يحيى الكبيسي
مع انطلاق العمليات العسكرية لاستعادة الجانب الأيمن من مدينة الموصل يوم 19 شباط/ فبراير 2017 نشرنا مقالا في القدس العربي تحت عنوان: «الموصل: استراتيجية التدمير بدل القتال» (نشر في 28 شباط/ فبراير) حذرنا فيه من أن الاستراتيجية المعتمدة على التدمير بدلا عن حرب مدن تقليدية، عبر الاستخدام المفرط للكثافة النارية، بمختلف أنواع الأسلحة غير النقطوية كالصواريخ والمدفعية الثقيلة والراجمات والهاونات بمختلف أحجامها، فضلا عن الاستخدام المفرط للقصف الجوي، لن يؤدي سوى إلى تحويل الموصل إلى كومة من الأنقاض، تماما كما حدث في مدينتي الرمادي وبيجي اللتين دمرتا بنسبة تراوحت بين 80 في المئة و100 في المئة. وقلنا أيضا أن الكارثة الحقيقية ستكون في أحياء مدينة الموصل القديمة ذات البنية المتهالكة.
وكنا في مقالة أسبق قد أشرنا إلى أن الخطة المعدة لاستعادة الساحل الأيمن من الموصل جاءت مع المتغير الأمريكي المتعلق بوصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وتنصيب جيمس ماتيس، المشهور بلقب «الكلب المسعور» وزيرا للدفاع! ومعهما بدت الرغبة الأمريكية في تحقيق نصر حاسم وسريع على تنظيم الدولة. وان ماتيس سبق له ان اعتمد على خطة مطابقة في معركة الفلوجة الثانية 2004!
اليوم، وبعد إعلان الانتصار النهائي بالسيطرة على مدينة الموصل، وعلى الرغم من استمرار القصف الجوي على المدينة القديمة المدمرة! بدا واضحا ان الجانب الأيمن من مدينة الموصل قد تعرض لتدمير شديد قد يتجاوز 70 في المئة، لكن الأخطر ان المدينة التاريخية القديمة قد تحولت إلى مجرد أطلال، بنسبة تدمير قد تصل 100 في المئة. أما الخسائر بين المدنيين، فالحكومة العراقية ومؤسساتها العسكرية والمدنية حريصة تماما على أن تبقى سرا طي الكتمان! ناهيك عن المخاوف من وجود أعداد كبيرة أخرى تحت أنقاض بيوتهم حتى اللحظة.
ليس ثمة شك في أن تنظيم الدولة العدمي لا يمكن إلا ان يكون خارج التاريخ وخارج سياقاته، وبالتالي كان لا بد من خروج الموصل، كما المدن الاخرى من سيطرته، حتى وإن كان، كظاهرة سياسية واجتماعية، وليس كتنظيم سلفي جهادي، نتاجا للازمة السياسية الجوهرية في العراق. ولكن بالتأكيد كان ثمة بدائل استراتيجية عديدة للتعاطي معه ولكن لا أحد كان مستعدا لتحمل التكاليف السياسية لهكذا خيار.
في تشرين الأول/نوفمبر 2014 كان هناك اجتماع رباعي حضره المنسق الأمريكي الخاص للتحالف الدولي، والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، وممثل عن الحكومة العراقية، فضلا عن مجموعة من السياسيين العراقيين. يومها طرحنا خطة متكاملة تعتمد على مقاربتين سياسية وعسكرية بشكل متواز للتعاطي مع الأزمة السياسية في العراقي، والتي كانت السبب الرئيسي في إنتاج ما نسميه «المشكلة السنية» التي انتجت في النهاية ظاهرة تنظيم الدولة. وأنه يمكن العمل على تفكيك بنية داعش الظاهرة عبر إجراءات سياسية واقتصادية وقانونية، وبالتالي التعاطي عسكريا وامنيا مع النواة الأيديولوجية الصلدة للتنظيم. وقلنا بشكل صريح انه لا يمكن هزيمة هذا التنظيم، او التطرف في العراق، إلا من خلال معالجة المقدمات والأسباب الحقيقية التي ادت إلى تحوله إلى ظاهرة سياسية واجتماعية. ولكن لم تكن لدى الطرفين الرئيسيين في هذه المعادلة، وهم الأمريكيون والحكومة العراقية الإرادة للتعاطي مع مقاربة سياسية حقيقية وجدية، وكان كلاهما مع مقاربة عسكرية تحقق الهدف الاستراتيجي الأمريكي من انتاج التحالف الدولي، وهو هزيمة داعش. وتحقق الهدف الاستراتيجي للفاعل السياسي الشيعي في إبقاء الوضع في العراق على ما هو عليه مع محالة الإفادة من لحظة داعش لتحقيق ما عجز عن تحقيقه قبلها!
لنأخذ مسألة الحرس الوطني كمؤشر على هاتين الاستراتيجيتين. بعد سيطرة داعش على أكثر من ثلث الأراضي العراقية، كانت المقاربة الأمريكية تقوم على أساس أن ما حدث كان نتيجة مباشرة للسياسات الطائفية التي خلقت بيئة مواتية لظهور تنظيم داعش في العراق، ومن ثم وجدت أن تشكيل قوى محلية، بقيادات محلية، تحت اسم»الحرس الوطني» يمكن أن يشكل الحل الامثل لمعالجة مشكلة أزمة الثقة بالمؤسسة العسكرية والامنية، خاصة وان تقارير اللجان العسكرية الأمريكية وبعد دراسة ميدانية وجدت ان القوات العراقية ليست قادرة على استعادة أي من المناطق التي خسرتها على المدى القصير. هكذا وجدنا الأمريكيون يعلنون في 9 آب/ أغسطس 2014 عن استراتيجية تعتمد ركيزتين أساسيتين: ضربات جوية منهجية، ودعم قوات محلية «سنية»، وكان «الحرس الوطني» حاضرا كما هو واضح في هذه الاستراتيجية.
في المقابل كان الفاعل السياسي الشيعي يتخوف تماما من فكرة «قوات مسلحة سنية» يمكن أن تشكل في مرحلة لاحقة تحديا جديا وتهديدا مستقبليا لسلطته وهيمنته على الدولة. لهذا وجدنا هذا الفاعل يقبل شكليا فكرة «الحرس الوطني»التي اقترحها الأمريكيون، بل جعلها جزءا من البرنامج الحكومي الذي تقدم به حيدر العبادي لنيل الثقة في شهر ايلول/ سبتمبر 2014، لكنه كان يعمل على وأد الفكرة تماما من الناحية الفعلية والعملية، واستبدالها بميليشيا الحشد الشعبي العقائدي، مع العمل على إعادة إنتاج القوى السنية التي كانت حليفة للمالكي واقحامها ضمن هذا الحشد تحت مسمى «الحشد العشائري» كغطاء سني لا غير! وقد نجح الفاعل السياسي الشيعي في إقناع الأمريكيين في النهاية ان التعاطي مع هذه الميليشيات، بوصفها القوة المنظمة الوحيدة على الأرض القادرة على تحقيق الهدف الاستراتيجي الأمريكي بهزيمة داعش، مما جعل الأمريكيين في النهاية يتخلون عن مقاربتهم السياسية، ومن بينها الحرس الوطني، ويخضعون بالكامل لمقاربة الفاعل السياسي الشيعي!
كما كان هناك تكتيكات بديلة لاستعادة الجانب الأيمن من الموصل من دون هذا التدمير. ولكن الارتجال، والرغبة في الحسم السريع، من دون اي اعتبارات سياسية او اقتصادية او اجتماعية لمرحلة ما بعد استعادة المدينة هي التي تحكمت في النهاية. فلا أحد كان لديه الاستعداد للتفكير بجدية بذلك.
فقوات مكافحة الإرهاب التي خاضت معارك الجانب الأيسر بكثير من المهنية، والتي تعرضت لخسائر كبيرة وإنهاك حقيقي (استمرت معارك الجانب الأيسر من 1 تشرين ثاني/ نوفمبر إلى 24 كانون الأول/ يناير 2017) كان يمكن اعتمادها أيضا في معارك الجانب الأيمن بعد مدة قصيرة او متوسطة من الراحة وإعادة التنظيم والتجهيز والتعويض بدلا من الاعتماد على قوات الشرطة الاتحادية غير المؤهلة لخوض حروب مدن تقليدية، أو الاعتماد على الفرقة 16 مشاة في معارك المدينة القديمة وبالتالي زيادة نسب التدمير في المدينة القديمة. كما ان استعادة الجانب الأيسر من المدينة قبل الأيمن ساهم إلى حد بعيد في دفع مقاتلي داعش إلى التمترس في المدينة القديمة والقتال فيها حتى الموت، ولو حدث العكس، أي التقدم من محور القيارة – حمام العليل باتجاه أيمن الموصل واستعادته قبل الأيسر، او على الأقل التقدم باتجاه المدينة القديمة مباشرة من دون الالتفاف حول المدينة القديمة من الشمال والغرب والإبقاء عليها كهدف اخير! لكان هذا قد أعطى لمقاتلي داعش إمكانية للخروج من المدينة القديمة بدلا من القتال المستميت فيها، ولكانت هناك إمكانية لعدم تدمير المدينة القديمة بالكامل.
لقد تمت استعادة الجانب الأيمن من الموصل، وستنتهي احتفالات النصر، وسيقف مئات الآلاف من نازحي أيمن الموصل على أطلال مدينتهم وبيوتهم، من دون أفق سياسي واضح، ومن دون أموال عراقية لإعادة الإعمار، وبانتظار وعود التمويل الخارجية وصناديقها والتدافع السياسي عليها، فهل يمكن تخيل ردود الفعل على المدى المتوسط؟
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي