أخيرا سلمت إيران بالأمر الواقع، واعترفت بأن عملاءها في اليمن يخوضون الحرب نيابة عنها وعرضت جهودها للتوسط لقبولهم بالحوار .
العرض الإيراني جاء متأخرا جدا وباهتا جدا وخارج زمان ومكان الحدث.
ذلك أن زمام المبادرة لم يعد بأيدي عملاء إيران، الذين انهارت قواتهم تحت ضربات التحالف العربي من جهة، والمقاومة اليمنية الشرسة من جهة أخرى، وهو ما لم يضعه الإيرانيون في حسبانهم .
تقديرات الإيرانيين على المستويين التكتيكي والإستراتيجي كانت خاطئة، ولم يدرسوا الإحتمالات – المطروحة بإلحاح – حتى أنهم لم يضعوها على خارطة ” الفعل المتوقع ” أصلا مما جعلهم يدفعون بعملائهم إلى معركة خاسرة بكل المقاييس .
فقد أهمل الإيرانييون العمق الإستراتيجي لليمن الذى يشكل الخاصرة الجنوبية والبطن الرخوة للمملكة العربية السعودية ودول الخليج، فهو منطقة حساسة جدا لأمن الخليج العربي ودوله، ويستحيل تركه تحت رحمة الأجنبي .
النقطة الثانية التي أهملها الإيرانيون، هي حساسية الشعب اليمني المفرطة من الأجنبي، وخاصة إ ذا كان هذا الأجنبي فارسيا..فلا توجد بيئة حاضنة لعملاء إيران في اليمن.
وبتجاهلهم هذه المعطيات وقراءتهم قراءة خاطئة للميدان وقعوا في خطأ مهلك .. فقد ظنوا أنهم سيستحوذون على اليمن بسهولة -مثلما احتلوا العراق و دمروا سوريا- ليكملوا حصار الخليج العربي..ولكن ميدان المعركة قدم قراءة أخرى للأحداث، تمثل في الحضور القوي الحاسم للتحالف العربي بقيادة السعودية الذي فاجأ الإيرانيين وعملاءهم ليقول شيئا آخر ويقطع الطريق أمام المد الفارسي الذى يهدف إلى احتلال منطقة الخليج العربي برمتها..بل ويعمل على التأثير على كل البلدان العربية-حتى التي لا يوجد فيها تعدد مذهبي مثل موريتانيا- من خلال جماعات يزرعها الإيرانيون لتكون “هشيما نائما” مهيأ للاشتعال تحضيرا لتنفيذ ما يخططون له في المستقبل من قلاقل وفوضى في تلك البلدان .
لعبة ” الهشيم النائم ” هذه فضحتها الغطرسة الإيرانية والغرور بنصر زائف ظن الفرس أنهم حققوه من خلال عملائهم في العراق وسوريا و لبنان .
الذي لم يتصوره الإيرانيون أنهم يرقصون على “أديم لزج” سيمرغ الشعب العربي أنوفهم في وحله، كما فعل من قبل عبر أكثر من ألفين وخمسمئة حرب.
محاولة احتلال اليمن عن طريق ميليشيات الحوثي شكلت خطأ مميتا للإيرانيين الذين فشلوا في تقييم وضع اليمن تقييما صحيحا ببعده الإستراتيجي، ودوره في أمن شبه الجزيرة العربية .
التطور الدراماتيكي للأحداث، والانهيار السريع لميليشيات الحوثي، فرض على الإيرانيين تغيير تكتيكاتهم، وإبداء بعض المرونة، فقال روحاني – في تناقض واضح مع ما هو موجود على الأرض – إن إيران لاتريد الهيمنة من خلال التمدد الشيعي وإنما تريد “الأمان” و ” الازدهار ” للشعوب العربية ..!!
غريب .. ألم يقل القادة الفرس – مدنيون وعسكريون – أكثر من مرة إنهم استولوا على أربع عواصم عربية : بغداد – دمشق – بيروت- وصنعاء، وأنهم وصلوا إلى باب المندب، وأن العراق عاصمة الإمبراطورية الفارسية؟؟.. ألم يكن قادتهم العسكريون، يتبجحون في الخطوط الأمامية في العراق وسوريا، ولقي بعضهم حتفه وأسر العشرات من جنودهم في المعارك الدائرة هناك ؟؟ ماذا كانوا يصنعون في بلاد لا ناقة لهم فيها ولا جملا ؟؟ .
الأطماع الفارسية في الوطن العربي ليست أطماعا سياسية ولا هي وليدة وقتها، بل هي نتاج صراع حضاري قديم قدم الأمتين على وجه الأرض، تسبب في آلاف الحروب وآلاف المعاهدات، وكان المعتدي دوما هم الفرس، وكلما هزموا وأبرمت معاهدة بين الطرفين، ينقضها الفرس..فهم خبراء فىنقض المعاهدات إذا رأوا في ذلك ما يخدم أهدافهم التوسعية المزمنة.
مشكلة الإيرانيين أنهم لا يستفيدون من التاريخ وعبره، لأنهم مصابون بعمى تشوه النمط، فرؤيتهم قاصرة عن قراءة التاريخ وعاجزة عن تقييم الحاضر و حاسرة عن استشراف المستقبل .. لذلك يتبنون أسلوب خلط الأوراق ويحاولون استنساخ استراتيجية الفوضى الخلاقة من الأمريكيين، بحجة حماية أمنهم القومي، الذي يعتبرون خلق ” بؤر نارية” تابعة لهم في البلدان العربية من ضرورياته الملحة بوصفها وسيلة لنقل معاركهم مع “الآخرين” إلى خارج حدودهم .. فهم يعملون على خلق “سياج أمن” يتألف من مجموعة من الدول العربية، يتحكمون في قراراتها من خلال عملائهم، ويعبئون لهذا الغرض مجموعات إرهابية من جميع أنحاء العالم ومن إيران .. ويتخذون لذلك ثلاثة أنواع من الخطاب :
1 – الخطاب الموجه للعرب : يتخذ منهجية التشبث ب”دعم” المقاومة ضد الصهاينة وقد أثبت التاريخ أنها كلمة حق أريد بها باطل .. وماترك إيران تبنى ترسانتها النووية والاعتراف الأمريكي بإيران دولة نووية إلا أحد الأدلة على ذلك.
2 – خطاب ديني : موجه لغلاة الشيعة الروافض ويتبنى مقولة “حفظ المقدسات” الشيعية في البلاد العربية .
3 – الخطاب الثالث موجه للإيرانيين في الداخل، وهو تحت شعار ” الأمن القومي الإيراني ” ويهدف إلى إقناع هؤلاء بأن الأمن القومي لبلاد فارس يتطلب نقل المعركة إلى خارج حدودهم نطلاقا من تلك “البؤر النارية” التي يشكلها عملاء إيران في البلدان العربية.
هذه هي استراتيجد إيران لتنفيذ مخططها القديم ببسط هيمنتها على الوطن العربي..إنه الرقص على أكتاف الموت..ولكن الفرس لايستوعبون دروس التاريخ.