عزيزي يوسف زيدان… اترك القدس لأهلها

سبت, 12/23/2017 - 16:36

نادية عصام حرحش

لقد جمعتنا الظروف في مثل هذه الايام قبل اعوام ليست بعيدة، في خضم الحرب التي تم شنها ضدك بسبب ما كتبته عن المسجد الأقصى والاسراء والمعراج . وقفت في حينها مدافعة عن حقك في التعبير عما تفكر به وتعرفه من علوم. دافعت عنك كهامة علمية وادبية في عالمنا العربي ، ووقفت بالمرصاد لمن حاول الهجوم عليك. لم يكن دفاعي عنك بسبب اتفاقي مع ما قلته ، بقدر ما كان دفاعي وبقوة عن حق الانسان بالتعبير ورفضي القاطع للتهديد بالقتل او التحريض على القتل من اجل الفكر.

وجمعتنا نفس الظروف للنقاش الطويل والمستفيض في موضوع  القدس، واتفقنا في بعض المواقع واختلفنا بالاخرى . وكنت كما لا ازال احترم محاولاتك لتحريك خمول العقل العربي في طرح القضايا الحساسة والدق على خزان عقولنا الفارغ.

ولكني اليوم اقف وبعد سنتين ، ولقد تغيرت احوال القدس للأسوأ بسبب ظلم الاحتلال الاسرائيلي وتبجح الادارة الامريكية الحالية ، وغياب اي دور ريادي فاعل للدول العربية . وها نحن نشهد لحظة تاريخية قد تكون حاسمة، سيكون سقوط القدس هو محورها .

اتفق معك اننا يجب ان نواجه تاريخنا ، ونراجعه ، ونقرأه ، وندرسه من مداخل ومصادر ومراجع مختلفة ومتعددة. علينا ان نصغي ونبحث وننفد في القراءات الناقدة والمغايرة . بهذا فقط نستطيع ان نتقدم خطوات الى الامام في صناعة تاريخ يستحق عيشنا فيه.

اثرت موضوع المسجد الاقصى مرارا وتكرار ، وكانت الاوقات غير هذا الوقت . خلعت عباءة البطولة عن صلاح الدين الايوبي، وقد يكون في كلامك الكثير من الحقيقة . وتسمية القدس قبل المسلمين بايلياء ليست بالسر . ووجود اليهود فيها ليس لغزا يتطلب الفك . والكتب التاريخية لمؤرخين فلسطينين تتكلم وبوضوح عن زيارة عمر بن الخطب للمدينة ، واسمها ، ولقائه مع الكاهن اليهودي كعب الاحبار، وتنظيف مكان القمامة التي كان تحتها ما هدمه الرومان من “هيكل”  وبني المسجد. ولقد تكلمت مؤخرا عن العهدة العمرية ، التي اذا ما قررنا انها عهدة عمر بن الخطاب والتي تناولت منع اليهود عن العيش في المدينة ، قد تكون مناقضة لتأكيد الروايات الموثقة عن احترام عمر بن الخطاب لليهودية. وهنا اود الاستعارة بفقرة من كتاب المفصل في تاريخ القدس للمؤرخ الفلسطيني عارف العارف ، الذي اعتمد في هذه الجزئية على مجير الدين الحنبلي في مجلده الانس الجليل، والتي جاءت كما يلي :

” أين بنى عمر مسجده؟

ثم طلب الى البطريرك ان يريه مكان الهيكل. وفي قول ـ وهذا هو الاصح ـ ان عمر طلب الى الببطريرك ان يدله على مكان يبني فيه مسجدا للمسلمين، فدله البطريرك على منطقة الهيكل. وذهب الاثنان الى منطقة الهيكل ، يرافقهما عدد من الصحابو والقس وقادة الجيش. وكان المكان مهجورا بالمرة ، ينعق فوقه بوم الخراب. ولم يكن فيه سوى الطلل الباقي من عهد الرومان . ولم يكن على الصخرة نوع من انواع البناء . لا بل كانت الصخرة مغطاة بالزبل والاقذار . اذ كان سكان المدينة قد اتخذوها مزبلة.

فدهش عمر ، وراح ينضح التراب بكفيه ، وينقله بثوبه ، وتبعه الصحابة و فراحوا يرفعون عن الصخرة التراب، الى ان بدت للناظرين ، فأمر عمر ببناء مسجد في ذلك المكان . ……….

وفي رواية اخرى ان عمر انتهى الى المسجد الاقصى ليلا. فدخله ، وصلى به . ولم يلبث ان طلع الفجر. فامر المؤذن بالاقامة . فتقدم، وصلى بالناس، ثم دعا بكعب الاحبار  (كان يهوديا اعتنق الاسلام ، ورافق عمر اثناء فتحه بيت المقدس. وكان اليهود يتمنون ان لو يفتح المسلمون بيت المقدس نكاية بالمسيحيين . وكثيرا ما كانوا يحرضون على فتحها)  وكان لما دخل المسجد، قال : ارقبوا لي كعبا. ولما اتى به قال له : “اين ترى ان نجعل المصلى ” ؟ فقال : الي الصخرية .قال عمر: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، ثم قال : بل نجعل  قبلته صدره ، كما جعل رسول الله قبلة مساجدنا صدورها . فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنا امرنا بالكعبة، فجعل قبلته صدره.

ثم قام الى كناسة (الزبالة) كان الروم قد دفنوا بها الهيكل في زمن بني اسرائيل، وقال : يا ايها الناس، اصنعوا ما اصنع. وجثا في اصلها ، وجثا في فرج من فروج قبائه . وبنى فوقه مسجدا ، وبينما كان عمر ينظف موضع الصخرة سمع التكبير من خلفه . فقال : امهذا ؟ قالوا : كبر كعب، وكبر الناس بتكبيره.(ص ٩٨ـ ٩٩ )

لقد تعمدت استخدام مصدرا فلسطينيا لاؤكد لك أننا لا نعبث في التاريخ ولا ننكره.  ففي معرض نشرك عن موضع تسمية المدينة  بايلياء ، بيت هميقداش ، اوروشاليمو يبوس ، ومن ثم استرشادك بما قاله ابن تيمية ، وللحقيقة من الصعب فهم مبتغاك من الاسترشاد بابن تيمية او غيره للتأكيد على بعض العبارات او الكلمات ، وهنا اعود لك بعارف العارف بخصوص تسمية المدينة :

: ما كانت هذه المدينة تسمى يومئذ بالقدس . لا، ولا بالقدس الشريف . بل كان اسمها ايليا وايلياء.

ولقد صحبها اسمها هذا مند عهد الرومان ، يوم فتك الامبراطور اديانوس باليهود، وخرب اورشلين (١٣٩م) ،وبنى على انقاضها مدينة جديدة سماها ايليا كابيتواينا . وهي مشتقة من ايليوس ،كلمة يونانية تعني الشمي وكابيتول معناها المركز او المقر. وقد ظل هذا الاسم معروفا في اوئل الفتح الاسلامي . فخاطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده اهل ايلياء ولم يخاطب اهل القدس، ولم يكن اسم القدس معروفا في ذلك العهد. (ص ٩٣)

يعني اننا لا نحتاج لنبش تاريخ كتابات ابن تيمية ليحدثنا عن اصل التسمية . واستخدامك للحديث ما بين عمر بن الخطاب وكعب الاحبار ، لا يمكن ان نأخذ ابن تيمية مثالا لهكذا نقل لأن موقف ابن تيمية من غير المسلمين لن يكون بالموقف الايجابي بأي موضوع كان .  وليس عجيبا خروج العهدة العمرية مع اسم ابن تيمية هنا ، لأن المتابع للتاريخ يعرف ان هذه العهدة لم تكن تخرة الا في اوقات التزمت والازمات بين غير المسلمين.

اما القول ان صلاح الدين فتح القدس استرضاء لابن ميمون اليهودي ……… يبدو ان شعور الثأر بينك وبين صلاح الدين مبني على القومية وحب الوطن ، فأنت لا تغفر لصلاح الدين فعلته بالفاطميين واطلاق وزيره قراقش للقتل والتدمير على حد قولك ، ولكن هنا ايضا ، لا يجب اخذ صلاح الدين من زاوية تاريخية محددة ، وهذا حققك ربما كمصري ، ولكن ان تقول بأن فتح صلاح الدين للقدس كان هدية منه لطبيبه اليهودي(الاسرائيلي- حسب تعبيرك) فهذا فيض مما يمكن تسميته بالمغالطات الكبيرة وغير العلمية. والمعلوم لديك بطبيعة الحال ان ابن ميمون لم يكن مجرد طبيب ، ولكنه كان فيلسوفا وعالما، وهذا ما قربه من صلاح الدين. ان يكون بن ميمون قد اوحى لصلاح الدين بهذا فانه لم يسجل تاريخيا. ان يكون بن ميمون تمنى الذهاب الي القدس فهذا طبيعيا. وما بين ابن ميمون وصلاح الدين من تلاقي ديانات لهو امر يوكد ان اليهود في تلك العصور ليسوا نفسهم يهود اسرائيل صهيون اوروبا.

سيدي ومولانا الفاضل، بلا شك ان هناك ما يجمعنا كعرب ، وعلى الرغم من نقدنا لما انتجته فكرة القومية ، الا انه جزء مفصلي في تكوين هوياتنا ونزعاتها. ودفاعك عما يتعلق بمصر سواء امام صلاح الدين او اعتراضك عن بيع الجزر المصرية للسعودية ، يؤكد ان حب الاوطان يفوق كل حب عندنا . عندك كمصري وعندنا كفلسطينيين.

وكما لن اناقشك فيما تراه مصري الطابع والاصل والقيمة والحقيقة ، فأتمنى عليك ان تكف النقاش عما هو فلسطيني. فقراءة التاريخ ليست كالعيش به . وفي القدس نحن نعيش هذا التاريخ . فلا يمكن لقاريء او عابر ان يفهمه او يعيه او يحكم عليه كمن يعيشه. لو كان امر القدس وفلسطين امرا عابرا وسهل الحلول لانفض وتم حله منذ زمن.

القضية ليست قضية دين. القضية قضية ارض. وللارض اصحاب نحن الفلسطينينون اهلها . ونحن الفلسطينيون الذين بقينا على هذه الارض من مسلمين ومسيحيين و (يهود) ابناء هذه الارض واصحاب الحق فيها . واليهود هنا بين قوسين ، لأن اليهود ابناء الارض الاصيلون تركوها وسلموا زمام امرهم ليهود اوروبا  ( الا فئة قليلة منبوذة اليوم في اسرائيل) . والاختلاف بين الاثنين واضح على ما اعتقد لعالم مثلك.

عزيزي ، هم بالفعل خائفون ، ولكنا لسنا كذلك …. قد اراد محمود درويش بخوفه باستشهاده لجملته تلك “هو خائف وانا كذلك”  لان بقصته الشخصية ما يخيفه. ولكن القصة الفلسطينية لا تحتمل الخوف ، لأن صاحب الحق قوي . ونحن اصحاب حق .

وموضوعنا ليس ايلياء ولا اورشاليم ولا الاقصى ولا الاسراء ولا المعراج.

موضوعنا موضوع وطن عشنا به وندافع عنه . الاقصى التي ندافع عنها هي الاقصى التي بناها المسلمون منذ ١٥٠٠ سنة .كما نرى فيها تاريخنا وهويتنا المسيحية بالقيامة والمهد. هذا تاريخنا المرئي والمعاش. فلا تركبوا علينا تاريخ متخيل يبنون تحته انفاقا ومن حوله ابنية مهما زيفوا بها وغيروا وحرفوا من مسار التاريخ لمصلحتهم وصفقوا لأصوات تردد مقولاتهم ، فإن هذه الارض باقية وصامدة بهويتها الوطنية القومية الواضحة : فلسطينية بأهلها…. المسيحيين والمسلمين واليهود الرافضين للصهيونية كوطن.

كاتبة من القدس

الفيديو

تابعونا على الفيس