صبحي حديدي
من نافل القول أنّ «مسيرة العودة الكبرى» تشكل نقلة نوعية في السلوك الشعبي الجَمْعي إزاء قضايا عديدة تخصّ راهن القضية الفلسطينية إجمالاً، وأنساق المقاومة المختلفة، وواقع وئام أو انقسام الفصائل والتنظيمات في قطاع غزّة؛ وليس فقط الحصار الإسرائيلي الراهن، وخصوصية «الحدود» مع دولة الاحتلال، ثمّ استئناف الموقع المركزي الذي يشغله مفهوم «حقّ العودة» في الوجدان الفلسطيني؛ وصولاً إلى مساءلة الركائز الشرعية في إقامة إسرائيل ذاتها، على أعتاب الذكرى السبعين، استطراداً.
ثمة، بادئ ذي بدء، هذا الإجماع الواسع على خيار نضالي قوامه الاستنفار الشعبي الأكثر تنوّعاً والأعرض تكويناً، الذي يعتمد كثيراً على الناشطين الشباب كما يقتضي المنطق، لكنه يضمّ فئات عمرية متعددة، خاصة أولئك الذين عاصروا وقائع سرقة الأراضي سنة 1976 والانطلاقة الأولى لـ«يوم الأرض»، أو حتى أولئك الذين ترتبط ذاكرتهم بـ«النكبة» على هذا النحو المباشر أو ذاك. السمة الأبرز في هذا الخيار هي التعبير السلمي: عن الوجود الفلسطيني أوّلاً، وعن جملة الحقوق التي تخصّ الماضي والحاضر والمستقبل معاً، وعن المظالم والانتهاكات وجرائم الحرب التي تواصل دولة الاحتلال ارتكابها.
ذلك لأنّ خيار العودة ما يزال مطلب حقّ مشروعاً حسب القانون الدولي، طبقاً لقرار الأمم المتحدة 149 لعام 1948 الذي أجاز للراغبين أن يعودوا إلى ديارهم؛ بصرف النظر عن عجز «الشرعية الدولية» عن تطبيق هذا القرار، أو أيّ قرار آخر سواه يضرّ بمصالح دولة الاحتلال. وفكرة العودة هذه صنعت على الدوام أحد أكثر الكوابيس إثارة للفزع في السردية الصهيونية حول «الدولة اليهودية»، ليس من زاوية تحقيق التوازن الديمغرافي على أرض فلسطين التاريخية، فحسب؛ بل كذلك في مخاطر تقويض الكثير من العناصر، الزائفة والمختلقة، التي ضمنت رواج تلك السردية على أصعدة كونية خارج النطاق الصهيوني.
ثمة، ثانياً، نجاح هذا الخيار النضالي السلمي في تجميد خيارات أخرى عسكرية أو عنفية، وإنْ بصفة مؤقتة وضمن الإطار الراهن للمسيرة وحدها؛ الأمر الذي قد ينعكس، لاحقاً، في حوارات فلسطينية ـ فلسطينية حول واقع المقاومة بصفة عامة، وآفاق العمل الوطني العريض، ومشاريع المصالحة، وربما طيّ خيارات سابقة كانت فاعلة في الماضي وبات من الضروري اليوم تطويرها أو تجاوزها. لافت، في هذا السياق تحديداً، أنّ الصراعات المعتادة بين «فتح» و«حماس» أخلت الساحة لفعل وحيد مشترك هو حسن استثمار المسيرة عبر تمكين طرائقها وأدواتها؛ وتلك خسارة أولى كبرى، ذات دلالات بعيدة المدى، مُنيت بها دولة الاحتلال.
والحال أنّ ردّ الفعل الإسرائيلي، الدموي والفاشي الصريح، أعاد صورة العنف الفعلية الأبشع إلى حيث يتوجب أن تظلّ دائماً، أي عند سلطات الاحتلال التي لا تتردد في استخدام الرصاص الحيّ ضدّ مدنيين عزّل، شيوخاً ونساء وأطفالاً قبل الرجال والشباب، يتظاهرون سلمياً على أرض فلسطين. ورغم كلّ ما تملكه دولة الاحتلال من وسائل في إشغال الرأي العام العالمي عن جرائمها، بل قلب تلك الحقائق أيضاً، فضلاً عن التعتيم عليها؛ فإنّ الجولة انتهت، هذه المرّة أيضاً، لصالح السردية الفلسطينية، أخلاقياً أوّلاً، ثمّ سياسياً وحقوقياً تالياً، وهذا درس ثالث.
ويبقى، رابعاً، أنّ لا مفاجآت خاصة اكتنفت مواقف الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية إزاء انطلاق واستمرار «مسيرة العودة الكبرى»، حتى في المستوى المعتاد الذي يذرف دموع التماسيح على الشهداء والجرحى، أو يدين العدوان، ويستصرخ الأمم المتحدة. اللافت هو العكس، في الواقع، أي ذعر دولة الاحتلال من كمون هذه النقلة النوعية في النضال الفلسطيني، ومسارعتها بالتالي إلى مناشدة بعض الأنظمة (بما في ذلك السلطة الوطنية الفلسطينية!) كي تتدخل وتلجم المسيرة. كذلك كان السذّج، وحدهم أغلب الظنّ، هم الذين انتظروا موقفاً مختلفاً من الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، حتى في أضعف الإيمان!
السرديات التكوينية استُنفرت، إذن، ولذلك فإنّ الأيام المقبلة حبلى بالكثير.