هل يعقل ان يتم التعامل مع من نطح الحاكم الفرنسي لمدينة أكجوجت برأسه منتصرا للزعيم حرمة ولد ببانه رحمه الله و صرخ في وجه اول رئيس للبلد محتجا علي هجوم التحالف الفرنسي الاسباني ضد مخيم اهل الشيخ ماء العينين بنفس الأسلوب الذي تعامل به مختلف الأحكام مع الطبقة السياسية مذ انقلاب يوليو 1978 ؟ لعل الجواب بلا هو ما جربه علي حسابه اكثر من رئيس و مسؤول حكومي سامي لموريتانيا . و الأكيد ان اهم ما سيمكث في ذهن القارئ لمذكرات الوجه البارز في المشهد الوطني السيد بمب بن سيدي بادي, اطال الله بقاءه , هو الشعور بان الرجل خلق من طينة العظماء الذين لا يقبلون الاذلال مهما كلفهم من ثمن لتضحيتهم . فخلافا لجمهور الساسة الذي سار علي مذهب الولاء و الطاعة و المجاملات طبقا لقاعدة موضوعة مفادها ان التذلل عند الحاجة عبادة ( و هنا لا أبرئ نفسي ) تميز المعارض التاريخي الذي استحق اللقب قبل نشأة المعارضة التاريخية في عقد التسعينيات بقول ما يراه حقا عملا بالمقولة الشهيرة التي تنسب الي ابن عمه وصديقه الزعيم بوياكٌي .
من الواضح جدا ان الرجل العصامي الذي صلبته النكبات والماسي لما قاسي من مرارة الفقر و لوعة الموت الجماعي لأفراد اسرته و ألم المرض الذي ادي الي اعلان خاطئ لوفاته كابد الحياة بثبات المؤمن بعدم الزامية الذل فيها بعد ان وقف علي فرضية الموت ,, كما تعامل معها في وقت مبكر بالصبر الجميل و بالتجرد من خشية المخلوقات و بصمود بقية المصيبة التي تلخصها مقولة الحي يرجي ,,,
و من الواضح أيضا ان المصداقية بل الصدق في القول والعمل يبقي اهم عنوان للسرد الممتع لمسار مكتظ بتراكم الاحداث الأساسية في حياة موريتانيا و لذلك تتعين الإشادة بنشر مثل هذه المذكرات التي جاء ت لتكمل او لتصحح أحيانا ما ورد في مذكرات اخري بروايات مختلفة ,,
و في هذا المضمار لا يسعني الا ان اعترف شخصيا بتصحيح لمعلومات جمعتها عن الزعيم الوطني حسن الذكر بوياكٌي رحمه الله الذي كان ولا يزال يشكل مركز اهتمامي مذ عهد الطفولة حيث كانت لفظة ’’الزعيم’’ تترد كثيرا بمسامعي و علي وجه الخصوص مذ أيام السلك الاعدادي حيث ربطتني مع نجله الأصغر أعلي رحمه الله علاقة ودية ,,قوامها لعبة الشطرنج بالمركز الثقافي السوفيتي ,, , ,, فقبل قراءة المذكرات المذكورة أنفا لم اكن لأصدق الشائعات المتعلقة بضلوع الزعيم في محاولة انقلابية مع ان الانقلابات كانت وقتها من الأمور المعهودة في تغيير الأنظمة السياسية خصوصا انها كانت حينها مدعومة من توجه افريقي مناهض للاستعمار الجديد لكن المعلومة التي فاجأتني اكثر تتعلق بضلوع رفاق الدرب من جماعة اهل النهضة المنحدرين من مدينة اطار في التصفية السياسية للزعيم بوياكٌي و ذلك في ما يبدو من المكر السياسي المسكوت عنه في الصورة الوردية التي تشكلت بذهني حول النهضة الوطنية
, ,, لقد استطاع الريس المختار ولد داده رحمه الله بذكائه الفائق استخدام رموز التحرر النهضوي ضد زعيمهم و لعل ذلك ما يفسر علاقته القوية بنخبة المدينة التي عرف أهلها قبل الاستقلال و عرف كيف يوظفهم في سبيل توطيد حكمه ,, و من ذلك ما حدثني به بعض كبار المدركين اطال الله بقاءه بانه بعيد الاجتماع التأسيسي لموريتانيا الذي تم عقده في اطار ذهب ضمن وفد من شباب النهضة الي منزل الوجيه احمد ولد كركوب رحمه الله بغية استفهامه حول الطبخة السياسية التي كانت قيد الاعداد فأجابهم بما مفاده انه لمس لدي الفرنسيين عدم الوضوح لانهم يسعون الي ان ينصبوا علينا زاويا او كما قال ’’ امرابط من اهل بوتلميت ’’ ,, و قد تم نقل المعلومة ساخنة الي الأستاذ المختار ولد داداه فاستغلها بذكاء و قرر تنصيب الأمير عيده كوالي لأدرار و هو الامر الذي قبله احمد ولد كركوب رحم الله الجميع ,, و قد أورد الرئيس المختار هذا التعيين الاستثنائي لقاعدة تعيين الولاة من غير المنحدرين من الولاية المعنية في مذكراته مبررا الامر بصعوبة التعامل مع ’’ محاربي ادرار’’,,,, الامر الذي يؤكد رواية محدثي ,,,,
في مثل هذه الظروف التي صاحبت الولادة العويصة للدولة الموريتانية سلك السيد بمب طريق الشرعية الناشئة مع تمسكه بنهج التعددية السياسية الذي بدت ملامح وأده تحت غطاء الحفاظ علي الوحدة الوطنية بادية للعيان و قد لعب إضافة الي إنجازاته الكبرى بالمجال الاقتصادي خصوصا عبر انشاء شبكة وطنية للنقل ثم و كذلك تميزه في بناء المنشآت الأساسية دورا بارزا في الميدان السياسي فصار بجمعه بين عالمي المال والسياسة شخصية استثنائية في حين كانت السلطة تسعي الي الفصل التام بين جمع المال و تولي الشأن العام و كان التجار ينظرون الي الدولة بعيون الريبة ,,,
و بديهي ان ذلك الواقع تغير جذريا حيث ان العمل السياسي ارتبط فيما بعد براس المال في علاقة شائكة ما زالت الي يومنا هذا من الإشكاليات التي يتعين حسمها بضوابط متفق عليها حيث انه لا يمكن نظريا منع التجار من استخدام نفوذهم لمعارضة النظام القائم و لكن السلطة مهما كانت طبيعتها لن تقبل بسهولة ان يتم استخدام المال ضدها ,, و لعل التصرف اللين لحكم الأستاذ المختار ولد داداه تجاه كبار التجار المناهضين له ناجم بالإضافة الي كياسته الشخصية عن الحاجة الماسة حينها الي استثمارهم في ظرف كانت الموارد الوطنية شحيحة الي حد الغاية ,,, و قد ولي ذلك الزمان و اندثرت اخلاقه ,,,,
و بالجملة كثيرة هي المواضيع المثارة في مذكرات رجل الاعمال و السياسي السيد بمب ولد سيد ي بادي و قد لا يتسع المقام لذكرها كما لا يتسع للوقوف علي مختلف المحطات التاريخية التي تضمنتها و ربما تستدعي كل هذه المواضيع و المحطات اكثر من مقال بل عدة حلقات من البحوث و النقاش ,, لذلك سأركز إضافة لما سبق ذكره علي بعض النقاط مع لزوم ما يلزم من واجب التحفظ ,,
و لعل من النقاط التي قد تبدو هامشية نقطة تتعلق بتوظيف الدين في الصراعات السياسية بين الأهالي حيث قام الناشطون الموالون للزعيم حرمه بن ببانه في ولاية اينشيري بإصدار ’ اول فتوي سياسية ’’ في معترك انتخابي تتصارع فيه فئتان من الموريتانيين المؤمنين ,, و تشكل تلك الفتوي التي وقعها علماء من مجموعة ’’ اهل محمد سالم ’’ الاهلية, رغم ما يعرف من ورع لدي موقعيها , اشكالا يتمثل في إسقاط النصوص الفقهية علي حسابات سياسية معقدة و هنا تجدر الإشارة الي ان تصرف الإدارة الفرنسية التي عاقبت حاكم اكٌجوجت لتدخله لصالح المرشح سيدي المختار ولد يحي انجاي رحمه الله بالانتخابات طبقا لما ورد في مذكرات السيد بممب ولد سيد بادي يؤكد ضمنيا ما ذهب اليه الأستاذ المختار ولد
داداه في مذكراته حين قال ’’ ان الإدارة الفرنسية تواطأت مع الزعيم حرمه ’’ و الحقيقة ان صراعات سياسية بين الحكم المركزي في باريس و الإدارة الإقليمية في دكار كانت وراء تناقض مواقف السلطة الاستعمارية بخصوص تلك الانتخابات المحلية و مهما قيل فان اقحام فتاوي الفقهاء في صراع سياسي قد لا يفقهون خلفياته مازال الي يومنا هذا من إشكاليات السياسة في موريتانيا,
و من ضمن الإشكاليات التي ما زالت أيضا تخيم علي عالم السياسة عندنا توجد ما يعرف اصطلاحا بالمسالة الوطنية التي صارت من منتصف عقد الستينيات تطلق علي صراع لغوي نجم عن تناقض المصالح بين نخبتين احداهما فرنكوفونية مشكلة أساسا من اخوتنا المثقفين الزنوج ( كم اكره هذا المصطلح الغريب علينا !! ) تري في التعريب نية مبيته لا قصاءها و اخري تري فيه خيارا وطنيا لا ينكر ضرورته الا عميل دخيل علي المجتمع الموريتاني و قد تم زج السيد بمب بن سيد بادي في السجن رغم براءته من احداث 66 الأليمة لسبب علاقته بالزعيم بوياكٌي و نتيجة لدفاعه عن القومية العربية و بذلك صاحب في مساره التيار التأسيسي للحركة الوطنية الديمقراطية التي ولدت من رحم سجن انبيكه ,,, لقد اعجبني الموقف الذي عبر عنه بصراحته المعهودة حين قال ان تعلقه بالعروبة منعه من قبول حجج الاخوة الزنوج ( لكور) الرافضة للتعريب ,, و كيف لا و هو الصادق مع هويته الذي صدح بقومتيه العربية و بإعجابه بعبد الناصر أيام العدوان الثلاثي علي مصر ؟
يبقي انه إضافة الي هذه العروبة السياسية تحدث الكاتب بين السطور عن عروبة من نوع اخر لا شك في شهامتها تطلق عندنا بغض النظر عن الخلاف حول الانساب علي ’’ حملة السلاح ’’ لتميزهم عن الزوايا الذين تفرغوا للعلم في تقاسم اجتماعي للأدوار و قد طغي الصراع بين الفيتين في المشهد السياسي مذ عهد فرق تسد الاستعماري ولا زالت حتي البوم مخلفاته قائمة في بعض الاذهان في الوقت الذي تجاوزه الزمان حيث ان حراكا سياسيا من فئات صاعدة يطالب بأصوات متصاعدة بإنهاء احتكار السلطة السياسية من طرف الفئتين في مشهد دراماتيكي لا سبيل للخلاص منه الا بواسطة توطيد دولة القانون والمؤسسات من طرف أجيال المستقبل ,,,
و يبقي ان المراهنة علي المستقبل بواسطة معارضة جسدها الكاتب بسلوكه المتميز و بفعله الدؤوب للخير , جزاه الله خيرا , تتطلب قراءة جديدة متجددة للمشهد السياسي تجمع بين التمرد البناء الذي طبع مسار صاحب المذكرات بوصفه اليوم , اطال الله بقاءه, اكبر معارض تاريخي و طول النفس الذي طالما افتقدته المعارضة التاريخية حيث انها استعجلت اكثره من مره الوصول الي السلطة مرتكبة الأخطاء التي استغلتها الأنظمة القائمة من موقف القوة ,, و من أخطاء التقييم السياسي التاريخي هو الاعتقاد ان الإطاحة العسكرية بالنظام المدني سنة 78 كانت خطا لا يغتفر فمعلوم ان الحكم حينها كان لقطة ,,, و كان حكمه من ضاع له شيء؟ و من أخطاء التقييم السياسي كذلك الاعتقاد بان القوي الأجنبية تقف حتما وراء انقلابات الجيش علي السلطة فالانقلاب لا يمكن ان ينجح الا اذا كانت توجد ظروف داخليه تبرره بل تدعمه و معلوم ان دعم السلطة المتغلبة لا زال , شئنا ام ابينا , من اهم ميزات الطبقة السياسية الموريتانية و ان المعارضة التاريخية كثيرا ما خسرت حين حاولت منافسة السلطة في استخدام الأوساط القبلية كما حصل مذ انطلاقة المسلسل الديمقراطي في بداية التسعينيات طبقا لما أورده السيد بمب ولد سيد بادي في مذكراته و عليه فان الشباب المورتاني الذي يطمح الي ترسيخ الديمقراطية في المستقبل مطالب بالتحرر من تلك المسلكيات,,, و يبقي الطموح الي الرئاسة في نهاية المطاف غاية شخصية قد لا يوفق طالبها في نيلها ,, و عسي ان يكون ذلك خيرا له طبقا لرغبة والدة الكاتب ميمونة منت ارحيل رحمها الله الصالحة المعروفة بالإحسان والكرم التي لم ترد لأبنها ’’ ان يأتي يوم القيامة مطالبا بحق انسان واحد و كيف بحقوق كل الموريتانيين؟
,,,,, عبد القادر ولد محمد