حول موضوع الأمازيغية: مقاربتنا للتاريخ محاولة للتأسيس

جمعة, 01/19/2018 - 23:12

الدكتور محمد عقبة القاسمي

منذ بداية الإضرابات في بعض المناطق الجزائرية  للمطالبة بترسيم اللغات الأمازيغية و أنا أتابع المنشورات عن موضوع الأمازيغية والتعليقات والردودات الشاحنة والمشحونة والأخرى المتعقلة و المتفهمة.

 تشعب النقاشات وانحرافه عن الجادة  وتهيج العواطف دليل أن ثقافة الحوار عندنا لا تزال متعثرة، والنتيجة المستخلصة سريعا أن الضباب كثيف لكن انقشاعه يسير عندما تتوفر النيات وتهدأ العواطف وتتجرد العقول من التعصب المتهور والعرقية المقيتة.

التاريخ عندنا دوما ما يثير الحساسيات و لا نلبث حين نستحضر أحداثه ووقائعه أن يزجنا النقاش  في حلقة مفرغة ملمحها الرئيس هو البحث عن الجاني.

لأننا ببساطة نشأنا في بيئات اجتماعية لم توطن أفرادها على الأسلوب الموضوعي والمتعقل والمقاربة الإيجابية  في الحوار حول المسائل الخلافية ولا سيما تلك التي  تخص الذاكرة الجمعية والثقافية الجزائرية.

صدقوني ليس الأمر ولم يكن أبدا متعلقا بخلافات تاريخية أو قناعات مسبقة بقدر ما يتعلق بكيفية تعاملنا مع المسائل التاريخية

و سبل الارتقاء  بوعينا التاريخي حتى نستطيع استيعاب قضاياه، بمعنى أن ننظر الى التاريخ كمرجع حضاري يدفعنا الى الأمام لا أن يرجعنا الى الخلف.

الخطوة الأولى والضرورية للارتقاء بوعينا الجمعي الى مستوى أرحب تبدأ   بإزالة   معوقات ورواسب علقت في تفكيرنا، تحول بيننا وبين الوصول الى هذا النضج الذي يستوعب جدلية التاريخ.

كل المجتمعات شرقية أو غربية في بنائها الحضاري تستند الى تاريخ بطولي ثوري تستلهم من جانبه المشرق وإن كان مليئا بالمآسي؛ فالإنسان يحتاح الى ما يثري مخياله ويؤسس له معلما في الزمان والمكان يتشكل من خلال مرجع تاريخي هوياتي. هكذا هي المجتمعات.

مثلا في الثورة الفرنسية كانت هناك مذابح راح فيها كثير من الأبرياء، والرؤوس التي قطعتها المقصلات لا تعد ولا تحصى.  لم يمنع ذلك من أن  يعتبروها ثورة حرية وأخوة ومساواة، وتتخذ نموذجا عالميا للثورة على الظلم والاستبداد وفساد السلطة وتلهم الشعوب الأخرى للانعتاق والحرية.

حتى ثورتنا المجيدة ضد المحتل كانت فيها تجاوزات خطيرة وأخطاء في حق مجاهدين من صناعها وآخرين ظلموا واتهموا. هذا لا يعني أن نسلبها وجهها المضيء وإنجازها التاريخي  لأن بعضا من قادتها انحرفوا أوتمادوا في استغلال سلطتهم.

ليست هناك ملائكة صنعت التاريخ هناك تاريخ بمراحمه وملاحمه يشكل ذاكرة مشتركة مهم جدا ترميمها على أساس الحقائق التاريخية والمصالحة مع الذات . هذه مهمة الباحثين والمؤرخينعلى شرط أن يستند إلى مناهج البحث العلمي وأن لا نعيد  ترميم هذه الذاكرة بتصفية حساب إيديولولوجي ضيق.

فمهمة الباحث ليس تصنيف الناس  هذا طيب وهذا شرير، هذا وطني وهذا خائن؛ بل مهمته  تجلية الأحداث عبر الروايات والوثائق   والمراجع الموثوقة، ومن ثمّ تحرير نص علمي لا أدبي رومنسي يقدس ويضخم أو يهول وينتقص.

 وتيقنوا أن الذي يتحلى بالروح العلمية الصادقة والحقيقية هو الذي يشوبه التواضع العلمي والمعرفي مهما اخترقت آراؤه الطابوهات وتفردت النتائج التي وصل اليها.

ونصيحتي إلى الشباب المتحمس إلى التاريخ والذي يريد الاطلاع عن التفاصيل أن يأخذ بالاعتبار هذه الضوابط المنهجية:

المؤرخ أو الباحث الذي يكون أقرب الى الموضوعية لا يتكلم بالجزم والقطع لأن التاريخ هو حركة مجتمع متعددة الأبعاد وتفسير الأحداث جد نسبي.

لذلك سيبرز  في لغته عبارات : يبدو،لعل، ممكن، الاحتمال الأقرب ..الخ

أما الذي يتبنى خلاصات قطعية ويضع معايير التصنيف للشخصيات التاريخية فهو بعيد  عن أبجديات الموضوعية العلمية.

مثلا  هناك مقاطع فيديو للقاء مع رجل  يتحدث عن الازمة بين  عقبة بن نافع، القائد العربي، والقائد الأمازيغي كسيلة بن لمزم. وخرج بخلاصة أن القائد الامازيغي كسيلة وطني ومقاوم بالمفهوم الحديث.

تكلم عن عقبة بن نافع كيف أهان كسيلة فانتقم كسيلة لشرفه وقتل قرابة ثلاثمأئة من رفقاء عقبة في كمين. أضاف المتحدث أن هذه العملية كانت تجليا لوطنية القائد كسيلة.

لو تدرجنا في فهم هذه الرواية من الناحية التاريخية لن يهمنا المخطئ من المصيب، الذي يهمنا هو إذا كان صحيحا أن أهان عقبةُ كسيلة وأساء إليه، ونتقصى عبر الروايات والمراجع التاريخية إن فعلها حقا، ثم نحاول تبين الدافع  في الإساءة إليه، ثم نتساءل لماذا انتقم كسيلة بهذا الشكل العنيف والقاسي..الخ

معالجتنا لهذه الحادثة لن تكون لتبرئة عقبة وتجريم كسيلة أو العكس. سنحاول تجلية حقيقة تاريخية بطريقة موضوعية غير مشحونة عاطفيا.

ورجوعا إلى قول المتحدث حول كسيلة الذي وصف ثورته على عقبة بعمل وطني، إذا تبنينا منطقه في إصدار الأحكام  سنسأل: لماذا أسلم كسيلة ابتداء ورضي بالبقاء في جيش عقبة من البداية هل يعتبر هذا  عملا وطنيا مثلا أو يعتبر خيانة حسب محددات ومعايير صديقنا المتحدث.

السؤال الآخر : على فرض أن عقبة لم يهن كسيلة و قربه اليه، كما فعل القائد أبو مهاجر دينار، هل كان سيبقى في جيش عقبة، أو كان ليثور عليه؟

إذا افترضنا أنه كان هناك تنسيق وتواصل بين كسيلة و البيزنطيينن للفتك بعقبة، كما جاء في بعض المصادر التاريخية،هل كان المتحدث ليعتبرها “ضرورة وطنية” للتحالف مع المحتل السابق؟

لقد استغربت هذا الاختزال للتاريخ. وصديقنا المتحدث في الفيديو الذي يشتكي من تزوير التاريخ لم يخرج من نفس الحلقة التي نسج على منوالها بعض (التاريخ الرسمي) وما يحتوي من  تصنيف وتقديس.

إن أهم ما يجدر بنا استيعابه أن الأحداث التاريخية التي انقضت لن تصنع لنا حاضرنا ومستقبلنا، نحن من يصنع وعليه المسؤولية التاريخية للخروج من عنق الزجاحة، بالطبع مستلهمين من روح التاريخ الإيجابية،  فلا عقبة بن نافع سينهض باقتصادنا ولا كسيلة سيفتح علينا باب التقدم العلمي.

نحن جزائريون بنفس التحديات في مجتمع اقتصاده معوق ونهضته العلمية مؤجلة.

وكلنا جزائريون بنفس الدرجة سواء من كان هنا من مليون عام او من تحصل على جنسيته من يوم واحد. ليس هناك من هو جزائري أكثر من الآخر، كلنا نخضع لنفس القوانين وعندنا نفس الحقوق والواجبات، هذا ما يطلق عليه اسم “المواطنة”.

ويا لها من مراهقة فكرية أن نحمل اجيال الحاضر خلافات الأجيال السابقة ثم  نستحضرها ونحييها من جديد في سياق تاريخي مختلف تماما وعفا عنه الزمن وملّ من تكراره، لنمنح أنفسنا سندا في اقتناص حق أو تصويب خطأ.

صحيح، هناك فئات في مجتمعنا لا تزال حقوقها المعنوية والتاريخية مهضومة،أفرادا وجماعات، والعمل على استرجاعها واجب علينا كلنا، بعيدا عن الشحن والشحن المضاد، وبعيدا عن الإقصاء والإقصاء المضاد.

معيارنا هو احترام الأراء على اختلافها وتعددها والتحلي بأدب النقاش واستنكار التطرف والتعصب.

هذا، وأرجو في الختام أن تكون فكرتي وصلت من غير لبس أو تعقيد، فغرضي أن أحلل لأبسط لا لأزيد الأمر أكثر تعقيدا مع اعتقادي الجازم أن خلفياتنا هي التي ينبغي عليها أن تتغير لكي لا يتجاوزها التاريخ لأنه فعلا قد تجاوزها من أمد بعيد.

أستاذ جامعي سابق بكلية الطب – الجزائر

باحث في مجال الدراسات اللسانية – جامعة الجزائر

الفيديو

تابعونا على الفيس