حي السلّم في الضاحية الجنوبية لبيروت أخيراً مشاهد شدّ وجذب بين عسكر ومنتفضين، فقد بقي الحدث الأساسي، وهو اقتحام سوق شعبي مخالف، في خلفية المشهد، وبات كلام «الضحايا» لشاشات التلفزيون هو الحدث، وهو من القوة بحيث شغل الشاشات ومواقع الالكترونية والصحف على مدار الأسبوع الفائت.
لم تكن تلك الثورة الصغيرة في الشتائم وحدها، الطالعة من قعر الشارع والعذاب تماماً، والتي خرقت مقدس «حزب الله»، فقد جاءت المقابلات وكأنها لحظة الحقيقة، جوهر موقف الناس (الحاضنة الأكثر التصاقاً) من «حزب الله»، رغم جبروته، وهباته، فليس هنالك أصدق وأوجع وأكثر فصاحة من صيحة مظلوم.
إذاً فإن «ثورة الضاحية» حدثت كلّها في الميديا، ورغم قسوة الشتائم لم يظهر أن أحداً من القنوات أو مواقع التواصل الاجتماعي ينوي أن يضع تلك «التوت» المديدة فوق الكلمات العسيرة. فيديوهات جرى تداولها بلاد هوادة، فقد جاءت شهادة شاهد من أهله، عدا عن أنها لم تكن متوقعة بالمرة، بعد سنوات من طغيان وتجبّر «حزب الله». لا شك أن تلك الفيديوهات ستصبح علامة بارزة، ولا بد أن صناع السينما الوثائقية احتفظوا بها جانباً من أجل أفلام المستقبل.
لذلك فإنها ستكون للتاريخ، بمقدار ما هي للأمل أيضاً، خصوصاً مع ذلك اليقين السابق لدى مناهضي النظام الممانع بأن الطرف الآخر ليس سوى كتلة صماء واحدة لا تتزحزح.
الأكثر إذلالاً
تماماً كما هو متوقع، أجبر إعلام «حزب الله» منتفضي حي السلّم في اليوم التالي لـ «ثورتهم»، على الاعتذار.
هل تذكرون صرخة سائق «التوك توك» المصري التاريخية، تلك التي قال فيها، إلى جانب أشياء كثيرة، «أشوف مصر عالتلفريون ألاقيها فيينا، أنزل الشارع ألاقيها بنت عم الصومال»؟ وكيف أظهره إعلام السيسي تالياً عبر مقابلة مصورة «منفّساً عالآخر»، ولسان حاله يقول «لا، أنا ولا حاجة»، وليبدو كأن إبرة مخدّر نالت من كل خطاب الأمس الذي عبّر عن كل مأساة المصريين؟
هذا ما حدث أيضاً لفيديوهات حي السلّم، فكل الذي شتموا نصر الله بالأمس، ظهروا في اليوم التالي يرددون تقريباً بالنبرة ذاتها: «يا سماحة السيد، الله ينعن ساعة الشيطان يا سماحة السيد. نعتذر من كعب صباطك (حذائك)..»!
الفيديوهات جاءت نموذجية للغاية، إلى حد أن سكان مواقع التواصل الاجتماعي التقطوا المفارقة وولّفوا على الفور فيديوهات كوميدية تضع بشكل متجاور مقابلات أهل حي السلّم ما قبل وما بعد. فكانت حقاً كوميديا للتاريخ.
تقول الحكمة إن ثلاثة أشياء إذا ذهبت لا تعود (في الواقع أشياء كثيرة إذا ذهبت لا تعود، لكن الحكمة تقتضي أن نقول ثلاثة): السهم إذا انطلق، والزمن إذا مضى، والكلمة إذا نُطقت. ولذلك فإن ما قيل قد قيل، ولن يكون التراجع والاعتذار إلا تثبيتاً لتلك الحقائق.
لكن لا بد من الإشارة إلى أمر، ربما يلاحظ المرء أن أكثر عبارتين تم تداولهما في إعلام «حزب الله» هما «هيهات منا الذلة»، و»فدا كعب صباط السيد (حسن نصرالله)»!
بالله عليكم، هاتوا لنا مشهداً من تاريخ أهل الجنوب، شيعة لبنان، حاضنة «حزب الله»، أكثر إذلالاً من ذلك الفيديو الذي أُجبر فيه أهل حيّ السلّم على الاعتذار من «كعب صباط السيد».
أداء مسرحي
من بين مختلف فيديوهات «ثورة حي السلّم» كان الأكثر تأثيراً بالنسبة لي أداء السيدة المحجبة، وكان خطابها الأطول بين زملائها. تشعر معها كما لو أنك أمام ممثلة في عرض مسرحي تراجيدي.
أداء ممسرح، نزوع نحو الشعر (على الأقل على مستوى الأداء)، كانت الوحيدة التي لم تشتم. في قلب خطابها انتقالات مفاجئة، حين تقول مثلاً «ازرعوا شجر على قبور الشهدا، نحنا الشهدا عنا بالآلاف»،
أو أن تصف أولئك الذين اقتحموا السوق بـ «خفافيش الليل»، لتضيف «نحنا بنبني حجر حجر».
لم تسفّ في خطابها، ولعلها في اعتذارها أيضاً كانت الأكثر اتزاناً.
درس بايزيد
تتوالى فيديوهات لأصدقاء المخرج السينمائي السوري المقيم في الولايات المتحدة محمد بايزيد، والتي تلقي مزيداً من الشكوك حول ما سمي محاولة اغتيال للمخرج المعارض إثر زيارته لاسطنبول.
هذه الحكاية باتت وراءنا الآن، وقد بات ثابتاً، على الأقل، أن مبالغة كبيرة أحاطت بالمسألة. لكن يبدو أن أحداً لن يتعلم من درس بايزيد. لن يتعلم معارضون كثر أن حبل الكذب لا يمكن أن يكون بلا نهاية، وأن ذلك جزء من مصيبة السوريين.
لا أحد يريد أن يصدق أن بعض من ادعى الاعتقال، وعاش، وما زال يعتاش من تلك الكذبة، لم يعتقل البتة. لا يريد أن يصدق لأنه هو نفسه يعيش من وراء تلك الكذبة.
أساطير وخراريف بات لها قوة الحقيقة.
لم يكن أحد ليحتاج كل ذلك، فقصص الاعتقال الحقيقية والموثقة بمئآت الآلاف، وكذلك التعذيب والقتل والتدمير.. وبالعكس، كان لذلك التلفيق أثر سيء على قصص الواقع.
نرجو أن لا يحاول أحد إقناعنا بأن السكوت عن التلفيق كان لمصلحة الثورة، وأن استمرار التزوير هو لمصلحة