الْيَوْمَ آنفو :
خالد فارس
مشكلة أو أزمة الديمقراطية فى العالم,تكمن فى الدول الديمقراطية الغربية, بذاتها. فالأنظمة القائمة فى هذه الدول, أنشأت أنظمة برلمانية وحرية تعبير وحرية تأسيس الأحزاب ودستور مواطنة قِوامُها ثلاثة أسس: أولاً: التفوق فى القدرات الاقتصادية والعسكرية النووية والتكنولوجية, مما يُمَّكِنُها-يُؤهلها للتحكم فى عمليات سياسية على مستوى العالم,
ثانياً: فى المرحلة الكولونيالية الأولى إسْتَعَمَرتْ وإسْتَوْطَنَتْ العالم,فأنشأت نظام عبودية مباشر سيطرت فيه على شعوب العالم وعلى مقدراتها, وحققت أرباحاً متراكمة هائلة, من الحروب والاستغلال والاستعمار, وقسمت العالم على أساس جيو-استعمارى, وفى المرحلة الكولونيالية الثانية والتى أسماها لينين الأمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية, تمت السيطرة المالية على العالم, أى عبودية عن طريق السيطرة على الانسان وتشكلات وجوده السياسى والاقتصادى والثقافى, وتحويله الى انسان اقتصادى مَدينْ, أجْرُهُ من عمله لايكفى لتحقيق مايحتاجه من أساسيات الحياة, فهو تابع مالى للأبد.فتم تقسيم العالم على أساس جيو-مصارف وشركات متعددة الجنسيات,
ثالثاً: فرض سياقات جيو-سياسية على شعوب العالم تتناقض مع الحداثة والحرية والديمقراطية, كما حدث منذ سايكس-بيكو فى الوطن العربى وكما حدث مع استعمار فلسطين من الصهيونية العالمية, وكما يحدث الآن من تحطيم للجيو-سياسى القومى لمنعه من التحول الى جيو-سياسى تقدمى حديث. بل يتم فرض نموذج جيو-سياسى مُعَدّلْ على سايكس-بيكو, أى اعادة انتاج الكولونيالية الأولى والثانية فى جيو-سياسى من نسخة جديدة.
عند قرائة أدبيات مفكرى هذا الغرب “الديمقراطى”, سنكتشف ما يشى بتفكير نقيض للحداثة والديمقراطية وتحرر الشعوب. مثال ذلك كتابات هنرى كيسنجر, كتابات ميلتون فريدمان, أفكار مؤسسات أكاديمية مثل نادى روما, معاهد الأبحاث والدراسات الأمريكية.
أشار البروفيسور البريطانى Colin Crouchالى أن هذا العالم قد دخل مرحلة مابعد الديمقراطية-Post Democracy. وما تجربة الانتخابات اليونانية لَدَليلْ قوى على ذلك. اليونان أجرت انتخابات على أساس برنامج اليسار الراديكالى, ولكن وجد هذا اليسار نفسه بأنه غير قادر على تلبية رغبات الناخبين. والمشكلة التاريخية التى يشير لها Crouch, هى أن مراكز القرار فى أماكن أخرى, وليست الانتخابات.
ليست الديمقراطية هى التى يعود لها مركزية القرار فى تقرير وتحديد خيارات الشعوب, انما الرأسمال العالمى, صندوق النقد, البنك الدولى, الصناديق الصهيونية. اما أن تكون ليبرالى غربى أو تموت. !
“ديمقراطية” الخيار الأوحد, السياق الأحادى, وعدم السماح بتعدد الخيارات.المفكر البريطانى الماركسى ديفيد هارفى, فى كتابه تاريخ مختصر لليبرالية الجديدة, يقول “كيف تمكنت الليبرالية الجديدة من التفاوض على تحويل شامل فى ليبرالية دولة الرفاه والتى سادت حتى سبعينات القرن العشرين؟ فى بعض الحالات, الجواب الى حد كبير باستخدام القوة (إما العَسْكَرية كما حدث فى تشيلى, أو مالية, من خلال عمليات صندوق النقد الدولى فى موزيبيق والفيلبين). الاكراه يمكن أن ينتج جَبْرِية, خسيسة, لقبول الفكرة, كما أصرت عليها مراراً مارغريت تاتشر, “لابديل”.
العملية الانتخابية التى يتم المباهاة بها فى العالم, فيما يسمى بالعالم الحر, ما هى سوى عملية تَوافُقْ يضمنها القانون والدستور, عبارة عن ادارة نموذج اللابديل الذى تحدثت عنه مارغريت تاتشر. أو كما وصفها ديفيد هارفى, الجبرية الخسيسة, لقبول فكرة الليبرالية الجديدة. أو انتخابات فى مرحلة مابعد الديمقراطية كما يسميها Colin Crouch.
فى رأينا عبارة عن نموذج أيديولوجى عن فناء الانسان فى مجتمع أعمالوتبادل مالى. أو كما يقول ماركس “تحول الانسان من عبودية أولى يتم فيها ملكية الانسان بذاته,وفى العصر الاقطاعى كونه عنصر فى الأرض, قوة عمل الانسان غير منفصلة عن الانسان. أما فى المجتمع الرأسمالى, أنفصل الانسان عن قوة عمله, فأصبح هو قوة عمله التى يتلقى مقابلها أجراً, أصبح الهدف عمل الانسان (مايُنْتِجُهُ) من خلال قوة عمله.
يتحدث العديد ومن بينهم البروفيسور الروسى كاتاسونوف عن أننا نعيش فى مرحلة باكس اميريكانا, المرحلة التى تناتج عنها ترتيبات بخصوص هيمنة وسطوة أميركا, بعد الحرب العالمية الثانية. أشار كاتاسونوف “الى وجه الشبه بين “باكس رومانا” و”باكس أميريكانا” فيما يخص التعامل مع مستعمرات الماضي المباشرة و”مستعمرات” الحاضر الاقتصادية والمالية؟”
فأشار الى تعدد أبعاد مفهوم العبودية: امتلاك الانسان, العبودية الاجتماعية-الاقتصادية, العبودية الروحية والفكرية وهى الأخطر كما يقول. تماماً كما أشار غرامشى عن “ضياع السياسى فى الثقافى”, أى تحويل الوعى السياسى الى وهم ثقافى, فيجعل هيمنة طبقة على المجتمع الانسانى, فى نموذج اليوم, باكس اميريكانا.
ماذا يعنى ذلك لنا نحن العرب؟
أن أكثر سلاح فتكاً بالعرب هو سلاح الأوهام السياسية, والمشاريع التى تُنْتِجُها مراكز الليبرالية الجديدة,فما هى سوى شكل جديد للفاشية والنازية والعنصرية, لرسم جيو-سياسى مُعَدّلْ لسايكس بيكو, والتعامل مع المشروع الصهيونى كأنه مُعْطى تاريخى غير قابل للنقاش.
العبودية الجديدة, المطلوب من العرب أن يعقدوا صفقة قرن على أساسها, أى نقاش عن الحرية والتحرر والاستقرار والرخاء, شرطه الاجماع على جيو-سياسى يبدأ من المشروع الصهيونى, مشروع جيو-صهيونى ومصارف مالية.
اذا أراد العرب قيادة أنفسهم, من الأجدى التفكير جديا فى الفرق بين الجيو-القومى الانثروبولوجى و الجيو-سياسى التاريخى. الأولى ليست سوى انماط حياة ثقافية مشتركة تنطلق من الجغرافيا الثقافية, أو المزج بينهما. وبالتالى تخصيص هوية جيو-ثقافية, تقوم على المشترك العام الانسانى فى هذه المساحة الجغرافية الممتدة من مليلة وسبة الى الأحواز. تصبح القومية العربية, أمة جيو-ثقافية, ليس لديها تعريف سياسى يُخْرِجُها من محدودية الانثروبولجيا.
المفهوم السياسى للأمم, هو مفهوم حديث, ولم تقم الأمم القديمة على أسس سياسية, كما يعنى السياسى فى العصر الحديث. لهذا فالأمم الحديثة هى أمم سياسية. بمعنى أنها مفهوم تاريخ سياسى حديث.
قبل العصر الحديث, لانستطيع أن نجمع بين الفراعنة والغساسنة والمناذرة والبابليون والكنعانيون والفينيقيون والحميريون والبرابرة والكورد, وغيرهم, على أسس من الحداثة السياسية, ولكن نستطيع على أسس الأنثروبولوجيا, وتَمرحل التاريخ المادى للعيش وانتاج الحياة. مفاهيم الجيو-القومى ما قبل الحداثة يغلب على مضمونها الأنثروبولوجيا الثقافية, وتمرحل تاريخ انتاج الحياة المشتركة.
الجيو-سياسى العربى الحديث, هو جيو-سياسى مفتوح, لايقبل بالعنصرية والصهيونية والنازية والفاشية والليبرالية الجديدة الغربية, بل يهدف الى ادماج ثقافات متعددة متنوعة متمازية فى سياق الجيو-سياسى,لكى يقود عملية تاريخية متحركة, جاذبة للشعوب, تتمازج أفكارها لتشكيل اتجاه تفاعلى سياسى, حضارى.
نتيجته ليست مقررة مسبقاً, ينطلق من العقل التفاعلى الحر, الذى يدمج بين انتاج الانسان وحريته أو الحرية فى المجتمع الحديث. يبنى على مخرجات الفعل الانسانى فى انتاج الحياة السياسة-الاقتصادية-الثقافية. فالأمم الحية هى التى لديها القدرة على التفاعل الحى المفتوح وليس التقوقع والانغلاق خلف بلوك تاريخانى غير تاريخى, خلف أنثروبوجيا الماضى العام, وليس التاريخ المتحرك المتمرحل.
الحضارى فى الأمة هو العملية بذاتها, وضمان ديمومتها, أى استدامتها, يأخذ تعريف الأمة قالباً جديداً, من العملية ذاتها, لتشكيل اطار حضارى يتجاوز الصهيونى والفاشى والعنصرى والنازى, والليبرالية الجديدة (باكس أميريكانا).
كاتب عربى