أحلام مصطفى
في كل مرة أذهب فيها إلى زوجي أطلب منه اقتراحاً لموضوع أكتب عنه في مدونتي الأسبوعية يقول لي مازحاً: اكتبي عن مقدار حبك لي. كنت أضحك في كل مرّة لأنني أُبيت نيةً لأمر كهذا، ولكنني لسبب كنت دائماً أقول في نفسي: ليس الآن، أنتظر الجو العام المناسب ربما بحكم أنني أكتب للناس.. وهل أفضل من العيد؟ أعتقد أن حديث امرأة عن محبتها لزوجها أمر مبهج يتناسب وهذه الأيام.. أعرف أغنية بعنوان "أم العيال العشرية" للمطرب أحمد منيب قدمها لي زوجي تقول كلماتها:
مين اللي يسهر جمبي الليل.. مين اللي باله معايا طويل
مين لما اتعب يسعدني.. ومعايا حمل الهم يشيل
مين هيا غير ست الستات.. وياها بتصبح وأبات
كانت هذه بالنسبة لي أجمل أغنية أسمعني إياها، لأن فيها شيئاً آخر غير كل العبارات والأغاني الملتوتة التي تتحدث عن حب جارف وعشق أخاذ، فيها عاطفة ناضجة وعشرة تجلى أثرها في رؤية كلّ منّا للآخر، في أمان جديد لم يعُد يتخلله خوف ولا وجل، عن تقدير يعي قيمة الرفيق ويدرك أن هذه الرفقة لا تعوض بأي صورة..
لا ليس للأمر علاقة بكوننا أشخاصاً خارقين خاليين من العيوب، ولكن بالتحديد لأننا نعي نقصنا، وندرك عيوبنا، ونعذر من يشاركنا حياتنا حاجته للوقت والجهد حتى يتعامل مع عيوبنا ويتجاوز عيوبه من أجلنا.. للأمر علاقة بأننا عندما اتخذنا قرار الزواج اتخذنا معه قرار بأن يكون زواجاً يستحق التعب الذي سنتعبه فيه، والمجهود الذي سنضعه حتى يستمر ويثمر، لهذا لم يكن من الممكن أن نستجيب لضعفنا، لأهوائنا، لكسلنا، لحبنا لأنفسنا، ولا لكبريائنا.
الجيل الجديد الذي يكبر أمامي الآن أو حتى من هم من عمري وإن كنت أرى أننا بدأنا نشيخ، هذا جيل ربما لم يشهد حقيقة العشرة بين الزوجين، لم يتفطن لتفاصيلها، رسمت الصورة في مخيلته وسائل إعلام ومجلات وروايات وقصص لا تحكي عن شيء أصيل حقيقي ذو قيمة.
لقد راقبت زوجي وهو يتحول من شاب أعزب أحببت فيه تفكيره وعقله، إلى زوج مُحِب يستكشف طبيعة الحياة الجديدة، ثم إلى أب شكور يغمره الانبهار بالأطفال والطفولة. لقد راقبته وهو يتعامل مع مواقف لم تكن تخطر بباله ربما، ويبلي أفضل البلاء، يربت على رأسي وأنا ألد طفلتنا الأولى، ويلعب دور رفيق الولادة أثناء ولادة الثانية، ويحب هو أن يقول إنه من ولدّني لا القابلة. قرأ وتعلم عن الأشياء التي كان يجهلها، وتعوّد السؤال عن الأشياء الغريبة عليه. حاول كثيراً أن يكون الأب الذي يشارك رعاية أطفاله ويخفف عن أمهم، وغيّر الكثير مما يراه المجتمع طبيعياً، إلى ما رآه هو حقاً.
في حب أبو العيال الذي يجعل أمومتي سبباً لسعادتي، ويرى فيها سبباً للبهجة ومهمة تعبها وحده كافٍ لكي أحس بالفخر، الذي يدفعني دفعاً حتى لا أظلم نفسي ولا أسرف في تقديم رغبات العيال العشوائية على راحتي وصحتي. والذي يقر عيني بنظرة الرضى التي يلقيها علي عندما أكتب شيئاً قيّماً أو أنجز مشروعاً جديداً، والذي يرفض أن يريحني ويجيب عن سؤالي المتكرر: ماذا تريد أن تأكل اليوم؟
واجهنا معاً تحديات كثيرة في أول خمس سنوات أمضيناها في هذه الرحلة. نجونا من سنة الزواج الأولى، وأنجبنا طفلتين، وتنقلنا بين الوظائف والمشاريع والدرجات العلمية والدول والبيوت.. الكثير من البيوت. راقبته ونحن نبدأ معاً من جديد في بلد غريب، فكنا الملجأ لبعضنا والمستراح. ونحن نتعلم كيف تكون الحياة خارج قوقعة المقر الواحد والروتين اليومي والعمل والوظيفة والراتب والسلسلة الطويلة من المهام المتوقعة. لم تكن كل تلك التغيرات سهلة، ولم تخلو من تعقيدات ولا مشاكل، لا ليست الصورة وردية كما ترسمها الأفلام وقصص الحب والغرام، ولا حتى كما تشاهدونا في تلك المسلسلات التركية والسلاسل الكورية. وليس من المنطقي أن يتوقع الزوجان أنها ستكون كذلك! تعودنا أن نقدر هذه الحقيقة، وأن تكون سياستنا أن ننقض عليها لا على بعضنا البعض، فنحن جزء من الحل لا المشكلة.
كلما جاءتني إحداهن تسألني في أمر يتعلق بالزواج أو اختيار شريك الحياة، ينتظر مني الجميع حديثاُ عن أرواح تتلاقى من النظرة الأولى، ومشاعر فياضة، وانجذاب جارف، ولكن الزواج الحقيقي المبني على تشارك الخبرات علمني خلاف ذلك. وُجِدَت تلك العوامل أو لم توجد، وُجِد التلاقي الروحي أو الانجذاب الجارف أو لم يوجد، الأمر في النهاية يعود إلى قرار تتخذه أنت وتتخذينه أنتِ بالالتزام، ببذل الجهد، وبتجاوز النفس، فأنت لم تعد مركز كونك الخاص، وليست مهمة الطرف الآخر أن يسعدك، بل مهمتكما معاً أن تخففا عن بعضكما صعوبة الحياة، وأن تسعدا بجمال ما يجمعكما، لا بما قد يوفره أحدكما للآخر مادياً أو معنوياً.
في حب أبو العيال سأكتب أنني أحمد الله كثيراً وأحاول شكر نعمته أن وفق بيننا، ثم أن أعاننا على ما يتطلبه الأمر من عمل، وأن حفظنا وبارك في اجتماعنا. سأقول بأنني أسأله أن يشملنا برعايته وعينه التي لا تنام.
لا يحب زوجي أن أتحدث عنه كثيراً، ولا أن أعبر عن مشاعري هذه علناً، لذلك تحريت الكثير من الحياء في الكلام، وحاولت أن أتجاوز عن التفاصيل التي لن ينفع الناس أن أفصح عنها، ولكن ينفعهم ربما أن يعرفوا أن حبّ زوجي لي لا يكون بالهدايا والورود والصور النمطية التقليدية للرومانسيات التي قد تعمي عيون النساء وقلوبهن.. والتي لا بأس بها كبهارات ربما.. ولكن الأهم من كل هذا لا يشترى بمال، ولا يقدر بثمن.. لذلك فأنا - خلاف ما يعتقد زوجي - أحب فيه أن حبه لي متحلل من كل هذا، يبحث عن صور أكثر ديمومة وتأثير أعمق يبقى معنا ولا يفنى.
الجيل الجديد الذي يكبر أمامي الآن أو حتى من هم من عمري وإن كنت أرى أننا بدأنا نشيخ، هذا جيل ربما لم يشهد حقيقة العشرة بين الزوجين، لم يتفطن لتفاصيلها، رسمت الصورة في مخيلته وسائل إعلام ومجلات وروايات وقصص لا تحكي عن شيء أصيل حقيقي ذو قيمة. يضحك كثير منهم عندما يتحدث أحد أمامهم عن تلك "العشرة"، أو عن السكن والمودة والرحمة، ويستنكرون عندما نقول الزواج ليس حباً وعشقاً ومواعيد سينما ومقاهٍ وأحلام.. يقولون أين الرومنسية والغرام.. لا زواج بلا حبّ.. والحق أنه لا زواج بحبٍّ فقط.. لا سلام ولا أمان بلا بذل وعطاء ومجاهدة نفس وطرد لشياطين الجن والإنس معاً..
لذلك.. في حب أبو العيال سأكتب أنني أحمد الله كثيراً وأحاول شكر نعمته أن وفق بيننا، ثم أن أعاننا على ما يتطلبه الأمر من عمل، وأن حفظنا وبارك في اجتماعنا. سأقول بأنني أسأله أن يشملنا برعايته وعينه التي لا تنام، وأن يجعل هذا الزواج نواة لنتاج يحبه ويرضاه على أي صورة جاء، وأن تخلفنا ذرية تتابع ما بدأنا.. مهما صغر أو كبر.. حتى لو كان هذا يتمثل في حسن الخلق وخدمة الناس وكفى.