في المِلحَفة والعِمامة

أربعاء, 01/03/2018 - 23:33

الدكتور أبو العباس أبراهام 

لم ينتبِه أحَدٌ إلى الموت السرِّيع والعجيب للعِمامة. فحتّى القرن العِشرين ظلّ المسلمون بالغالب أمَةً مُعمّمة. والناظر في تصوّرات المسلمين في عيون غيرِهم، وبالأخصِّ من الغربيين منذ مطلع العصر الحديث، يرى أنّهم وُصفوا، كما في جون لوك مثلاً، بالأمّة المُعمّمة (the turbaned nation). ويجب الانتباه إلى العلمنة التي حصلت في الموضوع. فإيتان تسيّد العِمامة كانت العِمامة أيقونة الإسلام. فالحديث الشريف ميّز بين المسلمين والكُفّار بالعمامة. وكان يُقال بأن العرب ذلّت إذا وضعت العِمامة (على الأقلِّ كان أبو دلامة "قِرداً إذا وضع العِمامة"). وقد قامت الأيديولوجيا العبّاسية، إما من خلال فرض العمائم السود، أو من خلال فرض القلانس الطوال بالعمائم (عهد أبو جعفر المنصور) ثمّ إعادة القلانس الدانيّة، التي عُرِفت بالمعتصِميّة، بعد الفاصل الرشيدي الذي أعاد الجُبب المعمّمة، والتي برأيي هي ما انتصر في تاريخ اللِّبْس الإسلامي، إذ ستبقى سائدة حتّى عهد محمد علي باشا وإدوارد لاين.

أمّا قضية العِمامة في موريتانيا فإنّها امتلكت قداسات مُضاعفة. فهذه البلاد كانت تُعرَفُ ببلاد الملثّمين، واللثام، كما بيّنتُ في كِتابي، وكما بالغ في ذلك إي أيتش پالمر، كان أقرب للدين الصنهاجي منه إلى مجرد لِبس حمائي أو هويّاتي. وفي الواقِع فإن العلمنة الأولى حصلت في إطار التخلّص الأنسابي من صنهاجة والتمايز عن الطوارق. إلاّ أن العِمامة بقت علمنة اللِّثام الصنهاجي واضمحلاله. فظلّت، وهي ليست إياه، تاجاً للأعيان وعِزّاً للمؤمنين، وحتّآ الفاسقين، البيضان. وفي السنغال ظلّت العِمامة مُحتكَرة على رجال الدِّين وخلفاء الصوفية منذ التوبنان.

اليوم تنقشِع العِمامة إلاّ من البِقاع الريفية أو العُمالية أو أجواء السفر أو التنكّر وبعض الموضات والأحوال المتقلقلة. والواقِع أنّ الطبقة العُمّاليّة صارت اليوم هي بلاد الملثّمين القديمة. ولا يُطالِبُ الإسلامويون، ولا تضع نُخبتُهم حتّى، العِمامة.

لم تُشفَع هذه التحوّلات بالدِّين، رغم أن قضية الدِّين داخِلة فيها. وفي المُقابل تُشفع التحوّلات المستجدّة على المِلحَفة، التي يتمُّ تحدِّيها قُدماً من الهامش، بالدِّين. لا يقبل النهج البيضاني الأصولي الآن أنّ العِمامة دينيّة؛ بينما الملحفة، برأيِه، دينيّة. من الواضِح أن هنا مُفارقة. فالمِلحَفة لم تصبح زيّاً مِعيارياً للمرأة البيضانيّة إلاّ في القرن العِشرين. أمّا الملاحِف القروسطيّة فقد كانت ثياباً رجاليّة، كما في امبراطورية أوكار/واغادو (مملكة غانا) أو في الالتحاف المانوي وفي سياقات عبّاسية معيّنة.

من الواضِح أنّه يتمّ ابتكار التقاليد هنا. ولكن من الواضِح أن ما يبدو جندرياً يرثُ ما هو ديني، بينما ما هو لِبسي ديني قديم يتخلّص بسسهولة من دينيته ويتعلمن ببساطة. هذه هي باختصار قصة العلمنة، فهي ليست مجرّد استبدال الإطارات الدِّينية بل إسباغها على سياقات وقداسات معينة.

الفيديو

تابعونا على الفيس