الشيخ الحسن البمباري
منذ وقت طويل لم تمر على محمد حالات الشرود الطويلة التي تتخللها ابتسامات كلما خطرت تلك الذكرى بباله ، ذلك اليوم الصيفي الذي اعتاد منذ زمن التأريخ به حتى في الأحداث التي سبقته بكثير ، إذ لا يتورع عن القول اعتقد انه قبل يوم لقائنا بسنة أو سنتين كان ذلك اليوم مركز حياته بكل ما تعين الكلمة من معنى ، فيه عرف أن له قلب و أدرك فعلا أن الرجال كائنات من ورق أي نسمة هوء تسحب أحدهم معها إلى الأبد .
لكن لقاء عابرا رد تلك الأيام التي عمل جاهدا طوال السنوات الخمس من زواجه أن لا يتذكرها على الإطلاق كان يعمل جاهدا على دفع نفسه إلى ابعد نقطة من الانهماك في حب زوجته و أحيانا في العمل ، "إلا أن الدنيا صغيرة حقا ". في ذلك اليوم دخل مكتبه في شركة تصدير المواد البحرية ، كان من المفروض أن يكون يوما عاديا ، و لكن الملف الأحمر على طاولته التي اعتاد ترتيبها بشكل دقيق بنفسه مخافة أن يفسد أي شيء طقوسه في شرب "أتاي الصبح " قد انذر بيوم حافل ، فتح الملف على عجل كانت موافقة من المدير على تعيين سكرتيرة لمحمد تكريما لجهوده السنوات الماضية و تفانيه منقطع النظير ، لاحت على وجهه ابتسامة الانتصار ثم أعد في رأسه سريعا قائمة من المطالب التي على سكرتيرته تحقيقها وله شخصيا فقط ، و لكن المدير لم يكتف بالموافقة فحسب بل عين له سكرتيرة بنفسه و في آخر الملف كتب ملاحظة قصيرة ستحضر السكرتيرة غدا إن شاء الله" المدير عبد الله محمد.
كعادته لا يتأخر محمد الشيخ عن البيت إطلاقا يتحرك دائما كالساعة ، الساعة الخامسة مساء يُفتح الباب إيذانا بوصوله ، زوجته و التي لم تكن سوى ابنة عمته و صديقة طفولته مليكة الأمين كانت فعلا تستحق الاحترام ، سيدة محبة لا تتذمر إطلاقا و لا تطلب عصامية بطريقة معينة و تتولى إدارة الأزمات في كل الظروف ، في ذلك اليوم دخل محمد الخامسة إلا الربع ثم تطوع بالمساعدة في المطبخ ، يبدو أنه خطط لما سيشغل به وقت فراغه الذي سيسببه حضور السكرتيرة ، كانت مليكة متفاجئة ، لم يكن محمد شخصا مرحا و لكنه يلقي بعض النكات بين الحين و الأخر و لكن في ذلك اليوم كان شخصا مختلفا بدا فاتحا ذراعيه للدنيا مستعد لكل شيء، بل حتى تحدث عن مديره على غير العادة مثنيا عليه ، كان أشبه بطفل حصل على هدية جديدة أمضى ذلك المساء مبتسما تعتقد مليكة انه حتى نام بنفس الابتسامة ، في تلك الليلة التي كانت الأخيرة التي رأته فيها .
في صباح اليوم التالي استيقظ محمد مبكرا جدا لم يوقظ زوجته إنما جهز كل شيء و انطلق صوب الشركة، حتى الحارس تفاجأ بالرغم من أن محمد لم يتأخر يوما واحدا و كان دائما أول موظف يصل و لكن ذلك اليوم كانت المرة الأولى التي يصل فيها موظف في ذلك التوقيت للشركة ، فتح له الحارس على مضض بسبب سمعة محمد و مكانته في الشركة ، سارع إلى مكتبه و جلس يحسب الساعات التي مرت أطول من الليلة التي قضاها مبتسما أو آخر ما يذكر منها على الأقل .
حضر الموظفون تباعا ولكن السكرتيرة لم تصل بعد ، بعدما يئس الانتظار ،بدأ في تنظيف مكتبه و قام بنفسه بالنزول من اجل جلب اتاي من الكافيتريا التي هاجمه المشرف عليها بالأسئلة بسبب تأخره سال عن صحته ، محاولا فتح بعض الأحاديث ، اخذ محمد السينية بعد ما أجاب عن كل الأسئلة تقريبا بعبارتي "لا أو نعم" على غي العادة .
دخل المكتب كانت المرة الأولى التي يصدر فيها كل ذلك الضجيج من مكتب المهندس محمد الشيخ ، الذي حرص دائما على أن يكون السيد المثالي في الشركة كانت السينية قد سقطت من يده على الطاولة الزجاجية التي تتوسط كراسي الضيوف بالبط أمام أرجل السكرتيرة التي لم تحرك ساكنا تجمدت في مكانها و كنها رأت أهوال الآخرة بأم عينيها ، بقي محمد واقفا دون حراك كل شيء فيه غاب عن هذا العالم ، إلا ذاكرته كسرت إحدى القواعد التي رسم في حياته السنوات الماضية ، لا يجب أن يتذكر ابد ذلك اليوم أو ذاك الوجه ، كان قد ألزم نفسه نسيان كل شيء عن تلك المرأة و قتلها في ذاكرته و كأنها لم تكن يوما .
ولكن تلك السكرتيرة التي اختار المدير لم تكن سوى السالكة محمد التي عرف محمد الشيخ ذات يوم الطريق إلى قلبها كما عرفت هي طريقها إلى قلبه ، كانت ما تزال شابة يافعة و مفعمة بالحياة و كأن الأيام لم تتحرك بها قيد أنملة ، لم تنطق بكلمة حتى بعد خمسة عشرة دقيقة ، سحبها من ملحفتها و خرج بها مسرعا من الشركة الباب تلو الباب كان الكل ينظر إليهما إلى أن وصلا إلى سيارته ثم ركباها معا ، كانت تلك المرة الأخيرة التي يعرف فيها أي شخص شيئا عن محمد أو السالكة كأنهما قطعة ملح رميت في نهر ، زوجة محمد و أهله و حتى أسرة السالكة الكل استسلم و يئس البحث ولكن تلك القصة التي عملت الأسرتان على قتلها طوال تلك السنوات يبد أن لها نهاية تكتب في مكان ما من ضواحي الكرة الأرضية