الْيَوْمَ آنفو
عبدالله الجبور
تسلّق بشكل مفزع مجموعة من الطلبة في مدرستي الثانوية سور المدرسة الكائنة في مدينة المفرق شمال شرق الأردن، هروباً باتجاه الشرق إلى الخط الحدودي بين الأردن والعراق، كان ذلك بعد نهاية يوم دراسي تقليدي ممل، تحديداً في صيف العام 2004، علمت لاحقاً أن هؤلاء الطلبة قد وصل فعلاً قسم منهم إلى الحدود العراقية للمشاركة (الجهاد) في الحرب الأمريكية ضد (الشعب العراقي)، وقتها لم أهتم كثيراً بالسبب وراء عملية الإلتحاق بقدر اهتمامي بسؤال: لماذا اتخذوا سور المدرسة ممراً لهم، مع العلم أن باب المدرسة كان مفتوحاً؟
بعد مدة من الزمن، توصلت أن هناك دوافع نفسية – محفزات نفسية – تدفعنا لارتكاب سلوكياتنا التي ندركها بعد وقت من تنفيذنا لها.
للوصول إلى تلك المحفزات النفسية؛ بدأت عملية البحث عبر تساؤلات وضعتها بنفسي، من بينها: هل فعلاً الفقر أو تدني مستوى المعيشة هو سبب للإلتحاق بالجماعات الإسلامية المسلحة؟ ما الذي يحفزني للمشاركة في معركة غالباً سيتم قتلي بها؟ هل الدين الإسلامي يحثنا على ذلك؟ هل فعلاً سأذهب إلى الجنة بعد (استشهادي)؟
بعد مشاركة الأردنيين في حرب العراق، وبعد ظهور التنظيمات الجديدة في سورية والعراق عام 2010 على الميدان كجماعات قتال باسم الدين الإسلامي، كان لابد من العودة إلى تفسير الظاهرة بشكل أكثر دقة، ساعدني على ذلك عدة عوامل وهي:
أولاً: دراستي الجامعية في مدينة معان جنوب الأردن، المدينة التي تعتبر نسبياً من بين أكثر المناطق التي تصدّر مقاتلين للجماعات الجديدة باختلاف أسمائها ونطاق عملها، المدينة التي يبرهن المستوى المعيشي الجيد أن الفقر ليس سبباً رئيسياً للالتحاق بالتنظيمات الاسلامية المسلحة.
ثانياً: عملي كباحث اجتماعي ميداني في جمع البيانات لصالح مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية، العمل الذي أتاح لي الفرصة لزيارة جميع المناطق الأردنية تقريباً، والتحدث مع شريحة مختلفة على الامتداد الجغرافي الأردني، وتنفيذ مسوحات دورية منها ما هو متعلق بالتطرف الديني و مواضيع تتعلق بتوجهات الرأي العام حول قضايا مختلفة تتعلق بالمجتمع الأردني.
استخدمت فرضية تقول بأن التعليم الديني التقليدي هو أهم أسباب الحشد الدافعة لانضمام الشباب في الجماعات الدينية المسلحة.
قادتني عملية البحث وعبر استخدام منهج تحليل المضمون على أكثر أدوات التعليم الديني تأثيراً على السلوك، وهي خطبة الجمعة، وذلك لعدة أسباب؛ أولاً لأنها إلزامية، ثانياً لأنها دورية بواقع درس أسبوعي منتظم، ثالثاً أن خطاب شيخ الجامع في الدرس هو تلقيني ولا يمكن مناقشته، رابعاً لأنها تأتي في يوم عطلة، وبالتالي تستمع إليها الشريحة الأكبر في المجتمع.
تتفق معظم الدراسات المتعلقة بالتطرف الديني بأن السبب الرئيسي من ورائه هو الفقر والتهميش، حتى الدراسات الميدانية الدورية التي نفذتها لصالح مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية؛ تعزو الفقر سبباً رئيسياً لعملية التطرف، في الحقيقة أن هذه النتيجة ليست عامل رئيسي أو المسبب الأول لذلك، فالتعليم الديني التقليدي – تحديداً خطبة الجمعة كدرس أسبوعي دوري – لها التأثير الأكبر على تغيير سلوك الأفراد، وحشدهم إلى الالتحاق بالجماعات الدينية المسلحة وإن يكن ذلك عن دون وعي من خطيب الجمعة، فقط لتكراره خطاب من سبقوه دون الوعي بقوة الكلمات التي تنبع من مكان ديني.
كيف ذلك؟ نعلم جميعاً أننا في العالم 2018، ومازالت خطبة الجمعة تحتوي على رسائل الكراهية تجاه الآخر، على سبيل المثال: مازال الدعاء (اللهم عليك بالصليبيين ومن والاهم) ودعاء (اللهم عليك باليهود والنصارى والمجوس وأرنا بهم يوماً لعجائب قدرتك) موجود على المنابر، نعم هذا خطير لكنه ليس رئيسياً في تحليل سبب التحفيز للمشاركة في العمليات القتالية، قبل أن أنتقل الى التحليل الذي نتج عن تحليل المضمون وربطة بالسلوك، علينا التركيز على أي الجماعات الإسلامية الأكثر جذباً للشباب المتلقي للدرس الديني؟ سنجد جبهة النصرة بالدرجة الأولى، وما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) بالدرجة الثانية، وإذا ما أردنا معرفة الفارق بين هذه الجماعات وتنظيم القاعدة في السابق، سنجد أن كلاهما يريد الوصول إلى دولة إسلامية، لكن الأولويات تختلف؛ تنظيم القاعدة أولويته هي محاربة ما يسميهم (الكفار) ويرتكز في ذلك على الدول الغربية، بينما أولوية الجماعات الجديدة هي محاربة ما يسمونه (المرتدين) أي المسلمين الغير منتظمين معهم على غرار أنت لست معي فأنت ضدي.
على ما سبق، يمكن القول أن الدعاء الأكثر تكراراً هو: (اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان) ودعاء (اللهم احشرنا مع الشهداء والصديقين) ودعاء (اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين) دون تعريف/تفسير من هو المجاهد ومن هو الشهيد ومن هو عدو الدين؛ يشكّل دور كبير في حشد النفس للانتقال للمكان الذي يتمناه الجميع (الجنة) حيث تطرح هذه التكرارات أزمة/مشكلة يعاني منها الدين الاسلامي، ويضع الحل لهذه المشكلة، الأمر الذي يعمل على تحفيز النفس للمشاركة في أزمة الدين، والدور الذي يجب أن نقوم به هو (الجهاد) خصوصاً من قبل أولئك الشباب الذين ارتكبوا الأخطاء في حياتهم ويريدون تصحيح تلك الأخطاء بأية وسيلة، وأيضاً اولئك الشباب الذين يريدون رد الجميل إلى والديهم نتيجة تقصير حصل، يجدون أن جلب (شهيد) للعائلة سيجعل منه شخص أكثر فائدة، حيث أنه سيكون سبباً في إدخالهم للجنة التي يتمناها الجميع.
هذا التحليل يجاوب على تساؤل الباحثين: لماذا ينتظم أصحاب الأسبقيات بسهولة مع تلك الجماعات؟ على سبيل المثال القيادي أبو مصعب الزرقاوي الذي كان يقود جماعة التوحيد والجهاد في العراق قبل أن يقتل هناك في العام 2016، كان من أصحاب الأسبقيات، وغيره الكثير.
لأن المشاركة (الجهاد) لشخص تعيس في حياته هو الحل الأمثل – كما يفسّره رجال الدين بطريقة غير مباشرة عبر (الشهادة) – حيث أن جميع المشاكل المحيطة وخصوصاً التي يصعب حلها، يمكن أن تختفي جميعها بمجرد القتال في سبيل الله – على قول رجال الدين فإن هذا السلوك يكسب الشخص الحياة الدنيا والحياة والآخرة معاً – هذا الخطاب الذي مازال موجوداً إلى اليوم، علينا إعادة النظر به إذا ما أردنا الاحتفاظ بخطاب ديني يجعل الفرد فاعلاً بطريقة إيجابية أكثر في محيطه.
باحث إجتماعي وكاتب اردني