د. حسين البناء
الأردن، وعبر ما يقارب المئة عام على تأسيسة، كان قد مر بكثير من الظروف الحالكة المليئة بالتحديات والمخاطر الحاسمة، واستطاع دائما الخروج بأقل الأضرار، بفضل القدرة على الفهم العميق للتوازنات الداخلية والخارجية و بفضل الاستثمار الذكي للظروف والفرص. لكننا اليوم، ومع بدء عامنا هذا الجديد، فإن الأزمة تتخذ شكلا مزدوجا غير مألوف؛ حيث أزمة داخلية اقتصادية، وأزمة خارجية سياسية، ونتيجة لتداخل عناصر كلتا الأزمتين، فإن حالة التركيب والتعقيد هذه تجعل من الأمر أكثر صعوبة على صاحب القرار الذي يتوجب عليه أن يرفع درجة حساسية الخيارات و عواقبها و آليات الخروج من المأزق.
داخليا واقتصاديا، فإن موازنة 2018 لم تخرج عن ذلك الإطار التقليدي المتبع، فلم يتم تقليص النفقات بشكل ينسجم مع العجز المزمن، واكتفت بزيادة الإيرادات عن طريق وقف الدعم الحكومي لبعض السلع كخبز المائدة، ورفع الرسوم والضرائب على خدمات و سلع كالمشتقات النفطية. والأكثر أهمية من ذلك أن السلطة لم تتخذ خطوات جريئة واجبة تعزز توجهات الدولة في مكافحة الفساد والرشوة وسوء الإدارة والتي ما زال كثير من الناس يعتقد بأنها لعبت دورا رئيسيا في تفاقم الأزمة، ويبدو البرلمان لكثير من الأردنيين اليوم، بالعاجز التابع، غير القادر على أداء دوره الدستوري بالرقابة و التشريع وتشكيل السياسات العامة.
خارجيا وسياسيا، فإن قرار الرئيس الأمريكي (دونالد ترمب) بشأن القدس كعاصمة لإسرائيل، جاء موجعا و متجاوزا كل القيم المشتركة التي لطالما كانت الإدارة الأمريكية شبه حريصة على إدامتها كجسر من شأنه الحفاظ على “شعرة معاوية” بين المتحالفين.
ترمب بقراره ذلك فقد تجاوز الأردن ودوره كليا، لأن معنى ذلك هو إنهاء الوصاية الأردنية على القدس بكافة مقدساته، كما أنه يعني تجاهل كون الضفة الغربية جزءا من الأردن بحكم (وحدة الضفتين و دستور 1952 الاتحادي) الذي جاء بعده (قرار فك الارتباط) عام 1988 ليمنح الفلسطينيين إمكانية تمثيل أنفسهم والاستقلالية بالقرار تحت وطأة الضغوط المختلفة آنذاك.
تهديد الأمريكيين بوقف المعونات للدول التي تقف ضد قرار ترمب في الجمعية العامة للأمم المتحدة جاء (تخويفيا و هابطا) أكثر من كونه نية جادة للتخلي عن آخر الحلفاء في المنطقة، فلا يمكن للولايات المتحدة تجاهل الدورين المصري والأردني في الشرق الأوسط خاصة بعد تطويق (المربع الموالي لإيران) المنطقة. لكن في ذات الوقت لا يمكن تجاهل ذلك التهديد واعتباره ابتزازا سياسيا رخيصا نظرا لما تعانيه كلا من مصر والأردن من مصاعب اقتصادية.
الأردن، وفي السيناريو الأكثر جراة له، يمتلك من الأوراق ما يمكن له أن يربك المشهد و يدفع بإعادة ترتيب الإجراءات والخطط للمنطقة بما يحفظ المصالح الوطنية العليا ويحقق سلاما أقرب ما يمكن للسلام المستند على قرارات الشرعية الدولية و يعيد الأمور تماما لما قبل 1967 . فهنالك مخاوف جادة من كون (قرار ترمب بشأن القدس) هو البالون الأول لاختبار فرضية (صفقة القرن) و نخشى أنه في حال تم تمرير ذلك، فإن سلسلة من القرارات اللاحقة ستليه، ومن أخطرها: يهودية إسرائيل، توطين اللاجئين ببلادهم، ضم المستوطنات لإسرائيل، تفكيك السلطة الفلسطينية، إنهاء حماس والمقاومة في غزة، تمزيق الضفة الغربية واستحالة قيام دولة فلسطينية واقعية وقابلة للحياة.
إذا، وفي ضوء هذا السيناريو بالغ السوداوية، ماذا يمكن أن نفعل ؟
ماذا بشأن الصين، ألا ترغب بكين بأن تطل على البحر الأحمر مثلا؟ أو أن يكون لها قاعدة متقدمة في عمق المنطقة!
ماذا بشأن روسيا، هل ترغب موسكو بقاعدة أكثر دفئا من حميميم؟
ماذا بشأن إيران، فهنالك بضعة ملايين من الحجيج يرغبون بزيارة أضرحة أهل البيت والتبرك بهم؟ وماذا عن الاقتراب من الصحراء العربية!
ماذا عن الكلفة المرتفعة التي يتحملها الأردن جراء قيامه بدوره الأخلاقي بحماية 1650 كلم من الحدود، ويمنع بذلك المهربين و الإرهابيين و تجار المخدرات من العبور لدول الجوار وإيذاء شعوبها!
الأردن، كان على الدوام، واقعيا وأخلاقيا و متوازنا وملتزما في تعامله مع الجميع، وعندما كان البعض يقدم له العون فإنهم بذلك يقدمون رسالة تقدير لدوره ؛ أما رسائل الابتزاز و التهديد بخفض أو قطع المعونات، فذلك أمر غير متوازن ولا واع للعواقب والتبعات.
الأردن اليوم معني أكثر من أي وقت قد مضى بأن يعيد ترتيب أولوياته، وليس أكثر إلحاحا من مكافحة الفساد و كبح ممارسات الرشوة و تقليص الهدر للموارد و لجم تبعات سوء الإدارة و دمج الأجهزة المكررة ذات الدور المزدوج و إعادة هيكلة مراكز السلطة بما يتناسب مع مفهوم الدولة الحديثة، ورسم استراتيجية اقتصادية هادفة لجذب وتوطين الاستثمار والتقنية والنمو الاقتصادي المستدام والمنتج.
أكاديمي وكاتب
خبير سيناريوهات اقتصادية وسياسية