النضالات التي قادها المثقفون المغاربيون من أجل المجتمع المدني، مسألة شديدة الأهمية. فقد كان هناك إدراك لذلك في وقت مبكر، في عز الحرب التحريرية وحتى قبلها، عندما تكونت الاتحادات الطلابية المغاربية، والمهنية، والسياسية، مثل حزب نجم شمال إفريقيا الذي كانت رهاناته مغاربية بامتياز. عودة قليلة إلى الوراء تبيّن لنا كم كان وعي جيل التحرير كبيرا، خارج التصلبات الضيقة، المحلية والجهوية التي نرى بعضها اليوم. كان الفكر مهيكلا بشكل مغاربي منذ الأربعينيات.
حتى عندما رفع الاستعمار الفرنسي الحماية عن تونس والمغرب، لم يتوقف هذا التضامن المغاربي أبدا. ظلت الثقافة برؤاها التاريخية الواسعة والمتفتحة، أسمنتا صلبا يوحد الجهود المغاربية باتجاه بناء قنوات تواصلية سرية أو معلنة من أجل الحفاظ على هذه اللحمة التي تجمعها عناصر ثقافية وتاريخية وحضارية كبيرة أكثر من عناصر التفرقة. وهو ما قاد لاحقا إلى امتزاج الدماء المغاربية والتحرر نهائيا من الاستعمار الفرنسي. كانت الرؤية المغاربية لمختلف القضايا جماعية، لأنها اعتمدت على نخبة كانت قناعاتها كبيرة وحقيقية، وخارج المصالح الصغيرة والضيقة.
وصلت الثقافة المغاربية إلى درجة عليا من التنور وضعتها في مستوى معرفي محترم. فالمغرب ليس بلد زراعة، وسياحة، وفوسفات فقط، وليست تونس بلد القطن والتمور والسياحة، وليست الجزائر بلد نفط وغاز ويورانيوم فقط. هناك روابط تاريخية أكبر من هذا. نسيج مشترك بناه جيل حقيقي كانت رؤاه واسعة، خارج الوطنيات الضيقة، ودفع الثمن غاليا، ولا يمكن ترك هذا الميراث الكبير بين أيدٍ صغيرة وعاجزه، لتدميره بحثا عن مصالح تافهة كثيرا ما تكون شهادات بائسة لإثبات حسن السلوك. لا حل مغاربيا إلا بالانتماء إلى الثقافة، الصرح المتبقي، في ظل العجز السياسي. خارج هذا الخيار، سيتحول المثقفون المغاربيون إلى طبول تزمر للسياسي في بلدانها، وإلى طابور خامس يصطف وراء السياسي الضيق وينسى أن الثقافي استراتيجي بينما السياسي خاضع لفترات ومصالح كثيرا ما تغيب عنا. نعم الجزائر عانت الأمرين في سياق البحث عن مسالك ديمقرطية وفاء للرعيل المغاربي الأول. دفعت ثمن التحرير ودفعت وتدفع ثمن الديمقراطية. خرج الشعب التونسي من صمته وقاد أول ثورة عربية حديثة ويعطي اليوم درسا عربيا وعالميا في تعميق المجتمع المدني.
وخرج المغرب من سنوات الجمر والرصاص في السبعينيات والبحث عن مسالك ديمقراطية تشاركية. كل هذه المعضلات المغاربية وحدت الخيارات وفرضت تضامنا استثنائيا بينها وخلقت نخبا خرجت من جمر المعاناة والسجون والصعوبات القاسية. وأعتقد أن غالبية المثقفين المغاربيين، فرانكفونيبن أو معربين يذهبون بهذا الاتجاه الإيجابي، أي التعامل مع الحالة المغاربية بالمنطق الثقافي الأكثر اتساعا وفكرا وليس بالمنطق السياسي الجاهز كما تفعل المؤسسات الرسمية ببنياتها المختلفة أو الأجهزة السياسية والحفاظ على الخيوط الموجودة وعدم تمزيقها في ظل الحسابات السياسوية الخطيرة التي تتحكم فيها قوى جهوية، عربية ودولية، إلا الأقلية القليلة التي ربطت خطابها بخطاب السلطة الوثوقي التمجيدي الذي يفرغ السجال الثقافي من بعده النقدي، ويصرف عجزه في ذم الآخر بحقد أعمى وغير مسبوق، في غياب كلي لأي تبصر، يلتحق بلا تردد، بالصف السياسي المحكوم بتقلبات الخطابات الرسمية، وتتغذى هذه الفئة من بقايا الخطاب الرسمي بشكل أعمى. ونجد هذه المظاهر في البلدان المغاربية الثلاثة، بدرجات متفاوتة. المشكلات المغاربية لا تنحصر في الاختلافات، مهما كانت حادة وحقيقية. هناك مشترك تاريخي واقتصادي غير مفعّل اليوم. وعلى المثقف أن لا يطبل ويزمر لاحتمالات حروب قادمة، شديدة المخاطر. الجنوح نحو السلام جزء من استراتيجيات ورهانات المثقف. فما يجمع الجزائر والمغرب مثلا أكثر مما يفرقهما. طبعا هذا لا يلغي الواقع المرير الذي لم ينشأ اليوم، ولكن مباشرة بعد استقلال الجزائر في 1963 أي مباشرة بعد حرب الرمال. نعرف جميعا المشكلات القائمة بين المغرب والجزائر والتي تنم عن عجز في أعلى الهرم السياسي المغاربي في بلورة رؤية حقيقية تضع المصالح المغاربية العليا في أعلى سلّم الاهتمامات. لذلك مبررات تتحكم فيها المصالح والتكتلات التي تدفع بالدول المغاربية إلى الاصطفاف للأسف، حسب مصالحها الآنية والضيقة، والأدوار الموكولة لها في ظل النظالم العالمي الجديد – القديم. في ظل هذه الصعوبات والمخاطر استطاع المثقفون المغاربيون، من خارج المؤسسات الرسمية، أن يفرضوا دوما خطا واعيا في التعامل مع كل المستجدات. الإيمان العميق بوحدة الشعوب المغاربية ليس خطابا فجا. وقدر المثقف كان ولا يزال العمل بجد على ردم الهوات التي تحدث بين الشعوب. وظلت القوة الثقافية المغاربية والبراغماتية حاضرة بقوة، على الرغم من الخلافات بين المغرب والجزائر مثلا، التي تخبو وتشتعل حسب الأحداث، وأحيانا حسب إملاءات الأنظمة، لكن على الرغم من ذلك، ظلت الحدود الجوية مفتوحة بين البلدين، ونزعت الفيزا، وظل طريق المعرفة مفتوحا بين البلدين ولا يزال. أصبح هذا الحد الأدنى مسألة في غاية الأهمية. كان لي شرف حضور العديد من اللقاءات المغاربية في الجزائر والمغرب وتونس التي ظلت تنادي وتلّح على الحفاظ على الحد الأدنى في العلاقات المغاربية وتطوير الإيجابي منها. وشكّل هذا تفردا كبيرا بالمقارنة مع ما حدث بين الإخوة في الخليج العربي حيث تمزقت للأسف العائلة الواحدة بشكل عنيف وقطعت كل سبل التواصل.
ندرك جيدا حدة المشكلات المغاربية، لكننا نؤمن أيضا بعبقرية العمل الثقافي الذي يقف وراءه مثقف حر وملتزم ثقافيا، الأمر ههنا لا يتعلق بالصحافي المغاربي الرسمي، أو الإعلامي الذي يسير وفق الخط الذي تفرضه عليه الجريدة، ولا حتى القنوات الرسمية التي تختزل العلاقات المغاربية في شكل شتائم متبادلة، وتهديدات ولا تدري الرهانات الكبيرة القادمة التي تجبر هذه البلدان على التضامن والعمل باتجاه ما يجمع ونقد ما يفرق. ما مسّ الجزائر في العشرية السوداء وظن الإخوة في البلدان المغاربية وفي المشرق، أنهم بعيدون عنه نظرا لكونهم يعيشون إسلاما متصالحا مع نفسه، لم يُسْتفَد منه لا مغاربيا ولا عربيا بمنطق أن هذا لا يحدث إلا للآخرين. وما عشناه من تطرفات إسلاموية لاحقا، وإرهابا مدمرا يبيّن جدوى الفعل الثقافي المغاربي خارج منطق المؤسسات الاختزالي. لهذا أصبحت مسؤولية المثقف كبيرة وأضعف الإيمان أن لا يصب هذا المثقف أو المحسوب عليها، الزيت على النار، وينظم أو يشترك في حملات عدائية ضد هذا البلد أو ذاك. الخاسر والمنتصر في خيبة واحدة، هي المكوّن المغاربي الذي بني بالمعاناة والآلام والحروب. الوطنية والمغاربية تقتضيان أن يجعل المثقف من خطابه منارة للحلول الممكنة، لا أن يتحول إلى حلقة من الطابور الخامس. فالجيد المغاربي مريض وليست الأحقاد والضغائن هي ما يشفيه. حذر المثقف أكثر من ضرورة في ظل هذا القلق الجهوي والدولي. ليس عمله هو تدعيم العداوات وتبرير عمل الأجهزة الرسمية، ولكن التعمق في المشكلات والمعوقات المغاربية لإيجاد الحلول الضرورية تاريخيا، وتعميق ما هو موجود وإيجابي.