القضية الفلسطينية في الفصل الذي نتحدث عنه الآن وهو الإحالة إلى مجلس الأمن تحتاج إلى خلفية سريعة؛ لأن كل طرف ينظر إليها من منظور مختلف، و"إسرائيل" تعتبر فلسطين ملكاً لليهود تم اغتصابها من جانب الفلسطينيين منذ آلاف السنين، وشاء الله أن يعود الحق لأصحابه عندما صدر قرار التقسيم الذي فسرته "إسرائيل" بأنه اعتراف ولو متأخر بحق اليهود في فلسطين؛ ولذلك تتحدث "إسرائيل" لغتين متناقضتين؛ الأولى تتعلق بالمشروع الصهيوني في صورته النهائية، واللغة الثانية هي استقدام المصطلحات والعبارات التي تستخدمها الدول المتحضرة للمجتمع الدولي، ولذلك يحار الكثيرون في فهم التصرفات "الإسرائيلية"، والمقطوع به أن واشنطن تشترك مع "إسرائيل" في هذين الوجهين، ويعينها على ذلك أن العالم العربي انشغل بما هو عنده أهم من الحقوق الفلسطينية، أو لعله قدم فلسطين لليهود قرباً على مذبح الصداقة العربية الأمريكية؛ ولذلك لا تكترث "إسرائيل" لكل قرارات الأمم المتحدة مادامت واشنطن ظهيراً دائماً لسلوكها.
ترجمت "إسرائيل" هذا الموقف من خلال ثلاثة سياسات؛ الأولى: هي ضم وتهويد الأراضي الفلسطينية والسعي إلى إعلان "إسرائيل" دولة يهودية كاملة دون أن تحدد لها حدوداً؛ لأنها تريد كل فلسطين، السياسة الثانية: هي تغييب اسم فلسطين عن المحافل الدولية، وإبادة شعبها بالقتل والاعتقال والغارات المستمرة؛ لأنها تشعر أنها تمارس في فلسطين عملاً مشروعاً، وأن مشروعية أي عمل هو مصلحتها، السياسة الثالثة: هي إبعاد أي طرف ثالث وخاصة الأمم المتحدة؛ بحجة أن المفوضات هي الطريق الوحيد لتسوية الوضع بين "إسرائيل" والفلسطينيين، وهي تشبه المفاوضات التي يجريها الذئب مع الحمل للاتفاق على أفضل الطرق لالتهامه؛ لأن الفضاء الفلسطيني لا يحتمله "إسرائيل" والفلسطينيون في نظر "إسرائيل"، على الجانب الآخر يقنع الفلسطينيون بالحد الأدنى من الأرض، ولكن في دولة مستقلة، وأن بقية الأراضي ملك لـ"إسرائيل"؛ أي أن المطلوب فلسطينياً هو جلاء "إسرائيل" عن هذا الحد الأدنى، وهذا هو موقف المجتمع الدولي وصيغة حل الدولتين.
وقد أصرت "إسرائيل" كما ذكرنا على المفاوضات التي تعد في نظرها هدفاً في ذاته إلى أن تتمكن من ضم كل الأراضي، وأن تبرم اتفاقية بذلك مع الجانب الفلسطيني بعد أن تمكنت من إبعاد الحضانة العربية عن الفلسطينيين؛ ولهذا يأتي تحرك رئيس السلطة الفلسطينية في مجلس الأمن بتفسيرات متعددة مع علمه التام بأن هدفه لن يتحقق، وأن المجلس لا يمكن أن يهزم المشروع الصهيوني، حيث عبرت واشنطن عن ذلك صراحة بقولها: إن أي قرار من مجلس الأمن لن يلبي احتياجات "إسرائيل"؛ أي لا يتصور أن يصدر قرار يبيح لـ"إسرائيل" استعمار كل فلسطين، أو أن يقرر زوال الاحتلال كما سبق أن قرر المجلس في سوابق عديدة بدءاً بالقرار (242).
ففي الأسبوع الأخير من ديسمبر 2014م قررت السلطة الفلسطينية أن تطلب من مجلس الأمن أن يصدر قرار بإنهاء الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية وهي 22% من فلسطين التاريخية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة خلال مدة لا تتجاوز عامين.
دلالة هذا الطلب واضحة وهي أن "إسرائيل" تصر وفقاً لكل المؤشرات على التهام كل فلسطين، وأن هذا الطلب مهما قيل في مصيره فإنه يدل على عزم الجانب الفلسطيني على أن يوقف النهم "الإسرائيلي" عند حد معين أي أن يفرض الوجود الفلسطيني ولو في أقل من ربع الأراضي الفلسطينية إلى جانب دولة "إسرائيل" وهو اختبار للولايات المتحدة والعالم.
القضية الأولى:
وهي أن الولايات المتحدة قد أوضحت بأنها لا توافق على هذا المنهج، وأنها سوف تحبطه بـ"فيتو" أمريكي في مجلس الأمن؛ وهو ما يثير جوانب أخرى للمسألة، وهي مدى إدراك السلطة الفلسطينية لحقيقة الموقف الأمريكي المتماهي تماماً مع الموقف "الإسرائيلي"، وما الهدف من هذا الطلب إذا كان محكوماً عليه بالفشل؟ هل هو اختبار للإدارة الأمريكية، أم يأس كامل من التفاوض مع "إسرائيل"، أم إدراك مطلق للمشروع الصهيوني، أم محاولة للضغط للحصول على بعض المكاسب المالية والسياسة، أم إظهار السلطة بأنها تتقدم الجميع نحو الأهداف الفلسطينية، أم أنه إبراء للذمة، أم رسالة إلى "حماس" بأن أبا مازن يبني وهي تتسبب في الهدم؟ كل ذلك وارد.
القضية الثانية:
هي المزيد من الشقاق بين "فتح" و"حماس"، ذلك أن "حماس" تعارض معارضة تامة وتتهم أبا مازن بأنه يضيع الحقوق الفلسطينية في هذا الصدد يجب أن نفرق في هذا الاتهام بين مزايا الطلب من الناحية السياسة والقانونية والجانب الفلسطيني عموماً وبين التنازلات التي تقول "حماس": إن أبا مازن قدمها للجانب "الإسرائيلي"، ورغم أنه ليس مفهوماً المقابل الذي تقدم له التنازلات، فإنه من الواضح أن أبا مازن الذي لا يرى أي فرصة لقبول الطلب الفلسطيني يراهن على شعبيته خاصة في ضوء تعنت "إسرائيل" في تنفيذ وقف إطلاق النار الذي تفاوضت عليه كافة الفصائل ورعته مصر.
في ظني أن أبا مازن يراهن على انتخابات قادمة؛ لكي يحقق كسباً سياسياً في مواجهة "حماس"، وأن تعطيل إعمار غزة وتنفيذ الاتفاق مع "إسرائيل" في ظن البعض ينال من شعبية "حماس"، خاصة وأن مقر القيادة السياسية لـ"حماس" قد انتقل لتركيا بعد التوترات في العلاقات القطرية السعودية والمصرية, وبعد ما بدا من عدم ترحيب إيران استضافة القيادة السياسية لديها، ومعنى ذلك أن الفلسطينيين سوف يخسرون على الجبهتين الدولية والداخلية بسبب عدم الإخلاص في تحقيق المصالحة المؤدية إلى الوحدة بين الفصائل الفلسطينية وربما أدى ذلك إلى إغراء "إسرائيل" بغزة مرة أخرى, خاصة في ضوء نجاح "إسرائيل" في توظيف عدد من الأطراف الإقليمية لمنع السلاح الإيراني عن المقاومة في غزة.
القضية الثالثة:
تتعلق بإصلاح "الفيتو" في مجلس الأمن، وقد أصبح "الفيتو" ميزة للدول الخمس تستخدمه لمصالحها الشخصية، وقد طالبت بعض الدول زيادة عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أو تحديد الحالات التي يستخدم فيها "الفيتو"، كما نشرت العديد من الدراسات التي تحدد القيمة القانونية لمشروعات القرارات التي يتم استخدام "الفيتو" ضدها في مجلس الأمن خاصة تلك التي تتوافق مع حقوق ثابتة، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة, فالمعروف أن "إسرائيل" تريد كل فلسطين، وأن الفصائل الفلسطينية تريد كل فلسطين وأبو مازن يقنع فقط بـ22% من الأراضي الفلسطينية، وهو لا علاقة له مطلقاً بقرار التقسيم ولا بمنطوق قرار مجلس الأمن (242)، ولكن العرب قرروا أن يطالبوا بالحد الأدنى.
القضية الرابعة:
هي المحصلة النهائية لما يدور في الأمم المتحدة، ولماذا تحمست الجامعة العربية فجأة وظهرت الدول العربية كأنها بنيان مرصوص خلف الطلب الفلسطيني وكأن الجامعة العربية قد أصبحت جامعة عربية رغم كل ما جرى؟!
يبدو أن اقتناع الدول العربية بأن الطلب الفلسطيني مناورة، وأنه لا حظ له من النجاح قد أقنعها بأن تظهر حماسها الزائد في قضية محسومة، وبذلك لن تغضب "إسرائيل" أو أمريكا، إنما ستظهر للشعوب العربية وحدها أنها مصرة على استرداد الحق الفلسطيني الذي ضيعه الشقاق العربي.
ويبقى أن الطلب الفلسطيني يمثل أكبر صرخة وتحدٍّ للمشروع الصهيوني العازم على ضم كل فلسطين وتذكير العالم كله بأن فلسطين لا يمكن أن ينفرد بها اليهود، كما أن فكرة الدولة اليهودية قد ضربها هذا الطلب في مقتل، ولا نظن أن إصرار الجانب الفلسطيني على طلبه ناجم من ثقته في نجاحه أو تفاهمه مع واشنطن, ولكن هذا الإصرار لابد أن يفهم في سياقه الفلسطيني على ضوء إحداث السنوات القليلة الماضية.
وأخيراً، فإن مشروع القرار الذي يتم الاعتراض عليه وإسقاطه يجب أن يعد قرينة يستفيد بها صاحبها في المحافل الدولية وإلا يترك ذلك لاجتهاد الفقه، وإنما يتم الاتفاق على تفسير لذلك بين الدول الخمس التي تتمتع بحق "الفيتو", فهو حق أريد به باطل.