؤلاء اليساريين والمثقفين غير مستعدين لها، فقد اضمحلت وذابت أغلب التنظيمات القديمة ولم يبق من اليسارية سوى رطانة وشيءٍ من «الوجاهة»، وإذا بمن يُفترض فيهم الإيمان بالثورة (وحتميتها التي تكاد أن تكون ميكانيكية لدى البعض) يتخبطون في تقييمهم وتعاملهم معها، خاصةً حين برز بصورةٍ صارخة ما كانوا يعرفونه من الأرضية الواسعة والمعتبرة للتيار الإسلامي، مقابل ضآلة حجمهم وغياب التنظيم لدى أغلبهم، لذا لم يكتف الكثيرون بمجرد إلقاء التعبيرات الممرورة عن غياب التنظيم والرؤية لدى الشباب، بما شف عن حقدٍ دفين وغيرة لا توصف سوى بالصبيانية، بل تخطوا ذلك لاحقاً بعد الانقلاب بالتقرير بأنه لم يكن هناك استعداد لثورة، وكثيراً ما يكون ذلك التعبير بصيغه المختلفة غامضاً فضفاضاً، بحيث لا يتضح على من يعود ومن هو ذاك أو هؤلاء الذين كان يفترض أن يكونوا على أهبة الاستعداد لقيادة ثورةٍ شعبية، كان يتعين عليهم قبل غيرهم أن يعلموا من قراءاتهم أن شخصاً لا يستطيع أن يعرف يقيناً ميعاد انفجار أي ثورة مع توافر الشروط الموضوعية، وأن التنظيم الثوري منتظراً مترقباً الثورة يتحتم عليه إعداد الكوادر والعمل معها وبينها، والقيام بدور المحفز أو»القابلة» إذا استطاع ومن ثم التصدي لمهمة قيادة الجماهير. لقد كانوا كمن ذاكر طويلاً ( وربما سئِماً وعلى مضض) للامتحان ثم ارتبك ورسب مع أول سؤال، وباقتدار. ناهيك بالطبع عمن تطرف منهم فوصف الحراك الشعبي بالمؤامرة.
لكن أبشع جريمة قامت بها هذه الطائفة من المثقفين كانت في استدعاء الانقلاب والترويج له والتغطية على جرائمه، فقد استحضروا ووظفوا كل حصيلتهم الثقافية في تبرير الانقلاب وجرائمه على أرضية المصلحة الوطنية العليا (التي لا يتبرع أحد فيخبرنا بها في ظل الاعتقالات والإفقار والتخبط الاقتصادي والفشل العسكري).
ومن ثم طفت على السطح تنظيراتٌ عجب من عينة التناقض الرئيسي (مع الإرهاب) والتناقض الثانوي مع النظام، وكأن السيسي هو ماوتسي تونج الذي آثر التهدئة والمناورة وهو عالق بين تشانج كاي شك واليابانيين، أو تلك التنظيرة الأخرى الأعجب بأنه ينبغي أن توجد دولة لكي نثور عليها، وبالتالي فنحن نطيح بالإخوان لنرمم الدولة ثم نثور عليها! لكن كل ذلك يخفي خبيئة نفوس هؤلاء ونوازعهم الدفينة، ففي بلدٍ لا نتحدث فيه إلا في ما لا يهم ونعترف بكل شيء سوى بالحقيقة، فإن أحداً منهم لا يملك الجرأة ليصدح علناً بالسبب ببساطة: إنهم يكرهون الإخوان المسلمين والإسلام السياسي (وربما الإسلام في حالاتٍ قليلة ومتطرفة)، فهم لم ولن ينسوا صداماتهم (العنيفة في السبعينيات) مع اليمين الإسلامي مدعوماً من السادات وباعترافه، وكيف قلص ذلك دورهم حتى تلاشى في المجتمع، وبالتالي فلن يتورعوا عن الاستعانة بالنظام لضربهم والقيام بما لم يستطيعوا القيام به، وهم بذلك لا يقومون بتلميع نظامٍ مجرم قروسطي، يستنسخ الحقبة المملوكية في صراعاتها، مع فارق كونه أفشل ويتغاضون عن جرائمه ويشرعنونها باعتبارها لا مفر منها، بل يتناسون أن النظام هو الذي ضربهم من قبل وهو الذي دعم الإسلام السياسي وأنه لا بقاء له سوى بدعمٍ من فصيلٍ إسلاميٍ ما، السلفيين الآن وربما الإخوان غداً بعد مصالحة أو غيرهما.
للأسف فإن الفكر التقدمي واليساري لدى هؤلاء لم يعد يعني انحيازاً اجتماعياً مع المظلومين والمسلوبين. انحياز إنساني في الأساس يضرب بجذوره في الصراع الطبقي وإدراك لطبيعته المستغلة لعرق العامل، فتقف طليعته في صفوف الكادحين المسحوقين المستغلين. انحياز للحرية والانعتاق بشتى صورها وأوسعها وأعمقها. انحياز يرفض ويدين كل أشكال الظلم والقمع حتى ضد ألد أعدائه، بل أصبح مسألة هوية ومزاج ونمط حياة يدافع هؤلاء عنها ومدرسةً فكرية يستمتعون بمتابعة إنتاجها الفني والنظري ومناقشتها في المقاهي والبارات، وإذا لزم الأمر فلن يأبوا أو يترفعوا أو يجدوا تعارضاً مبدئياً عن الاستعانة بالنظام (العسكري القمعي الدموي المنحاز بصفاقة وشراسة لرأس المال) لحمايتهم.
مليئةٌ هي الحياة بالتعارض والتقلبات والتحورات وتغيير المواقف، فلا أذكر عهداً طويلاً كان المنطق فيه هو سيد الموقف، وقد سبقني آخرون إلى ملاحظة أن كثيرين يبدأون شباباً في صفوف اليسار، وربما يكونون أكثر راديكالية من أقرانهم ثم ينتهون مع السن أو الهمود أو الإحباطات أو الثراء (أو كلها جميعاً) في صفوف اليمين، وربما المتزمت فوق البيعة، وقد تمثل تلك عودة سالمة إلى القاعدة التي انطلقوا منها قبل الثورات.
قد أتقبل كل ذلك لأن للإنسان فصولاً هو الآخر، لكنني أبدأ لم أستطع أن أفهم كيف يدافع يساريون عن انقلابٍ وحكم ٍعسكريين؟ أعلم أن الأفكار حمالة أوجه ، لكن أن يصل الابتذال والاستخفاف حد الدفاع عن حكم وديكتاتورية ما تراه الماركسية أدوات بطش الرأسمالية وطفيليا على جسد الدولة، فهذا ما لا أستطيع فهمه، حتى من منطلق التغيرات. إزاء ذلك المشهد العبثي البذيء لا أملك سوى أن أستحضر عمنا صلاح جاهين مستعيراً عبارته الشهيرة: وعجبي!
كاتب مصري