الْيَوْمَ آنفو :
سعد ناجي جواد
التاريخ الوطني للعشائر العراقية حافل بالمآثر، ولعل ما فعلوه اثناء ثورة العشرين المجيدة (30 حزيران / يونيو 1920) سيبقى عملا خالدا في سفر أعمالهم عندما هزموا قوات الاحتلال في معارك الرارنجية والشامية، وقبلها في منطقة كوت- العمارة، وسامراء و خان ضاري-الفلوجة، والسليمانية، و غنموا الأسلحة التي تركوها في ارض المعركة بعد هروبهم، ناهيك عن الأسرى. هذه الهزيمة المدوية دفعت الحكومة البريطانية آنذاك، وبأمر من وزير مستعمراتها ونستون تشرتشل، الى استخدام الأسلحة الكيماوية ضد العشائر الثائرة في جنوب العراق، وعندما ووجه بأسئلة حول هذا الموضوع من قبل مجلس العموم البريطاني لم ينكر بل تبجح بقراره ولم يستنكره، وإنما استنكر ان تتم مسآءلته عن استخدام هذا السلاح ضد العرب، والذي وصفهم بأوصاف اقل ما يقال عنها بأنها دونية و عنصرية مع محاولات دنيئة للحط من آدمية العراقيين. و حتى اليوم عندما يستذكر العراقيون الثورة يستذكرون ايضاً الاهازيج التي صدح بها شيوخ وأبناء العشائر اثناء المعارك. هذه الاهازيج آلتي ظلت خالدة ليومنا هذا. مثل الأهزوجة التي وجهها احد الشيوخ الى الجيش الإنكليزي الغازي والتي تقول ( ودوا يبلعنه وغص بينه) ( ودوا اي أرسلوه بلهجة ابناء الجنوب). والاهزوجه الظريفة التي رددها احد المقاتلين العشائريين الذي كان يقاتل بفالة، والفالة لمن لا يعرفها هي آلة كالرمح باربعة او خمسة رؤوس لصيد الأسماك في الأهوار، و التي كان يقاتل بها جنودا مدججين باحدث الأسلحة، و ضرب بها احد الجنود الإنكليز وبعد ان أستقرت في جسد الجندي هرب من ساحة المعركة فصاح المقاتل العشائري خلفه (رد فالتنه احتاجيناها مشكول الذمة على الفالة) اي ان ذمتك مدينة لي بالفالة. والاهزوجة الأهم والاقوى والأدل كانت تلك التي تغنى بها المقاتلون الشجعان عندما غنموا مدفعا من القوات البريطانية، مع جملة ماغنموا، بعد ان هاجموه بالمكاوير ( المكاوير جمع مكوار وهو عصا كانوا يغلفون احد رؤوسها بالقار)، وسحبوه الى خطوطهم القتالية وهم يردددون (الطوب أحسن لو مكواري)، والطوب هو المدفع بلهجتهم، وهكذا بالفالة والمكوار استطاع أولئك الأبطال ان يهزموا جيشا حديثا، حتى استخدمت بريطانيا الطائرات والأسلحة المحرمة لإخضاعهم.
المهم ان هذه الثورة قلبت الموازين والتفكير البريطاني عن العراق وحوله. واثبتت ان هناك شعورا وطنيا وشعبا عراقيا موحدا، خاصة بعد ان شارك في الثورة عشائر من كل العراق عربية وكردية، ومن كل المذاهب والمناطق. كما كانت شخصيات بغداد الوطنية قد أشعلت الروح الوطنية التي قادت الى الثورة، واستمرت في معارضتها السياسية للاحتلال البريطاني، مما اسهم في استمرار الثورة. وكان الشاعر خالد الذكر السيد محمد سعيد الحبوبي بحق شاعر الثورة ومحركها. كما وقفت أغلبية المرجعيات الدينية في الكاظمية والنجف وكربلاء وسامراء هي الاخرى موقفا مشرفا في دعم الثورة. (ومن المؤسف ان يسيء بعض احفاد هذه الشخصيات الوطنية الكريمة، العشائرية والمدنية والدينية، لتاريخ آبائهم وأجدادهم ويتعاونوا مع من غزا واحتل بلدهم فيما بعد). وبالنتيجة وبعد ان كانت بريطانيا قد خططت لاحتلال العراق وحكمه بصورة مباشرة، من خلال تمزيقه على أسس طائفية وعرقية، اعادت النظر في سياستها ولجأت الى تشكيل حكم وطني شامل ونصبت المرحوم فيصل الاول كأول ملك على العراق، واناطت المناصب للضباط والشباب العراقيين من كل المكونات. صحيح ان المستشارين البريطانيين والضباط السياسيين وعلى رأسهم المندوب السامي البريطاني كانوا هم من يديرون الدولة، الا انه صحيح ايضاً بانه بعد عقد واحد من قيام الثورة، اثبت ابناء العراق كفاءة كبيرة في بناء الأسس الصحيحة لبلدهم و تم ترشيح العراق عام 1930 لكي يكون اول دولة عربية مستقلة تدخل عصبة الامم، وهذا ما حصل في تشرين الاول / أكتوبر ١٩٣٢.
قبل ايام عادت العشائر العراقية، او بعضها، الى الواجهة بصورة إيجابية ، تختلف عن الصورة السلبية التي تميزت بها تصرفات بعضها الاخر مثل الاحتفاء بسياسيين فاسدين واستقبالهم بأهازيج لايستحقونها. فلقد اصدر عدد قليل من روؤساء العشائر العربية في الجنوب والوسط ( العْبُوده، البْدور، ربيعة، عْكَيل والبو فياض) بيانات متتالية أعلنوا فيها رفضهم التام مقابلة اي سياسي فاسد وأبرأوا ذمتهم من جميع الأحزاب والسياسيين الفاسدين. ودعوا الى عدم الوقوف مع الفاسدين الذين دمروا العراق ونهبوا خيرات ابناءه. والاهم من ذلك، وهذا يحدث لأول مرة بصورة علنية، ان بعضهم وجه اللوم الى المرجعية الدينية لدعمها لهولاء الفاسدين. حيث من المعروف عن روؤساء العشائر، وخاصة الجنوبية، تقديرهم العالي للمرجعية. كما خاطبوا المرجعية بصورة واضحة بأنهم لن ينتخبوا مرشحين فاسدين تدعمهم المرجعية، او هم يدعون بان المرجعية تدعم ترشيحهم. (ونتيجة لاصدار هذه البيانات تعرض شيخ العبود، الذي رفض استقبال مرشح فاسد، الى محاولة اغتيال قبل ايام نجا منها بأعجوبة). ان هذه البيانات وهذا الشعور الوطني العراقي، والذي يجب ان يحتذي به و بصدق باقي روؤساء العشائر في جنوب وغرب وكردستان العراق ، يمكن ان يحدث تغيرا، بل ويجب ان يحدث تغيرا، خاصة اذا ما التزم به الروؤساء و شمل عشائر اخرى، والاهم اذا ما تبعه حث من هؤلاء الروؤساء لابناء عشائرهم على عدم التصويت للفاسدين والفاشلين. كما وانه وقبل هذا على روؤساء العشائر ان يعملوا ايضاً على تطهير عشائرهم ويتبرأوا من الفاسدين والمجرمين الذين يحتمون بالعشيرة، او من أولئك الذين يستندون الى سطوة عشيرتهم كي يأخذوا الديات المادية الكبيرة ، او ما هو معروف بالفصل العشائري، وخاصة من الأطباء والمدرسين والمعلمين المساكين الذين يحاولون القيام بواجباتهم رغم كل الظروف الصعبة التي يمرون بها او يعملون فيها، او الاعتداء الجسدي عليهم. كما ان عملية مقاطعة الفاسدين وعدم اللقاء بهم هي مسالة ليست بالكافية ولا حتى بالهينة، فلقد اصبح عرفا عند الوجوه الفاسدة ان تستقصي أفراح واتراح العشائر وتحضر هذه المناسبات مع حماياتها وتفرض نفسها فرضا. ولهذا يجب استغلال هذه المناسبات ايضاً لفضح الفاسدين امام الملأ، كما فعل احد ابناء العشائر الشجعان عندما زارهم معزيا احد الأشخاص الذي كان من اكثر من روج ورحب واستفاد من الاحتلال، فأخبره امام الجميع ان فقيدهم الشاب قتل بسبب الفوضى التي احدثها الاحتلال الذي جاء به هو وامثاله وكانوا من اهم اسبابه، وان ارواح الضحايا تبقى في رقبتهم، ولم يستطع هذا الشخص ان يقول اي شيء وخرج مطأطأ الرأس. وفِي هذا الوقت بالذات يجب على روؤساء العشائر ان ينتبهوا لزيارات الفاسدين لمناطقهم وهم ينثرون أموال السحت الحرام التي نهبوها على البسطاء لكي ينتخبوهم، لا بل ان هناك دلائل تشير الى تورط بعض روؤساء عشائر بذلك. وأخيرا وليس آخراً فان على روؤساء العشائر الذين اصدروا هذه البيانات الجميلة والمعبرة ان يدعموا الشباب الواعي و الحركات والاحتجاجات المدنية السلمية التي يقودونها لإنهاء هيمنة الأحزاب الدينية والوجوه الطائفية والعنصرية ومن كل المكونات. واذا ما حصل ذلك فان مثل هذه المبادرات سيكون بالإمكان اعتبارها بداية للاقتداء باباءهم و بأجدادهم الذين تصدوا للمسؤولية الوطنية بغيرة عالية وشرف كبيرين. وعند ذاك يمكن ان تعتبر بياناتهم بداية لصحوة وطنية حقيقية والتي يمكن ان تحدث ما احدثته ثورة اجدادهم قادة ثورة العشرين من توحيد للصف وراب الصدع الذي احدثه الاحتلال ومن جاء معه، ويمكن ايضاً ان تجعل من غزا العراق، او من يحاول ان يجعل منه جزءا من مناطق نفوذه، يغص به كما غص به من سبقه.