اليوم آنفو
زياد حافظ
تطلّ علينا وسائل الاعلام العربية بشكل عام وخاصة تلك المتعاطفة مع الخط المقاوم والممانع للكيان الصهيوني وللتمدّد الأميركي في منطقة المشرق العربي بتركيز على
“خطط تقسيمية” تارة للعراق وتارة لسورية. مؤخّرا وجدنا التركيز على مشروع أميركي لتقسيم سورية. فما هو الحال؟
في رأينا هناك مبالغة في قدرات الولايات المتحدة في بلورة استراتيجية واضحة المعالم والمحطّات ومتماسكة بين مختلف مفاصل القرار، وكأنها تستطيع فرض وقائع على الأرض. وعدم بلورة استراتيجية واضحة لا تقتصر على الميدان السياسي الدولي بل أيضا على الصعيد الاقتصادي كما سنعالجه بشكل سريع في فقرة لاحقة. فهذه المبالغة لا تنتبه إلى مدى التصدّع الداخلي الأميركي على كافة الأصعدة، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا كنّا قد أشرنا إلى ذلك في عدة مقالات وأبحاث.
من جهة أخرى لا تنتبه هذه المحطّات أن الإدارة الحالية يسودها التخبّط والإرباك وهي لا تختلف عن إدارات سابقة في ذلك الأمر وإن كانت وتيرة التخبّط أعلى بسبب التركيز على شخص الرئيس الأميركي المثير للجدل. وحالة الإرباك ناتجة عن حالة إنكار لواقعها الفعلي على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي المتراجع أكثر بكثير مما يتصوّره الكثيرون من المراقبين العرب وغير العرب. وهذه الحالة تفرز حالة تشاؤم مفرطة تتجسّد بتصريحات أقرب للهلوسة واتهام أخصام الولايات المتحدة بالاعتداء عليها وعلى مصالحها وضرورة مجابهة تلك التحدّيات التي تؤدّي إلى انطباع التراجع الأميركي على الصعدي الدولي. هكذ يمكن فهم الهيستيريا الأميركية باتهام روسيا بكل المصائب التي تقع فيها الولايات المتحدة. فنشهد بالمقابل تصريحات عنترية تعتبر المفاوضات دليلا على ضعف وبالتالي لا بد من ممارسة القوة لإفهام القاصي والداني أنه لا يمكن تحدّي الولايات المتحدة. من هنا نفهم نشر الصواريخ الأميركية على حدود روسيا والمناوشات الدامية بين القوّات الأميركية في سورية والقوّات الروسية في شرق سورية. لكن عند صدور موقف حازم من قبل خصوم الولايات المتحدة سرعان ما تتراجع وتيرة التصريحات العدائية الأميريكة ليحلّ مكانها لغة أكثر هدؤا. وجدنا ذلك في الملف الكوري كما في الملف الصيني، وقد نرى ذلك مستقبلا في الملف السوري والعراقي.
بعض المراقبين العرب يعتبرون أن كل ما يحصل في الساحة العربية وخاصة السورية مخطّط له من قبل المحور الذي تقوده الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني وبعض الحكومات الخليجية. في رأينا يجب قراءة المواقف الأميركية من زاوية موقع ضعف وليس من زاوية موقع قوّة وإلاّ ما كانت هناك ضرورة لعرض العضلات الكلامية التي لا تعبّر عن واقع فعلي. صحيح أن الولايات المتحدة استفادت من انشغال الجيش العربي السورية في محاربة جماعات التعصّب والغلو والتوحّش لإقامة قواعد عسكرية في شرق نهر الفرات وفي مناطق بئر النفط لترسيخ انطباع أن الولايات المتحدة غير معنية بالقانون الدولي والشرعية الدولية. فهي تقول للعالم أن الحق بيد القوة والقوّة في المدفع وأن الشرعية هي ما تقوله وتفعله الولايات المتحدة وليس أي طرف آخر. لم يصدر عن الولايات المتحدة هذا النوع من التصرّف إلاّ بعد المغامرة العبثية في احتلالها للعراق التي كشفت عورات عديدة في مقوّمات القوّة الأميركية. فمع احتلال العراق فقدت الولايات المتحدة الأميركية زمام المبادرة التي انتقلت إلى اللذين يقاومون هيمنتها ووجودها في المنطقة. فدفعت ثمنا غاليا في الأرواح كما في اقتصادها ولم تجن أي شيء يفيدها في السياسة أو في النفوذ. مصدر قوّتها الفعلية في المنطقة هي بعض النخب الحاكمة التي ما زالت متوهّمة بقوّة الولايات المتحدة وهي مستعدّة لدفع “الخوّات” لها لتوفير حمايتها بينما الغرض الحقيقي الأميركي هو الابتزاز المالي لتغطية ضعف مالي كبير في الولايات المتحدة.
والحقيقة أنه هناك لغط في تحديد معالم المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة وخاصة في سورية. فهناك من يروّج لرغبة أميركية في تقسيم سورية ويستند إلى الوثيقة الخماسية الموقّعة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وحكومة الرياض والأردن. لكن هذه الوثيقة لا تعني أنها أكثر من رغبات أو تمنّيات لأن إمكانيات تحقيقها غير متوفرة. فالولايات المتحدة ومعها كل من الكيان الصهيوني وحكومتي الرياض وابوظبي أخفقت في تحقيق انفصال إقليم كردستان في العراق رغم ما لديهم من تواجد ونفوذ في ذلك الإقليم. فالموقف الإقليمي المكوّن من دول الجوار، أي الجمهورية الاسلامية في إيران وتركيا والجمهورية العربية السورية والجمهورية العراقية، والموقف الدولي في مقدمته روسيا أحبطا مشروع الانفصال. فكيف يمكن لنفس اللاعبين إنجاز تقسيم سورية وتواجدهم ونفوذهم أقلّ بكثير مما كان وما زال في إقليم كردستان؟ كما أن إخفاق ورقة جماعات التعصّب والغلو والتوحّش في سورية لا يساعد الولايات المتحدة على تحقيق رغباتها كي لا نقول أهدافا استرايتجية غير موجودة في الأساس.
من جهة أخرى هناك من يدّعي أن الوجود الأميركي في شرق سورية هو لوضع اليد على آبار النفط السورية لمنع الجمهورية العربية السورية من ا لاستفادة منها في رحلة إعادة الإعمار إلاّ بالشروط الأميركية، أو لقطع التواصل الجغرافي بين سورية والعراق، أو إطالة عمر الحرب في سورية إلى أجل غير مسمّى تماهيا مع تصريحات بعض المسؤولين الأميركين لقرار التواجد في سورية حتى بعد الانتهاء من محاربة جماعات التعصّب. في رأينا هذا مزيج من أهداف أو رغبات يؤكّد عدم وضوع الرؤية ويطرح عدّة تساؤلات.
ألسؤال الأول هو هل الإصرار على السيطرة على آبار النفط في شرق سورية يعود بأي منفعة للولايات المتحدة؟ فإذا نعم فكيف ستصدّر النفط وعن أي طريق؟ وإذا استطاعت أن تصدّر فكيف ستتعامل مع مقاومة سورية رسمية وشعبية قد تكلّفها الكثير وهي لم تتعاف من آثار احتلالها للعراق رغم الإمكانيات الهائلة التي دفعت بها آنذاك وغير متوّفرة لمسرح عملياتها في سورية؟ هل تعتقد أن الكيان الصهيوني يستطيع دون أي كلفة مساعدة الولايات المتحدة خاصة بعد إسقاط طائرة الأف 16 وبعد الحديث عن إدخال وسائل دفاع جوّي متطوّرة جدا من قبل روسيا، وبعد ظهور طائرة السوخوي 57 أحدث الطائرات الروسية والمنافسة جدّا لطائرة الإف 35؟ وهل تعتقد الولايات المتحدة أن المزاج الشعبي في الولايات المتحدة مهيّء لمغامرة جديدة في المشرق العربي في بلاد الشام والرافدين؟
من جهة أخرى إذا كانت السيطرة على آبار النفط فقط لمنع سورية من الاستفادة منها في رحلة إعادة الإعمار إلاّ بالشروط الأميركية، فهذا يفترض غياب أي موقف جدّي وفعّال من سورية وحلفائها الإقليميين والدوليين. خطاب الرئيس الروسي الأخير الذي حذّر فيه بأن أي اعتداء أطلسي أو صهيوني أو خليجي على حلفاء روسيا هو اعتداء عليها أو أن التلويح بضربة نووية محدودة على حلفاء روسيا يعني اعتداء نوويا عليها بالذات يستدعي الردّ بالقساوة المناسبة مع حجم الاعتداء. القيادات العسركية الأميركية تعي ذلك ولكن الصراعات في موطن القرار الأميركي بين الرئيس الأميركي والخارجية الأميركية والبنتاغون وداخل كل هذه الأروقة والتي أصبحت معروفة ومكشوفة تدلّ على غياب استراتيجية واضحة.
وإذا كان الهدف من التواجد في شرق الفرات هو لمنع التواصل بين سورية والعراق فلقد حاولت الولايات المتحدة تحقيق ذلك الأمر عبر قاعدة التنف غير أن الجيش العربي السوري استطاع الإلتفاف على ذلك. حجم القوّات الأميركية في شرق سورية لا يسمح لها السيطرة على الحدود العراقية السورية الممتدة على أكثر من 600 كلم. كما أن الموقف العراقي المرتقب بعد الانتخابات البرلمانية قد لا يعطيها التغطية القانونية لوجودها خاصة بعد الاعلان العراقي الرسيم الانتهاء من القضاء على داعش. فكيف يمكن للولايات المتحدة منع التواصل بين البلدين وهي التي لم تستطع منع المقاومة العراقية في ذروة احتلالها للعراق من التواصل مع سورية ولبنان؟
كل ما تقوم به الولايات المتحدة لا تتجاوز مرحلة ردّ الفعل على أفعال يقوم بها أخصامها في المنطقة عندما يريدون وكيف يريدون دون أن تستطيع الولايات المتحدة تغيير مجرى الأمور. الحد الأقصى الممكن تحقيقه من الناحية الأميركية هو تأخير نهاية الحرب في سورية. في هذا الحال، يمكن السؤال إلى متى ولماذا؟
وربما الإجابة على “متى” تسبقها الإجابة على “ماذا”؟ في رأينا التأخير هو ردّة فعل فقط في غياب استراتيجية واضحة قابلة للتحقيق بالنسبة لإهدافها. وهذا ما تبينّ من خلال غيابها خلال السنوات السبع الأخيرة حيث أطلّ علينا الإعلام الغربي والعربي المرتبط به، والذي للأسف يردّده الإعلام المقاوم، بتغيير الاستراتيجية بشكل مستمر. فعند هذه الحال ألا يمكن التساؤل عما هو الفرق بين الاسترايتجية والتكتيك؟ الاستراتيجية تحمل في طيّاتها مفهوما فيه شيء من الثبات في الخطة والأهداف وإن لم تخل من المرونة، أي التكتيك. ولكن عندما تتغيّر “الاستراتيجية” بشكل دوري فهذا يعود إلى سوء تقدير للإستراتيجية السابقة ما يدلّ على عدم كفاءة إذا ما تكرّرت وهذا ما حصل ويحصل فعلا! ليس هناك من دليل عما يمكن أن تحقّقه الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميون والدوليون في إطالة الحرب. فتحسين شروط التفاوض في المرحلة النهائية سيكون مستحيلا إذا ما تمّ الحسم الميداني. وليس هناك أي دليل على إمكانية تعديل موازين القوة التي هي في صالح الدولة وحلفائها. لذلك يمكن التساؤل عماذا يستند الأميركيون وحلفائهم لإطالة الحرب؟ في النهاية فريقهم هُزم أو على طريق الهزيمة النهائية رغم المحاولات لمنع ذلك.
من أسباب عدم جدوى إطالة الحرب فقدان الولايات المتحدة لحلفاء يمكنهم أن يقدّموا شيئا له بعد أن قدّموا الكثير إن لم يكن كل شيء من دعم سياسي وإعلامي وعسكري ومالي. فالادارة الحالية الأميركية تتفنّن في توحيد مواقف خصومها وحلفائها على حد سواء لمجابهتها. القرار الأخير للرئيس الأميركي لفرض تعريفات جمركية على استيراد الفلاذ والالمينيوم يصيب حلفائها كما يصيب خصومها أي الصين! فالاتحاد الأوروبي وكندا والبرازيل ومعهم الصين سيردّون بالمثل على الولايات المتحدة التي لا تستطيع أن تتحمّل تداعيات الحرب الجمركية التي تقدم عليها ما سيزيد عزلة الولايات المتحدة. أما الكيان الصهيوني وحكومات الرياض وابو ظبي والدوحة، وإلى حد ما حكومة أنقرة فقد قدّمت كل ما تستطيع دون أن تحقّق أهدافها. فماذا يمكن أن يتحقّق لها بعد فترة من الزمن لتبرير إطالة الحرب في سورية؟ وكذلك الأمر بالنسبة للحرب في اليمن التي تدعمها وتسلّح المعتدين على الشعب اليمني ومؤسساته ودولته. تتزايد الدعوات في الكونغرس الأميركي لإنهاء العداون على اليمن فإلى متى ستستمر الإدارة الأميركية ضرب الحائط وإطالة الحرب؟ حتى هذه اللحظة لا تستطيع الإدارة الأميكرية الإجابة وإن أرادت ذلك فهي لا تعلم أكثر مما تتمنّاه وهذا لا يكفي.
كثيرون يقولون أن إطالة الحرب هي خدمة للكيان الصهيوني حيث محور المقاومة يستمر بالانشغال بها ويحوّل جهوده عن مواجهة الكيان. غير أن الحرب على سورية هي حرب صهيونية بامتياز ولا يستطيع الكيان أن يقف مكتوف الإيدي مع تقدّم الجيش العربي السوري في الغوطة الشرقية اليوم، وغدا في إدلب، ومن بعده في منطقة عفرين ومنبج وشرق الفرات. الجبهة الجنوبية في سورية أصبحت جبهة المواجهة مع الكيان. والمقاومة الاسلامية ومعها المقاومة الشعبية المتنامية في سورية بشكل عام وفي منطقة الجولان بشكل خاص تشكّلان خطرا مباشرا على الكيان. والمعضلة التي يواجهها العدو الصهيوني هي أنه لم يعد باستطاعته التدخّل المباشر بعد إسقاط الإف 16 وبعد الانذار الروسي. وبما أن القوى التي تدعمها الولايات المتحدة ومعها بعض الحكومات العربية لم تعد قادرة على إيقاف تقدّم الجيش العربي السوري الذي سيستعيد سيطرته على كافة التراب السوري، المسألة أصبحت مسألة متى وليست مسألة إذا، فما هي جدوى إطالة الحرب في سورية غير الموقف الكيدي الذي يدلّ على واقع ضعيف للولايات المتحدة وليس على واقع قوي. حتى ورقة عرقلة الحسم أو الحلّ السياسي في سورية أصبحت باهتة لا يمكن توظيفها إلى ما لا نهاية لأن كلفتها الحالية قد توازي كلفتها المستقبلية التي تعني الخروج الاستراتيجي للولايات المتحدة من المشرق العربي خاصة إذا ما أفرزت الانتخابات البرلمانية في كل من العراق وحتى في لبنان أكثرية نيابية رافضة للهيمنة وللتواجد العسكري الأميركي في غرب العراق.
*أمين عام المؤتمر القومي العربي