إثارة جديدة لقضية ولد بوعماتو و ولد عبد العزيز

أربعاء, 12/06/2017 - 18:06

لم يعهد التاريخ السياسي الحديث في موريتانيا صراعَ رجال الأعمال مع السلطة، لكن المفارقة أن الحالات النادرة التي وقعت من هذا الصراع كانت صاخبة وعنيفة، وأبرز مثال على ذلك –إن لم يكن المثال الوحيد- صراع رجل الأعمال حابه ولد محمد فال مع نظام الرئيس الأسبق المقدم محمد خونه ولد هيدالة؛ وما قاد إليه من مصادرة ذلك النظام  لأموال حابه ودعم الأخير لأحلاف المعارضة السياسية والعسكرية التي تشكلت في المنفى، وسعت لإسقاط النظام بالقوة عبر محاولة انقلاب فاشلة وقعت في 16 مارس 1981 ونفذها كوماندوز انطلق من المغرب مرورا بالسنغال.

يعين استحضار هذه الخلفية التاريخية على فهم أعمق لحقيقة الأزمة الناشبة حاليا بين نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز وبين ابن عمه وحليفه السابق رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو التي وصلت إلى حد فتح ملف قضائي ضد ولد بوعماتو وعدد من حلفائه الحقيقيين أو المفترضين، وفي المقابل يقوم ولد بوعماتو و حلفاؤه بجهود حثيثة لإسقاط النظام، سياسيا على الأقل.

 تتشابه هاتان الأزمتان في كثير من جوانبهما رغم اختلاف المناخ السياسي بين الفترتين، ومن مظاهر هذا التشابه:

-          تداخلهما مع أزمات دبلوماسية في الخارج وأزمات سياسية في الداخل.

-          سعي النظامين إلى تقديم موقفهما على أنه تصحيح لـ"تجاوزات اقتصادية" لرجل أعمال، و سعي رجلي الأعمال إلى إظهار موقفهما على أنه جزء من الفعل المعارض لـ"نظام جائر".

ويحيل  هذا التشابه  إلى السبب العميق لهاتين الأزمتين؛ ألا وهو أن العلاقة بين رجال الأعمال وبين  السلطة في موريتانيا تحكمها تفاهمات وأعراف غير منطوقة تعد من ثوابت الحياة السياسية التي قد تتأثر مع بالمتغيرات ولكنها لا تخضع لها كليا.

بموجب هذا "الميثاق العرفي" يحدد لكل من الطرفين مجال وجود ونفوذ، وأي سعي من طرف إلى تجاوز مجاله يثير ردة فعل الطرف الآخر، سواء كان بسعي رجال السلطة إلى ولوج ميدان المال أو طموح رجال الأعمال إلى صولجان السلطة.

 

في هذه الورقة نتوقف مع الأزمة الحالية وما أظهرته من تصدع في علاقة المنظومة الحاكمة في موريتانيا، وذلك من خلال استعراض التطورات التي مرت بها هذه الأزمة منذ نشوبها قبل نحو سبع سنوات، ثم التوقف مع أوراق التأثير التي يمتلكها الطرفان، وأخيرا استشراف سيناريوهات تطورها 

 

أولا: مسار الأزمة

من تحالف وتقريب، إلى تأزم ومتابعة: انتقلت علاقة رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو بنظام ولد عبد العزيز فهو ساند انقلاب 2008 وكان له دور معتبر في المنافحة عنه في المحافل الدولية ثم دعم ولد عبد العزيز ماليا وسياسيا في رئاسيات 2009، لكن سرعان ما دب الخلاف بينهما بعد أن تمكنهما من هزيمة المعارضة، لأسباب لم يكشف الطرفان خفاياها وإن كان من الواضح أنها تدور حول فهم كل منهما لطبيعة الشراكة التي جمعتهما وموقع الآخر فيها

 

وعقب وقوع هذا الخلاف انتقل ولد بوعماتو إلى الإقامة في مدينة مراكش المغربية بشكل دائم دون أن يعلن عن أسباب ذلك، غير أنه سيتضح لاحقا أن السبب الرئيسي لهذا "المنفى الاختياري" هو خلافه مع النظام.

 ومنذ ذلك الحين بدأت "حرب إعلامية" بين الطرفين، فقد كانت وسائل الإعلام المقربة من ولد بوعماتو تنشر أخبار إقامته في المغرب لإبلاغ الرأي العام باحتجاجه على النظام، في حين كانت تلك المقربة من الحكومة تنشرها للإيحاء بارتباطه بدولة خارجية والتنسيق معها في ما يضر البلد.

 

وفي الأشهر الأولى من 2012 راجت  أخبار عن تحالف سياسي بين ولد بوعماتو وبعض الأطراف المعارضة لولد عبد العزيز مثل رجل الأعمال المصطفى ولد الشافعي والرئيس الراحل اعلي ولد محمد فال، وهنا أيضا لعب الإعلام دورا مزدوجا في استغلال –وأحيانا اختلاق- هذه الأخبار (مثلا تناقلت بعض المواقع الموالية لولد عبد العزيز في 10 أكتوبر 2012 منشورا يهاجم  تحالف اعلي و بوعماتو القائم على "الارتباط بالدوائر الصهيونية" وفق وصف المنشور غير الموقع).

 

و في الأشهر الأولى من سنة  2013 تفجرت الأزمة بين الطرفين لأول مرة، ولكن من البوابة الاقتصادية والمالية فبرزت في آن واحد عدة ملفات خلافية عميقة بين أجهزة الدولة وبين مؤسسات تابعة لولد بوعماتو:

·        ملف بين مصالح  وزارة المالية  الموريتانية ومؤسسات يملكها –أو يشترك فيها- ولد بوعماتو حول ضرائب بقيمة 4 مليارات أوقية طالبت إدارة الضرائب بتسديدها، واعتبرتها هذه المؤسسات مجحفة بها.

·        ملف بين  البنك المركزي الموريتاني والبنك العام لموريتانيا المملوك لولد بوعماتو بعد إرسال الأول بعثة تفتيش إلى الأخير بحجة التهرب الضريبي واتخاذه  قرارا بوضع اليد عليه و ردِّ  ولد بوعماتو على هذا القرار بإعلان إغلاق أبواب البنك في بيان شديد اللهجة حمل عنوان "إعلان مقاومة"

·        ملف حول شركة الخطوط الجوية "موريتانيا أرويز" اعتقل في إطاره محمد ولد الدباغ مدير أعمال ولد بوعماتو، بتهمة تفليس الشركة المملوكة  لكل من الدولة الموريتانية و ولد بوعماتو وخصوصيين تونسيين.

لكن هذه  الملفات المتباينة –التي شغلت الرأي العام لعدة أشهر- سُويت في وقت متزامن وكأنها مجرد أوراق في ملف واحد؛  ففي التاسع من مايو 2013 أطلق سراح ولد الدباغ –المتابع في قضية شركة الخطوط الجوية- بعد ساعات من إعلان البنك العام لموريتانيا فتح أبوابه بعد تسوية الخلاف بينه وبين البنك المركزي.

 

بعد ذلك عادت العلاقة بين الطرفين إلى التأزم الصامت قبل أن تتحول إلى أزمة صاخبة  في العام الحالي (2017 ) عقب عدة أحداث متتابعة يمكن إجمالها على النحو التالي:

-         قيام شخصيات من حلف ولد بوعماتو –إن لم يكن هو شخصيا- بلعب دور مؤثر في إسقاط مجلس الشيوخ في مارس الماضي  مشروعَ التعديلات الدستورية الذي كان الرئيس يسعى لإقراره عبر البرلمان.

-         مصادرة الشرطة في مايو الماضي لكمبيوتر محمد ولد الدباغ مدير أعمال ولد بوعماتو، حين كان يهم بمغادرة البلاد عن طريق معبر روصو على نهر السنغال.

-         مصادرة الدرك في نفس الشهر لهواتف السيناتور محمد ولد غدة، الذراع السياسي لولد بوعماتو وأحد الشيوخ الذين قادوا مساعي إسقاط التعديلات، عقب تعرضه لحادث سير توفي فيه أشخاص، وقد سربت السلطة تسجيلات صوتية من هواتف ولد غدة توحي بوجود دور لولد بوعماتو في حمل الشيوخ على التصويت ضد التعديلات، وقيام ولد غدة بتشجيع الاحتجاجات العنيفة التي قام بها الناقلون فاتح مايو الماضي ضد قانون السير الذي كانت الحكومة تنوي تطبيقه ابتداء من ذلك التاريخ.

-         بث السيناتور ولد غدة في 3 أغسطس على صفحته في فيسبوك لتسجيل يشكك فيه عسكري سابق، وشاهد عيان على جانب من قصة إصابة الرئيس ولد عبد العزيز في حادثة الرصاصة المشهورة، في الرواية الرسمية للحادثة.

-         اعتقال السلطات لولد غدة بتاريخ 10 أغسطس وإصدارها في فاتح سبتمبر لمذكرة اعتقال دولية ضد ولد بوعماتو في إطار ملف قضائي شمل بالإضافة لهما أعضاء في مجلس الشيوخ السابق وقادة نقابيين وصحفيين والعسكري المذكور بتهم تتعلق بتقديم وتلقي الرشوة.

 

ثانيا: أوراق التأثير

قبل الانتقال للحديث عن مستقبل هذه الأزمة سيكون مناسبا لتعرف على أوراق التأثير التي يمكن لكل من الطرفين استعمالها ضد الآخر في هذا الصراع الذي يبدو أنه يتفاقم مع الوقت، وفي ما يلي وقوف سريع مع عناصر التأثير لكلا الطرفين على حدة.

 

أ: أوراق النظام

من نافلة القول الحديث عن عناصر القوة التي يمتلكها الرئيس ولد عبد العزيز بحكم مكانته كرئيس للدولة وقائد لنظام سياسي له أذرعه الحزبية والإعلامية والشعبية، لاسيما إذا تذكرنا التداخل الحاصل بين الدولة وبين النظام السياسي الحاكم في البلدان المشابهة لوضعية موريتانيا، لذلك فإننا لن نتوقف عند استعراض جميع أوراق التأثير التي يمتلكها نظام ولد عبد العزيز في صراعه السياسي مع ولد بوعماتو وإنما سنكتفي بأبرزها وأكثرها قوة

 

    1-  المنع من السند الخارجي

من الأوراق التي قد يستغلها النظام الموريتاني ضد ولد بوعماتو السعي لإقناع الأطراف الخارجية  التي وفرت –أو قد توفر- نوعا من الاحتضان له أو لحلفائه بإنهاء هذا الاحتضان أو التخفيف منه.

وتأتي في مقدمة هذه الأطراف المملكة المغربية التي توفر "إقامة سياسية" مريحة لولد بوعماتو ومزعجة للنظام الموريتاني، ويجمع المحللون الموريتانيون والمغاربة على أن إقامة ولد بوعماتو في المغرب كانت من أسباب الفتور الشديد في علاقات البلدين الذي وصل إلى درجة عدم تعيين موريتانيا لسفير لها في الرباط منذ خمس سنوات.

 

ومع صعوبة تأثير موريتانيا على قرار المغرب باستضافة ولد بوعماتو في ظل فتور علاقات البلدين على هذا النحو، إلا أن اتخاذ موريتانيا لقرارات من قبيل التحالف الاستراتيجي مع الجزائر قد يدفع المغرب للتفكير في ثمن استضافتها لولد بوعماتو خاصة بعد إصدار القضاء الموريتاني مذكرة  توقيف ضده

 

وإذا صح الخبر -الذي نقلته وسائل إعلام موريتانية عن مسؤول موريتاني لم تسمه- بخصوص طلب المغرب من ولد بوعماتو مغادرة أراضيها، فهو مؤشر على إمكانية تأثير رفع مستوى التحالف الموريتاني الجزائري على موقف المغرب من "احتضان" ولد بوعماتو؛ فهذا الخبر جاء بعد أسابيع من بدء موريتانيا والجزائر في إجراءات فتح معبر بري بينهما و تجدد الحديث عن إنشاء طريق يربط البلدين، وهذه الخطوات إن تمت على النحو الذي تطمح له الجزائر فسيمكنها ذلك من منافسة المغرب في أسواق غرب القارة الإفريقية.

 

وبالإضافة إلى المغرب تأتي السنغال كدولة مجاورة يسعى  النظام الموريتاني لضمان حيادها في الخلاف بينه وبين ولد بوعماتو، ومع أن السنغال لم يسبق لها أن اتخذت موقفا مساندا لولد بوعماتو، إلا أن العاصمة السنغالية احتضنت أكثر من مرة أنشطة سياسية وحقوقية لشخصيات في المعارضة الموريتانية يجمعها حاليا حلف استراتيجي مع ولد بوعماتو.

غير أن امتلاك موريتانيا لأوراق ضغط اقتصادية قوية ضد نظام ماكي صال تضعف قدرة السنغال على الاستمرار في السماح بهذه النشاطات، على الأقل بالزخم المتنامي الذي يسعى له حلف المعارضة الخارجية، وعلى سبيل المثال: ألغت منظمات حقوقية سنغالية بضغط من حكومتها مؤتمرا صحفيا عن وضعية حقوق الإنسان في موريتانيا كانت ستنظمه نهاية سبتمبر الماضي.

 

2-  الحرمان من  حلفاء الداخل

لعل أكثر ما يحتاجه ولد بوعماتو في صراعه مع النظام وجود ممثلين سياسيين وحلفاء له في الداخل يستثمرون ضغطه على النظام في مكاسب واضحة، من هنا فإن النظام يمتلك ورقة تأثير قوية على ولد بوعماتو من خلال حرمانه من هذا الظهير، وهذه الورقة السياسية يمكن للنظام استغلالها إلى أبعد مدى وهو أمر ظهر بعضه جليا ويمكن أن يكون بعضه الآخر يتم بطرق غير ظاهرة، ومن الأساليب التي يمتلكها النظام في هذا الإطار:

-         إيقاف أو متابعة  الممثلين السياسيين لولد بوعماتو

-          مضايقة الحلفاء التقليديين لولد بوعماتو من رجال الإعلام والسياسة والمجتمع

-         الحيلولة بين تحالف ولد بوعماتو مع معارضة الداخل ممثلة في المنتدى، من خلال إشغالها بالدعوة  إلى الحوار أو المشاركة في الانتخابات أو تعزيز الطرح السائد لدى بعض أطرافها بأن هذا الصراع خلاف داخل بيت سياسي واجتماعي واحد  لا يعني المعارضة التقليدية.

-         قطع الطريق أمام أي اتصال قد يتم بين ولد بوعماتو والشخصيات الاجتماعية أو السياسية المؤثرة في البلد من خلال تصنيف الاتصال به على أنه "جريمة سياسية" ضد النظام.

 

3- المتابعة القضائية:

لعل من المناسب قبل الخوض في الحديث عن هذه الورقة الإشارة إلى أن حديثنا هذا لا يعني إثباتا –ولا نفيا- لعدم استقلال القضاء الموريتاني، ولا نفيا –أو إثباتا- لبراءة ولد بوعماتو من التهم الموجهة إليه، فما نقصده هو أن ارتباط فتح ملفات قضائية ضد ولد بوعماتو بلحظات اشتداد الأزمة بين وبين النظام مؤشر على استخدام النظام لهذه الملفات للضغط السياسي على ولد بوعماتو.

و بالنسبة لتأثير هذه الورقة تمكن الإشارة إلى أن فتح ملف سابق ضد ولد بوعماتو بعنوان الجرائم الاقتصادية أدى حينها (2013) إلى توافق سريع على إيقاف تصعيد الأزمة ولكن دون حلها كليا.

كما تمكن ملاحظة ثنائية الشد والجذب التي يدير بها نظام ولد عبد العزيز الملف الحالي المفتوح ضد الرجل بتهمة الرشوة، فهناك  تصعيد قوي من خلال:

-          إصدار مذكرة اعتقال ضد ولد بوعماتو شخصيا

-          سجن أحد حلفائه المقربين (ولد غدة)

-         متابعة عدد من الرموز المجتمعية لأسباب تعود في جوهرها لإحساس السلطة بوجود علاقة بينه وبينهم.

-          اتهام مؤسساته بالمشاركة في تقديم الرشوة وما يعنيه ذلك من إمكانية اتخاذ عقوبات اقتصادية ضدها

 

غير أنه إلى جانب هذه العناصر الدالة على تصعيد السلطة في المتابعة القضائية هناك عناصر أخرى تدل على ترك الباب مواربا لأي تسوية ممكنة، ومن ذلك:

-         التباطؤ في تحريك الملف (فتح في شهر أغسطس ولا يزال حتى الآن عند قاضي التحقيق)

-          عدم متابعة السلطة لمذكرة الاعتقال الدولية التي أصدرتها في حق ولد بوعماتو.

 

أ: أوراق بوعماتو

يتمتع ولد بوعماتو بعلاقات اقتصادية وسياسية مع أطراف فاعلة في المشهد الموريتاني،ويحظى بمكانة خاصة في الساحة المحلية بناها خلال عدة عقود عبر شراكاته الاقتصادية واستثماره في بناء لوبي مرتبط به من النخبة البيروقراطية والإعلامية والسياسية وهذا ما يتيح له حاليا –نظريا على الأقل- استخدام عدة أوراق ضد نظام ولد عبد العزيز، ومن هذه الأوراق:

 

  1:  استمالة أطراف من النظام

نظرا لكون رجل الأعمال ولد بوعماتو هي في النهاية ابن الدولة والمجتمع العميقين في موريتانيا ونظرا للعلاقات التي تربطه بكثير من رجالات الدولة من سياسيين وإداريين، فإن بإمكانه استمالة بعض هؤلاء للوقوف في صفه، ويمكن أن يلجأ ولد بوعماتو في هذا الصدد إلى طريقتين:

-         طريقة ظاهرة تركز على استمالة الشخصيات العامة للاستفادة منها في المعارك السياسية والإعلامية

-         طريقة خفية تركز على استمالة رجال الدولة العميقة للحصول على أسرار النظام أو دفعه إلى سياسات مضرة به

و مع نجاعة هذه الورقة في حال تمكن ولد بوعماتو منها، إلا أن قدرته الفعلية عليها تظل محل شك؛ نظرا لتخوف هذه الأطراف من ردة فعل النظام حين يكتشف تعاملهم مع خصمه اللدود، خاصة بعد أن استطاع النظام الحصول على أسرار الشخصيات السياسية والمالية المقربة من ولد بوعماتو ودورها في استمالة المناصرين.

 

2:-  السعي لكسب القوى الدولية

عادة ما تنظر الأطراف الدولية المؤثرة في موريتانيا إلى أي صراع داخل المنظومة الحاكمة نظرة براجماتية تهتم بانتزاع الوعود من الطرفين بتحقيق مصالحها، لذلك قد يسعى ولد بوعماتو إلى هذه الأطراف ليطلب منها الدعم مقابل الاستجابة لمطالبها.

فمثلا ظلت فرنسا تطالب الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز بالمشاركة  في الحرب التي تشنها ضد الجماعات المسلحة في شمال مالي، لكن ولد عبد العزيز لم يحقق لها هذا المطلب وظل يرفض –حتى الآن- بصراحة أو بمناورة كل الصيغ التي عرضت عليه لنشر قوات موريتانية هناك، بما في ذلك "القوة المشتركة لدول الساحل" التي تناقلت وسائل الإعلامفي اكتوبر الماضي إعلان الأمم المتحدة أن موريتانيا لم تقم بما يلزم للمشاركة فيها.

من هنا يظل من الوارد أن يسعى حلف ولد بوعماتو إلى استمالة فرنسا لصالحه من خلال قطع وعود بالدخول في الحرب الإقليمية ضد الجماعات المسلحة، خاصة إذا افترضنا سعي هذا الحلف لترشيح ولد بوعماتو أو شخصية مقربة منه  في رئاسيات 2019 وهو أمر غير مستبعد حتى لو لم تظهر دلائل واضحة عليه حتى الآن.

 

3:  السعي لكسب المحيط القبلي

باعتبار انتماء الرجلين لمحيط قبلي واحد فإن ولد بوعماتو يمتلك جزء من الورقة القبلية يمكنه استخدامها ضد ولد عبد العزيز، ولا يقف الأمر عند الشخصيات التي عارضت ولد عبد العزيز لأسبابها الخاصة (كما هو حال ولد غدة مثلا) بل إن ولد بوعماتو سيركز على كسب دعم أقارب الرئيس الذين ظلوا جزء من نظامه منذ وصوله للسلطة سواء وقع ذلك الدعم داخل الحيز القبلي أو خرج إلى الرأي العام.

وقد  كسب ولد بوعماتو بالفعل شخصيات قبلية، لها موقع مؤثر في المنظومة الحاكمة في موريتانيا، كما هو حال رئيس اتحاد أرباب العمل أحمد باب ولد اعزيزي الذي وصفته مجلة جون آفريك بأنه يخوض حربا باردة مع نظام ولد عبد العزيز.

غير أن أهم موقف حصل عليه ولد بوعماتو هو موقف رجل الأعمال البارز والشخصية السياسية المخضرمة اعزيزي ولد المامي الذي نشر في أغسطس الماضي مقالا مطولا تحت عنوان "إلى أين نحن متجهون" انتقد فيه توجهات النظام و خاصة موقفه تجاه ولد بوعماتو، وكان لافتا اختيار تاريخ نشر المقال أثناء الحملة الانتخابية للاستفتاء الدستوري التي ألقت الحكومة بثقلها فيها.

 

الأزمة إلي أين؟

لعله من المناسب، بعد استعراض ماضي هذه الأزمة السياسية والوقوف مع عناصر قوة طرفيها، أن ننتقل تاليا إلى محاولة استقراء السيناريوهات المستقبلية لها، والتي يمكن حصرها في  ثلاثة :

 

أ: سيناريو  التسوية  وجنوح الطرفين إلى حل خلافهما -أو تأجيله على الأقل على غرار ما وقع في أزمة 2013- وهو خيار قد يدفع إليه بعض الأطراف التي تجمعها مع الرجلين منظومة واحدة، إذا  رأت في تصاعد خلافهما إضعافا للجبهة الداخلية، كما يعززه حاجة كلا الطرفين للتفرغ لانشغالاتهما السياسية الملحة:

-          فولد عبد العزيز ونظامه بحاجة للتفرغ لتنزيل التحولات السياسية والإدارية الناجمة عن التعديل الدستوري الأخير، وعلى رأسها المجالس الجهوية التي هي تجربة جديدة تحتاج الكثير من الجهد لترسيخها في جو هادئ

-         بدوره يحتاج ولد بوعماتو للتفرغ لبناء حلف سياسي متماسك وموسع، يترجم عناصر قوته في مكاسب سياسية وشعبية على الأرض، بما في ذلك التخطيط المحكم للمشاركة  في الاستحقاقات الانتخابية المتعددة التي ستنظم في العشرين شهرا المقبلة (جهوية وبلدية وبرلمانية ورئاسية)

 

وإلى جانب هذه الدوافع  يبقى السؤال: كيف يتم تحقيق الخطوات الضرورية لحلحة الأزمة  وفي مقدمتها إيقاف المتابعة  القضائية ضد ولد بوعماتو وحلفائه و إطلاق سراح ولد غدة، فإغلاق هذا الملف قد يسبب خلافا في وجه أي تسوية؛ إذ سينظر له حلف ولد بوعماتو على أنه شرط مسبق لأي تفاوض، وبالمقابل قد يرى نظام ولد عبد العزيز أنه الثمن الوحيد المستعد لدفعه لحل الخلاف.

 

ب: سيناريو المراوحة: وبقاء الأزمة عند السقف الذي وصلت إليه الآن، وخاصة استمرار الحكومة في المتابعة القضائية لولد بوعماتو وحلفائه دون الوصول لإصدار أحكام إدانة، ومقابل ذلك استمرار ولد بوعماتو في حصر جهوده ضد النظام في إطار استمالة بعض أنصاره، والعمل معهم على  إرباك مشاريع الحكومة على نحو ما جرى في إسقاط الدستور (يتفق كل من الحكومة وحلف ولد بوعماتو على دور هذا الحلف في إسقاط الدستور، ولكنما يختلفان في تصنيف الطريقة التي تم بها هذا العمل)

 

ويدعم هذا السيناريو إحساس نظام ولد عبد العزيز  ب"الخطورة السياسية" التي أصبح يمثلها ولد بوعماتو، وضرورة التعامل معه بحنكة تجمع بين الحسم والحذر، وأن ذلك يتحقق من خلال إبقاء السيف القضائي مرفوعا في وجهه، كما أن حلف ولد بوعماتو ربما رأى أن الأسلوب الذي استخدمه في إسقاط الدستور يظل هو الأنجع في المرحلة الحالية.

 

ج: سيناريو التفاقم  ووصول الأزمة إلى مراحل المتقدمة مثل إصدار القضاء لأحكام إدانة ضد ولد بوعماتو ومؤسساته وحلفائه، أو سعي الحلف المساند لولد بوعماتو لتشجيع أو افتعال احتجاجات شعبية في العاصمة أو مدن الداخل

 

ومع أن المؤشرات الظاهرة توحي بعدم رغبة الطرفين في هذا  السيناريو أو وجود موانع تمنعهما منه إلا أنه  مع ذلك يظل مطروحا بسبب حاجة السيناريو الأول  (التسوية) إلى دفع أثمان لا يرغب فيها الطرفان، ولصعوبة المحافظة على السناريو الثاني (بقاء الأزمة عند سقفها الحالي) نظرا للعوامل الدافعة لتوتير الأزمة وفي مقدمها سجن النظام لولد غده.

خاتمة

على مدى المأمورية الأولى للرئيس ولد عبد العزيز وجل مأموريته الثانية التي توشك على الانقضاء عاش ولد بوعماتو لأول مرة مغضوبا عليه من قبل الدولة وهو الذي تعود على الشراكة الاقتصادية معها، و بسبب ذلك اندفع الرجل شيئا فشيئا في الحقل السياسي من هنا يبرز السؤال: هل سينتهي اهتمام ولد بوعماتو بالسياسة عند هذا  الحد أم إن الرجل المعروف بطموحه ستتوق نفسه إلى السلطة؟ وهل سيكون خروج ولد عبد العزيز المفترض من الحكم عند انتهاء مأموريته الأخيرة محفزا على دخوله للمعترك السياسي باعتباره مرشحا لمكون من مكونات نظام ولد عبد العزيز؟ ام سيكون على العكس محفزا على البقاء في ميدان الاقتصاد على اعتبار أن خروج ولد عبد العزيز سينهي الأزمة مع الدولة؟

 

المركز الموريتاني  للدراسات والبحوث الإستراتجية

الفيديو

تابعونا على الفيس