محمد نادر العمري
يبدو واضحا” أنه حتى الربع الساعة الأخيرة من عمر الأزمة السورية، لاتوجد أي تنازلات من قبل القوى المتصارعة ضمن الخارطة الشمالية من سورية، بل ساهم التقدم السريع الذي حققه الجيش السوري وقوات الحلفاء على محور “مطار أبو الظهور” في ريف إدلب الجنوبي إلى اشتداد حدة الصراعات والمشاريع التي سارعت هذه القوى إلى إخراجها من الدروج المظلمة.
صك البراءة الذي منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، يحمل تسوية مبطنة للسلوك التركي ويخرجه من عنق الزاجاجة، بعد مساهمته المؤكدة على الأقل من الناحية اللوجستية في الهجوم الذي تعرض له مطاري حميميم وطرطوس مع مطلع العام الحالي، كما أن موسكو أرادت من هذه التسوية ثلاث معطيات:
أولا”: الحفاظ على التوازن الإقليمي الذي أوجده فضاء “أستانة” بين الدورين “التركي والإيراني” إنطلاقا من القواسم المشتركة والاستمرار في البحث لإيجاد مفاعيل حول نقاط التناقض بينهما.
ثانيا”: زج أنقرة ضمن الخيارات الأقل سوءا” وإخضاعها للتكييف مع الحلول الأقل خسارة لها، بين السيناريوهان المتوقعين : إما التسليم للمشروع الأمريكي الهادف نحو إقامة نظام فيدرالي في الشمال السوري على طول الحدود مع الجنوب التركي وإقامة كردون بري يربط شرق سوريا بالبحر المتوسط مرورا” بعين العرب ومنبج وعفرين، أو تنفيذ مخرجات آستانة والتسليم بالتقدم السوري في محاربة النصرة ولعب دور الضامن والراعي لأستانة وسوتشي والأخذ بعين الاعتبار ببعض اعتراضاتها على مشاركة وحدات حماية الشعب.
ثالثا”: قطع الطريق أمام عودة تركيا لتحالفاتها السابقة مع السعودية أو الولايات المتحدة الأمريكية على غرار ماحصل في إدلب 2015 من دخول النصرة إليها بعد التعاون الذي شهده البلاط السعودي مع السلطنة العثمانية، وبخاصة إن أردوغان أوفد وزير خارجيته “مولود جاويش أوغلو” إلى الرياض قبل أسبوع من هذا الهجوم.
تصريح بوتين لأبرز رؤساء الصحف الروسية يوم الخميس الفائت بقوله: ( نعرف من هم، وكم دفعوا، ولمن)، إحرج أردوغان ودفع أنقرة للتواص مع موسكو تجنبا” لعودة العلاقات بين الدولتين لمرحلة مابعد إسقاط الطائرة الروسية “سوخوي” وتوتر الأجواء الذي ساد وخرجت منه تركيا أكثر خسارة.
أما (من هم ) فإن المعطيات التي استخلصتها نتائج تحليل الطائرات التي أجرتها وزارة الدفاع الروسية تشير نحو اتهام مباشر للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، هذه الأخيرة هي أكثر المنزعجين من أي حل سياسي داخلي في سوريا لايلبي طموحاتها نتيجة استمرار دمشق في تحالفاتها وضمن محور المقاومة، ولكن في ذات الوقت لاتجرؤ القيادتين العسكرية والسياسية لحكومة الاحتلال الإسرائيلي على الدخول في صدام مع موسكو ولايمكنها تحمل آثار نتائجه في حال فعلت منظومة “S400″ في كافة الأراضي السورية ولكن هذا لايعني إن حكومة تل أبيب ليس داعمة لهذا الهجوم.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فإن معظم المعطيات تؤكد تورطها وانخراطها بشكل مباشر، من حيث تصنيع الطائرات ، وشحنها للصواريخ من بلغاريا، ومراقبة هذه العملية عبر تحليق طائراتها دون طيار فوق المتوسط لمدة 4 ساعات من تاريخ الهجوم وإشرافها على تدريب المجموعات المسلحة على استخدامها، وهذا ما ألمحت له الدفاع الروسية.
واشنطن التي تريد تدوير الزوايا وخلط الأوراق من جديد داخل المشهد السوري، تبتغي عرقلة الحوار الوطني المزمع عقده في سوتشي نهاية الشهر الجاري من خلال:
_ إحياء المشروع القديم الجديد والمتضمن توجه قوات مايسمى”قسد” نحو إدلب لتحقيق هدفين: الأول هو منع الجيش السوري من تحقيق إنجاز عسكري في إدلب على غرار ماحصل في معركة الفجر الكبرى ومحاولة فتح كردون بري باتجاه المتوسط للعب دور في المشهد السياسي والضغط لفرض رؤيته وأجنداته ومن جانب آخر يضغط على أنقرة أكثر للتخلي عن علاقاتها مع إيران وروسيا، أما الهدف الثاني فهو التخلص من قوات سوريا الديمقراطية في حال فشلت في إيجاد هذا الكردون أو على الأقل إضعافها والزج بها ضمن قوات مايسمى “جيش سوريا الجديد” بمشاركة قوى وفاعليات عشائرية بعدما تسيطر على مواقع ومصادر الطاقة لتتمكن من تمويل ذاتها، وهذا يعيدنا لكلام السفير الأميركي السابق في دمشق” روبرت فورد” الذي وصف القوات الكردية “بالدمية” بيد واشنطن ، وهذا ماكشف عنه الرئيس السابق لحزب “الاتحاد الديموقراطي” “صالح مسلم”: (عن وجود خطة لقوات التحالف عبر قسد للتوجه إلى محافظة إدلب)، مضيفا” إن سورية تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الأجنبية التي لاتريد للأزمة إن تجد طريقها للحل.
_ من الجانب السياسي فإن واشنطن تمارس الضغوط نحو تأجيل محادثات “جنيف9″ لتتزامن من حيث التوقيت مع “سوتشي”، وماحمله لقاء مستشار الأمن القومي الأميركي “هيربرت ماكمستر” مع وفد “الهيئة للتفاوض” وقادة الفصائل المسلحة، بدأت نتائجه تظهر على ثلاث مستويات:
مسارعة نائب وزير الخارجية الأمريكي (ديفيد ساترفليد) للإعلان عن عقد لقاء وزاري محتمل مع نظرائه البريطاني والفرنسي وعدد من الدول الإقليمية في مقدمتهم تركيا والسعودية حول سوريا بعد محادثات جنيف9.
2.منح واشنطن لوفد الهيئة جرعة من التفاؤل عبر إطلاعها عن فحوى استراتيجتها تجاه سورية والمتضمنة تبني جنيف فقط، ورفض الخروج من سوريا إلا بعد البدء بالعملية السياسية وربط بدء إعادة الإعمار بها.
جرعة التفاؤل هذه دفعت وفد الهيئة للتفاوض للدعوة إلى عقد ما أسمته :((الملتقى الوطني الثوري السوري)) في الداخل السوري وضمن الدول الإقليمية والأوروبية بهدف التصدي لمؤتمر سوتشي وحث كافة الأطراف على مقاطعته.
ضمن الخارطة الإدلبية تتكشف العديد من الأدوار التي تمارسها الدول المتصارعة وقد نشهد تدخلا” أصيلا” في بعض مساراتها أو ضمن المسارات المرتبطة بها، فتركيا التي لن تقف مكتوفة الذراع ولن تسلم بالكامل للرؤية الروسية قد يقودها التهور نحو عمل عسكري في عفرين، فهي ترفض وجود كنتون كردي جنوب حدودها يهدد أمنها القومي وكذلك ترفض التسليم ﻷي اتفاق يقضي بتفاهم قوات كردية في عفرين مع الحكومة السورية بتنسيق روسي بالتزامن مع استمرار تقدم الجيش السوري الأمر الذي يفقد تركيا أي تأثير مباشر بصيغة الحل السياسية، أما الأمريكي الذي يريد تحقيق إنجاز سياسي بضغط عسكري في صراعه مع موسكو وبهدف لوي ذراع طهران فمازال يراهن على توظيف الطموحات الانفصالية لبعض القوات الكردية، بينما السعودية التي بدأت تدخل دائرة التهميش الوظيفي، هي تنتظر ردة الفعل الروسية جراء ثبات المعلومات على شراءها للطائرات التي شنت الهجوم على حميميم وطرطوس من أميركا، بهدف مقايضة هذه الهجمات بوقف تقدم الجيش في الغوطة الشرقية بعد فك الحصار عن إدارة المركبات في حرستا.
أما موسكو التي بدأت تتخلى عن سياستها الهادئة فإنها اليوم لن تكتفي بالجزرة التي تغري بها خصومها، بعدما أصبحت ضمن دائرة الاستهداف لذلك فإنها ستلجأ لرفع العصا في أكثر من موقف وقد تلجأ لتأجيل مؤتمر سوتشي حتى منتصف أو نهاية شهر شباط المقبل لكي تتمكن من قلب الطاولة على خصومها بالتعاون مع الجيش السوري لفرض أمر واقع، يبدو حتى اليوم مازال في أفق من الظلام في ظل تكاثر المشاريع والصراعات المتناقضة.
كاتب وباحث سياسي سوري