حماه الله ولد السالم
يقول بعض الفرنسيين إن الموريتانيين يتحللون من كل قيد ديني أو عقلي في حالات ثلاث: طمع كبير و انفعال حاد و شهوة غالبة..
هذا الكلام فيه حق وفيه باطل كما يقال، لأن فطرة أهل الخيام ليست سيئة، بل هي في أصلها أقرب للطيبة والاستواء، لكنها خضعت لمعاول الهدم والتشويه إلا قليلا، فأنتجت ما يشبه “وحوشا آدمية” تجاوز الحد في كل شيء، ما جعل “أهل الخيام” يهدمون ما شادهم سلفهم في أصقاع الدنيا.
وبالرغم من ذلك فلو وجدت فطرة أهل الخيام قبل فسادها، من يغذوها بالتربية ويتعهدها بالنصح ويحدوها إلى أنْموذج الأعلى، لبقي منها أساس صلب، يبنى عليه، ويحمي الأهل عاديات الدهر ومحن الأيام والليالي.
لكنهم نقلوها فجأة من حضن البداوة والظعن إلى دار الحضر والتمدْيُن، فلم يحتملوا عنف الصدمة، فذهب بهم وقْعها كل مذهب. على أنني أجزم يقينا أن كل سيئاتهم ليست مُحْدثة فيهم بل هي جبلّة راسخة وميل قديم، تسكن في قرار عميق حيث الخوف والعزلة ثم انبعثت شيطانا ماردا في العهود المُعاصرة.
خلو حياتهم من البناء
كنت في سفر سياسي مع “حد من أهل الخيام الشماليين” من ذوي المعارف الأصلية والحديثة وشيئ من “ثقافة الغموض والخفاء”، فسألني بديهة: ما الذي يجعل أهلنا يتحامون البناء والتشييد، قبل الدولة والاستعمار، بينما تبني مجتمعات أقل منهم ثقافة، مدنا وقرى ومنشآت عريضة، أفهمته أنه يعرف الجواب ولكنه يريده من قبلي وهو أنه تغْلب على نفوسهم مسحة قلق دفين وخوف من المستقبل، أو بلغة “حداثية” تنقصهم جرعة دنيوية عقلانية تخفف من غلواء التدين السالب الذي لا يرى من الواجب تعمير الدنيا قبل الآخرة. سكت صاحب السؤال وهو أعلم بما سأل.
ثم تمهد لدي بعد لأي أن رؤية الموريتانيين للدنيا، يحكمها مزيج من الخوف و الزهد الإباضي بالغ التأثير في الدرس المكتبي (حروف التهجي) وفي عمارة المساجد وسلوك الجماعات، رغم تلاشيه مذهبيا، ثم تأثير السلفية المرابطية شديدة التقشف والبذاذة حتى عُد ذلك مأخذا عليهم من قبل خصومهم الموحدين فوصفوهم بالحشم” إحالة على بساطة مظهرهم والمجسمة إشارة إلى عقيدتهم السلفية.
قصة مخجلة
حدثني صديق مقيم في الدوحة، أنه كان قبل ذلك يعمل في الإمارات، وتقدم إلى مؤسسة بنكية، صحبة شيخ كبار، فتلقاهما مدير المؤسسة بالترحاب والإجلال، ثم خاطبهما قائلا: إنني أثق فيكما وأعلم حسن سيرتكما، لكنني للأسف لن أسلف موريتانيا بعد اليوم فلسا واحدا، لأنني اكتشفت أنكم معشر الشناقطة مع ما تجمعون من علم وفصاحة وخلق، يتطاير كل ذلك شعاعا حين تبرمون صفقة أو تدخلون في أمور مالية، فيصبح كل ذلك الدين والأدب هباء منثورا.
قال الصديق: لم أحزن لفشل الشفاعة، بقدر ما شعرت بالخزي والعار وقد “ابتل علي لباسي” من الخجل.
قصة تلخص تبدل حال “أهل الخيام” في بلدان الخليج، التي عمرها أسلافهم في قرون خلت، وعرفوا أيامها بالحفظ والقناعة، فكانوا محل تقدير في بلاطات الملوك و محافل القبائل.
ثم لم يتلبث أولئك أن وجدوا خلفا مشوها ومهينا، يأخذ عرض هذا الأدنى ويقبل حياة البؤس والذل ولا يوفر شيئا من المكر والتحايل إن وجد إليه سبيلا.
الرداءة لا حد لها
في موريتانيا الجميع أطباء والكل مؤرخون بالفطرة، لذلك صار حقل التاريخ مستباحا وميدان الطب مقتحما، وهو حال العلوم والمعارف الأخرى بصورة متفاوتة.
تحرص أنظمة البؤس والجهالة على تسطيح كل شيئ، كي يصبح طريا قابلا للتشكيل والاستخدام، ولذلك حولت السياسية من حقل رمزي ولغوي وأيديولوجي إلى ميدان للسباب والشتائم والمديح والتزلف، فخرج منه أرباب العقول والتجارب وولجه الشداة والقصر والتافهون والجهال والأراذل، فكان أن تم “موت السياسة”، أما المصرون على الفعل السياسي الجدي رغم الوضع الكارثي والحصار، فهم يمارسون ذلك الفعل من تحت الأرض أو بالاستناد إلى المحافل الدولية أو عبر الوسائط الرقمية، لأن السلطة صادرت الملعب بحذافيره، ولذلك ولجه آخرون بممارسة التسيس في الحقل الديني ، لأنه المجال الرمزي المتبقي لعامة المؤمنين.
تجارة “النساء”
رغم أدواء التدين الصحراوي القديم، من اختلاط بين الرجال والنساء، لضيق المساكن المفتوحة من غير ريبة، كانت مكانة المرأة الصنهاجية فالعربية مكينة وكن يتحاشين ما يمس العرض والخلق، و يرضين باليسير. لكن البيع والشراء جعلهن اليوم عرضة لكل أدواء السفر والاختلاط بالشعوب والتواصل مع الآخر من كل صنف ولون. فأسأن لأنفسهن ولأهلهن ولبلدهن، والشهادات على ذلك أكثر من أن نقف عندها، بل هي شاخصة في كل سوق وفندق وميدان.
نساء موريتانيا هم سبب كل فساد وفسق وتبذير وانهيار تربوي وقيمي وأخلاقي، والرجال في ذلك تبع لهم.
بذلك صرح عالم موريتاني كبير لبعض طلاب بلاده في بلاد مشرقية، وختم أن ذلك ما تبين له بعد تفكير عميق امتد نصف قرن.
أطباء “المربط”
نادرا ما ترى طبيبا من أهل الخيام يبتسم في وجه مريض أو يلاطفه، بل تراه عبوسا قمطريرا، كأنه يحمل على كاهله كل مآسي الدنيا، ثم لا يزيد على أن يملأ الوصفة الطبية بكم هائل من محفوظاته الدراسية متقادمة العهد والفاعلية، إنهم يتعاملون مع المرضى من دون إنسانية (تمْراس لغْنم)، المهم أن تمتلئ جيوبهم من آلام المرضى المهملين، وحتى الأخطاء الطبية القاتلة تمر كأن شيئا لم يكن، بل ويرفض طبيب هنا أن يكتب شهادته ضد طبيب آخر، وكأنهم ينتمون إلى قسم سري لا نعرفه؟
يحدث ذلك رغم القسم الطبي البقراطي والوازع الديني المفترض، قلة من الأطباء يخرجون على هذه القاعدة.
واقع لن تجده لدى نظرائهم في البلدان المجاورين، في السنغال مثلا، التي يتقاطر إليها أهل الخيام زرافات ووحدانا، طالبين الشفاء، فيلاقون التشخيص الذي قدموا به مقلوبا أو ناقصا، والدواء ساما أو بلا جدوى.
سألت موريتانيا من المسفرين من السنغال، وهو إطار بارز في المواصلات عن سر تردي خدماتنا الطبية رغم وجود أطباء ممتازين من حيث التكوين والتجربة، فقال: سأبين ذلك بما قاله لي طبيب سنغالي مختص: إنني أقسم وقتي بين ثلاث؛ جزئية لمراجعة الجديد في الطب، وجزئية للمرضى والبقية لأسرتي وراحتي، أما أنتم الموريتانيون، وغالبية أطبائكم من ذوي الذكاء والتفوق الدراسي، فهمهم جمع المال و الاشتغال بحياتكم المتشعبة، ونادرا ما يقرؤون، كان ذلك جوابا مسكتا.
من دعاة إلى لصوص
أدخل العرب الإسلام إلى ربوع الصحراء، فأخذه منهم صنهاجة الذين سلموه إلى قومية الجولا، وأوصله هؤلاء إلى مشارف الغابة، بالأمانة والخلق الحسن، أي بلسان الحال قبل لسان المقال، حيث وجد الأفارقة أنفسهم، بفطرتهم الطيبة، منجذبين إلى هؤلاء التجار من الإباضية والسنة والشيعة ومن العرب والبربر والماندنغو، من ذوي الأمانة في القول والفعل، فكان ملوك غانة ومالي والسونغاي وغيرها من ممالك إفريقيا جنوب الصحراء يجلون الفقهاء، ويحترمون التجار، ولا يخفرون ذمتهم، ويحفظون أموالهم، حتى بعد موتهم، فامتدت بين المتوسط والغابة، روابط عميقة في الأرحام والدين والمصالح.
ثم خلف من بعد أولئك خلْف يرضون بالعرض الأدنى؛ لا يفون بعهد ولا يحفظون ذمة ولا يرعون جوارا ولا يسرقون وينهبون ويفسدون مع وجوه عابسة عليها غابرة بالغة في البذاذة والتقشف وسوء الحال، فكرههم البعيد والقريب، وتحاماهم أهل لبنان في تلك البلاد الإفريقية وصاروا علما على السوء والكذب والتلصص وسوء الحال.
قصة مقززة
أحدهم ومن قبيل بارز، حل ضيفا في مالي، وتلقاه أهل بلده من قبيل آخر بالترحاب، وكانوا يملكون محطة بنزين وحانوتا كبيرا، أحسنوا إلى من جاورهم من أهل البلد، فلاقوا قبولا حسنا.
تحدث الضيف إلى مضيفيه من “أهل الخيام” قائلا: لا أريد منكم عروضا ولا نقودا، بل يكفيني البقاء بينكم مكرما بضعة أيام أجوس خلال المتاجر والشركات والهيئات فأعرف و أتبيّن.
ساقه حدسه الخبيث إلى صاحب مخبزة ضخمة من مواطني دولة مالي، تقع بجوار محطة البنزين، تردد عليه حتى ألفه واطمأن إليه، فخاطبه القادم: محطة البنزين والحانوت كلاهما لي ومن يعمل فيهما إخوتي وأقاربي، وأنا مصر على شراء فُرْنك هذا بالسعر الذي تريد، فاتفقا وكان سعرا يقرب من 14 مليون بالأوقية، قدم له صكا بالمبلغ ليسحبه صباحا، وفي هدوء الليل استولى الضيف الموريتاني على حصيلة المخبزة وكان مالا عظيما وركب سيارة كانت للمالك وهي من نوع شديد التطور، وبات ينهب الأرض نهبا حتى وصل مسافة 400 كلم فتوقفت السيارة آليا لأنها مبرمجة على عدم تجاوز تلك المسافة تفاديا للسرقة، كان قبل ذلك يُلقي بحزمة من المال كلما استوقفته فرقة من الدرك أو البوليس أنهكها الجوع والتعب فلا يلقون له بالا.
خرج بالجمل بما حمل وظل يصول ويجول بين تلك البلدان الإفريقية ثم عاد إلى بلدته في دواخل موريتانيا، يسير في شوارعها مرفوع الرأس لا يخشى بأسا ولا رهقا!
سلوك قذر وحال بئيس لن تجد له مماثلا في كل أصقاع العالم، حيث يخجل السارق ويتوارى خجلا من فعلته، أما عندنا فليس عليه لوم بل إن ذمته نقية لا يخدشها فعل ولا قول. أي شرع هذا وأي مجتمع ذاك، وأي فقيه أنكر أو جماعة تبرأت أو حاكم ردع ومنع. لا أحد من هؤلاء لأنهم الجميع في الفعل شرق وغرب.
يصدق فعل الغدر والسرقة في هذا المثال على آخرين من كل الأصناف: رجال يدعون الصلاح وأنهم ذرية قوم صلحاء، يتجسسون ويكذبون ويغتابون ويغدرون ثم لا يلحقهم من ذلك شيئ، هم تماما أكلة الربا من يهود ما بعد السبي البابلي.
العسكر كانوا بادي الرأي، قبل نزوهم على الحكم، ينهبون ويسرقون كلما وقع تحت أيديهم، من مال ومتاع في (آوسرد) أيام حرب الرمال، ولم يسألهم أحد لأنه في حقيقة الأمر هو من مال الله الذي آتاهم، لأنهم أخذوه بـ”أفام امدافعهم” إنهم بعبارة ابن خلدون “قوم أرزاقهم في رماحهم” أما عن الحوز والحضن والمالك فلا تسأل مثل هؤلاء.
قصة محزنة
شاب موريتاني من أسرة “كريمة” و قبيلة “نبيلة”، يعود إلى موطنه في داخل البلد بعد غربة امتدت 12 عشرة سنة، تلقاه الأم والأخوات بالأحضان ويتقاطر عليه الأهل والجيران بالسلام والتهاني.
بعد أن استقر به المقام تسأله الأم الفرحة عن حصيلة الغربة، فيجيبها بصدق: لم أجمع إلا قليلا لأنني لا أحسن حرفة التلصص والتحايل على أموال الناس، والحمد لله أنني رجعت سالما.
نظرت إليه نظرات ملؤها الغضب والشراسة: وقال أنت يا قصير العمر دنيّ النفس
تأتي من غربتك التي امتدت عقدا من الزمن كابدتُ فيها نظرات الاستهزاء من بنات عمي، وكدت أطير فرحا بعد عودتك سالما غانما تحمل من الذهب والفضة والمال ما يرفع رأسي ويجعلني أطأ رقاب نساء قومي، ثم تأتي خالي الوفاض.
أفاق بعد المغرب فوجد نفسه موثق اليدين والرجلين بحبال غليظة محكمة لم يعرفها منذ ولد، وتلقى صفعات طائرة من الأم قوية الساعدين وتوالى الضرب بالسياط حتى سالت دماؤه، ثم تعالى صراخ الأم والأخوات وهن يشتمنه ويركلنه، فتدخل الجيران سراعا وخلصوه بعد ليلة ليلاء، وفي الصباح حزم متاعه وخرج مسافرا وعاد بعد سنتين، حاملا مالا معتبرا، وجمع الأقربين والأبعدين وطلب من والدته الصفح والغفران وقدم ما جمع من نشب. ثم ودعها وخرج قائلا إن بلدا تحكمه عقلية التنافس بالمال الحرام، حتى من الأمهات والأخوات، لقمِنُ بالهجرة عنه وإلى الأبد، وقد كان! لم يعد ذلك الشاب شديد الأسر حسن السمت إلى بلاده إلى يوم الناس هذا ولم يره أحد من أهلها في أي عاصمة ولا قرية وكأنْ قد ابتلعه المجهول.
قصة تدمي القلب وتؤلم النفس وتدل على طبع متأصل في نفوس الموريتانيين قوامه التنافس في الشر ومن أي سبيل تم جمعه من الحرام من أي مصادره كانت: من السرقة أو من المخدرات أو من الدعارة، المهم أن يحمل الرجل مالا وفيرا وأن يظهر أمام العامة بالخيل العراب والإبل الصعاب ولا يهم من أي سبيل جُمع ولا طريق أتى. يفعل ذلك وهو يتلو مُحْكم التنزيل ويؤم البيت ويفخر بالحق وبالباطل ثم لا يجد لذلك حسيبا ولا رقيبا، وكأن أفعال السوء لا تضره بين الناس بل ترفعه وتمكن له.
فساد أهل الخيام لا أول له ولا آخر
شعب تحول بقدرة قادر من رجال علم وأدب وأهل مسكنة وتواضع إلى لصوص وفاسدين، ثم إلى باعة للأعراض وتجار للسموم.
تناول الفيلسوف المؤرخ ميشيل فوكو تأريخ الفكر الأوروبي عبر نماذج تفسيرية حدد خلالها الإبستيميات (الاستعارات الكبرى” التي تحكم وتفسر عصورا وأنساقا وتطور مؤسسات بعينها).
في التأريخ الحفري لتطور عقلية الموريتانيين، رغم صفرية المادة الأولية، يمكن أن تكون إبستيمية الخوف هي المفسر لمواقف وسلوك الموريتانيين من الأمس إلى اليوم.
لماذا السلوك الموريتاني يعمره الانفلات والتحلل من كل قيد ومانع لدرجة يستغربها الأجانب ويخشونها ويرغبونها، ثم لا يجدون حرجا من جعلها مطيبة إلى التلاعب بالأعراض والأخلاق من دون حسيب ولا رقيب.
أين الخلل في نفوس هؤلاء؛ هل هو في عقائد فاسدة لا تثق بالله، أم هو الطمع واللؤم خامرا النفس منذ أيام الجوع والعزلة في صحرائهم، أم هو الخوف العميق الذي له سلطان على النفس والبلدان وقد غمر أهل الصحراء عبر القرون، خوف بكل صنوفه من الخوف من الجوع والطواعين والنهب والسلب وغيرها من الأدواء التي جعلت أهل البلاد يحرصون على البقاء ويتشبثون بالحياة ولو كانت من قبيل المذلة ثم يتعلقون بكل الموضات من خطب الخير والصلاح، إبراء للذمم أو تلعقا بما فعله غيرهم، لأنهم لا يفكرون، بل يحاكون، والمحاكاة لدى أهل الخيام علم قائم بذاته، يمكنهم من تلافي التعب في بذل الجهد تحصيلا للفكرة أو طلبا للفائدة، فيخطفونها بمحاكاة غيرهم، وهو أيضا سلوك انتهازي يجعلهم لا يلقون بالا للملكية الفكرية، بل يسرقون جهد المؤرخ وعمل الفقيه و تراث الأديب ولا يبالون لا بعزو ولا إحالة، لأن ذلك من قبيل الضعف والتبعية للغير، هو التلصص والنهب والسلب والتحايل كما يمارسونه في كل الميادين الأخرى.
أما الشهادة فلا تتعبهم أصلا، لأنهم “قوم بُهْتُ”، لا يشهدون بالحق ولا يصدقون في القول، بل هم على قاعدة “قلت فيه أحسن ما علمت ثم قلت فيه أقبح ما أعرف”.
ازدواجية عميقة في نفوس “أهل الخيام” تجعلهم يفعلون الشيء ونقيضه ويؤمنون بما يشبه الجبت والطاغوت ثم يلقون إلى التدين الشعائري باليد والرسن.
عقلية النسيان
يجدها أهل الخيام أنجع وسيلة للتغلب على الآلام والفواجع، ثم تستحيل لديهم سلوكا تعمره التقية والتكتم، فلا يفصحون عن آلامهم وأخطائهم إلا نادرا، ثم صار ذلك مدخلا إلى هدر الدماء والأعراض والأموال، فلا حمية ولا كرامة.
عقائد مهزوزة وتديّن مغشوش وأفكار غائمة، زادها الفراغ الناتج عن نهاية الإيديولوجيات في الغرب والشرق التي كانت تحفظ للسياسة ذماء المنطق والمعنى، ثم انهارت كما انهار كل شيئ تحت وقع الممارسات السلطوية والزبونية التي أفرغت كل فعل وخطاب من مضمونه وجوهره، ليبقى شاخصا فارغا من الضمير والمعنى والنور.
حتى المؤسسات التربوية والأكاديمية والثقافية، صارت هياكل فارغة من كل شيئ، من الفعل الخلاّق إلى الضمير الحي، فأصبحت وكرا للممارسات العفنة التي يندى لها الجبين، من الجهل إلى التزوير في الكليات إلى الفواحش و الموبقات في معاهد الدين والتربية، تحت سمع وبصر من يديرونها وفي ظل من يحكمون البلد بأسره.
جوهر السلوك التجاري لدى التربويين والجامعيين هو النميمة والوشاية والتخابر، إنهم يبيعون الكلام القذر بعد أن تنكبوا صنْعة التدريس وحرفة التعليم وقنعوا بأن يكونوا مع الخوالف ذيولا تسحبها وأبوالا تتمسح بها جماعات الفساد.
أذكر كلمة بليغة سمعتها من صديقي ووالدي محمد بن مولود بن داده (الشنافي) عليه رحمة الله، وكان يكررها دائما: نحن أهل الخيام نصرﮔوا اعلَ روصنا (إننا نسرق من متاعنا)؟ عبارة يتكرر صداها في أذني ووجداني كلما رأيت رجالا يعرفون بسيماهم من أرباب السياسة والتجارة والعلم يسرقون مالا وفيرا ثم يبنون ريعا كبيرا وعرضا مبينا، ثم لا يقنعون حتى يتبعون الحجة بالعمرات ويوالون الصدقات بالصدقات، فرارا من جهنم التي تقيل معهم قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وستسوقهم ذات يوم إلى محشرهم كنار عدن أبْين الموعودة؟
لقد أصبح بعض المؤرخين المحترفين، العالمين ببواطن التاريخ والاجتماع، مقتنعين بأنه لا وجود لمجتمع بعينه أو تاريخ حقيقي لأهل هذه البلاد التي يجمع سكانها من صنوف الفوضى والفساد والتحايل والكفر بكل قيمة ومنطق ما لم يجتمع في “أدنى” شعب على وجه المعمورة ثم لا يكلّون عن مدح أنفسهم والتغني بأمجادها والتقدم في المحافل والنوادي والجموع، بوجوه قُدّتَ من صخر أو من حديد ونحاس.
فقهاء لم تتمعّر وجوههم غضبا لله ساعة من نهار، ورجال تربية وعلم يكفرون بما علموا، وساسة لا يؤمنون بشيئ، وآخرون مُرْجون لأمر الله والكل مُرْجًى!
يصدون عن سبيل الله
في بلد خليجي كانت تعمل سكرتيرة أجنبية مسيحية لدى إحدى سفارات أهل الخيام، وكان السفير ممن يشار إليهم بالبركة والصلاح، لكن السكرتيرة وقد عملت مع الرجل سنوات، وخبرت أمره ظاهرا وباطنا وأعلنتها صريحة أمام جموع من مرتادي السفارة: كنت أميل إلى دينكم السمح، لكنني لن أدخل دينا يمثله هذا الرجل الذي هو إمام فيكم!
بلد غريب
الداخل مفقود والخارج منه مولود، لكن أهله لا يبدلونه بأية بلاد أخرى، بل لا تطمئن نفوسهم إلا في ربوعه وفيافيه.
والسر ليس غامضا ولا ممتنعا، إنهم الطبع الغلّاب والهوى المُتّبع والنفس الأمّارة والفعل الجموح، لا يجدون لذلك موطنا مناسبا ولا مجالا رحبا إلا في بلدهم الاستثناء، حيث لا حساب ولا عقاب ولا قيود، يفعلون ما يشاءون ويقولون ما يريدون.
يتبولون في الشوارع وتحت العربات أو على رؤوس الناس، لا مانع، ويسرقون ما خف وغلا من أموال الناس فيبنون المنازل الفارهة رياء وسمعة وإفسادا وقد يتركونها للبوم والغربان، ويهرعون سراعا إلى المنادي ويصطفون للصلاة وهم خارجها أبعد الناس عن معانيها، حيث تشعر بعظمة الله فتصير وازعا في النفس ونبراسا للروح تمنع من الفحشاء وتهدي إلى العلياء.
ما السر في أن هؤلاء البدو الصحراويين يتحللون بسرعة مذهلة من كل قيد خلقي أو مدني، كلما تمهد لهم ذلك، ليس لذلك من تفسير إلا أنهم يحرصون على تديُّن موروث لا صلة له بالواقع.
تدين شكلاني قوامه صلاة من دون طهارة يسرق منها صاحبها ما شاء ويحك رأسه مرارا وقد يدخل يده في جيبه من غير رهب، ثم لا يفتأ يبحلق في السماء والأرض، وميل شديد إلى الشعوذة والخرافة وجهل بالبدع والفتن، وقلما يسلمون منها، بل يجعلونها دينا ومنهجا، عصبية وجهلا.
بلاد فيها عفا التدين الزاوي (الصنهاجي ـ الإفريقي) على ما أنجزه المرابطون من ظاهرية سلفية وميز مذهبي، ورث أهلها دينا غريبا، يذهب صاحبه كل مذهب في الدرس والحفظ، ثم يفعل ما يشاء من دون وازع ولا رادع، يلبس لكل حالة لبوسها، حسب الرغبة والإمكان والطلب والعرض، إنها التجارة دائما وبكل شيء بالدين والعرض والنفس..
كانت تجارتهم مع سكان الجنوب في السهول والغابات، تجارة صامتة قبل الميلاد، ليس فيها احتكاك مباشر ولا تعارف، ثم استحالت بيعا وشراء للملح والذهب وأصناف المعروضات، فكانت دعوة وتجارة وبضاعة وأمانة، ثم انقلب الحال إلى بيع ريع البركات والخرافات بين عوام الزنوج، أو غارات تلو الغارات لسبي الصغار وبيعهم عبيدا في بعض الأحيان، ثم جالوا في موانئ العالم ومطاراته، يفسدون ويسرقون، ويذهبون بالرِّشا كل مذهب، حتى أفسدوا كل نظام دخلوه من الجمرك إلى الشرطة وحتى العيادات الطبية الأجنبية.
ويشهدون شهادة الزور وينافقون الحاكم بكل صنوف القاذورات شعرا ونثرا ويقلبون له الحقائق دجلا وفسقا، قانونا وسياسة، وتسيل أشداقهم بالسباب والشتائم كقيئ السكارى، وقد يلصق بعضهم صنوف التهم الكاذبة الخاطئة بابن عمه أو صديقه أو جاره حين يختصمان أو يختلفان، فلا يوفر أحدهما شيئا من البهتان والدجل والطعن في الأصل والرفع والتنقيص من الروح والبدن، ثم لا يرون في كل ذلك منكرا ولا بأسا، وحين يغضب بعضهم من بعض أو يكرهون بعضهم، ينهش بعضهم بعضا وقد يقتتلون أشد ما يكون القتال، ما لا يبذلون منه نقيرا لدفع من يصول على عرضهم وبيضتهم في الداخل والخارج.
لم يكسب أهل الخيام حداثة ولم يحفظوا أصالة، فتاهوا في بيداء الوهم ومضلات الفتن، إنهم في تيه صحراوي عميق، في فجوة من زمان آخر، بين العوالم المتوازية، يتصلون ببني جنسهم كما يتصل الجن بالإنس مسا ولمسا، وقد يخرجون سرعا عبر فجوة زمنية فيفسدون ويرفثون، في عواصم العالم الأول أو الأخير، ثم يعودون من حيث أتوا.
لا يعترفون بالخطأ ولا يصرحون بالنقص
يعرفون أنهم ليسو ملائكة، بل هم يقينا من أدنى البشرية، لكن لديهم إصرارا غريبا على عدم الاعتراف بالتقصير ورفض التصريح بالنقص.
طيلة 20 سنة في الجامعة، طالبا ومدرسا، لم أشهد يوما طالبا يصرح بأنه قصّر في بذل الجهد، بل يبحلق في السماء ويبصق في الأرض ويمر يده اليسري على وجهه غير الصبوح ثم يرمق المدرس ومن حوله قائلا: إنما كنت تعبا و كنت مسافرا وكنت نائما .. وأشياء من هذا القبيل، المهم أن يفهمك بلغة ركيكة ملتوية أنه ليس مقصرا وليس جاهلا بما لم يُجب عنه، لتفهم أنك أنت المقصر والجاهل وليس هو، هذا ما يريد وهو الخطاب البلاغي الوحيد الذي يحسنه ويعرضه.
هو ذاته حال أهل الخيام جميعا متعلمين وجاهلين، عامة وخاصة، وجدوا هكذا كما كان أسلافهم، لم يخطئوا يوما وليس في حياتهم نقص ولا نقيصة، ولا خطأ ولا تقصير، وعليك أن تفهم أن “الناس لا يقال لها إلا ما تريد ولا تريد سماع إلا ما يسرها ويريحها”، هكذا بالعبارة الدارجة، أما أن تُفهم المتعلم منهم في مدرج جامعي أو قاعة درس أن أسلافه هم من البشر يخطئون ويصيبون، ينالهم الرخاء ويصيبهم العوز وينتصرون وينهزمون، ويذهبون لبيوت الخلاء ولو من غير صرف صحي ولا مرضي، وأنه إن لم يجعلهم كذلك فهم إما ملائكة أو خارج التاريخ، فأنت الجهول بمدارك الاجتماع والجاهل بحقائق التاريخ الذي لا معنى له في بلاد يذوب الزمان بين رمالها الصفراء ويتحول المكان إلى أطلال في ذاكرة تمحى كل مائة سنة وتجبّ ما قبلها من غير نكير.
كل ذلك جعل أولي البصائر يقتنعون أنهم يحرثون في البحر أو يغطون الشمس بالغربال، ويتعبون أنفسهم في غير طائل، لأن هذا الشعب لم يعد يريد التفكير مطلقا، بل يريد الميل إلى الدعة والسكون في ظلال الجهل والهوى و لا يريد أن يعكر صفوه أي حديث عن النظام والمنطق والعمل والأخلاق والمستقبل، فهذه كلها من علامات الشؤم والجنون.
أذلة وهم صاغرون
يُظهر هؤلاء البدو من صنوف الكراهية والشراسة ما لا يتصور حين يختلفون أو يقتتلون، ثم هم أمام الأجنبي البعيد والقريب، غاية في الذل والصغار، ويقنعون بما يريد ويلقون إليه باليد والرّسَن.
تجدهم في مطارات العالم يقدمون الهدايا الثمينة و”البقشيش” السخي، للعاملين البسطاء من شرطة وجمارك، من غير سبب وجيه ولا وجه صحيح، بل هو الجهل بأصول المدنية والذل والصغار أمام الآخر، فيزيده ذلك احتقارا لهم وابتزازا في الآن نفسه.
إذا لم يراجع “أهل الخيام” أنفسهم بأمر جامع ينقذهم من الجهل وانفراط العقد وتحلل القيم، فهم داخلون لا محالة في حقل الممارسات القلقة وربما النهايات التراجيدية الغريبة.
لن يصلحهم إلا الكوارث والمحن؛ أمواج البحر التي ستغمرهم في بضع سنين وتهلك حرثهم ونسلهم، أو فتن كقطع الليل المظلم تعركهم عرك الرحى بثفالها، ثم لا لا يتوبون من قريب فلا تتركهم حتى تميزهم إلى فسطاطين أحدهما فيه جمع كثير من الفاسدين والمنافقين لكنه كغثاء السيل، والآخر فيه ثلة من أولي البصائر من أرباب الضمائر المتمدّنة (حداثيون منصفون) و أصحاب القلوب المؤمنة (تأصيليون صادقون)، ثم يذهب كل إلى غايته.
والحق إن بلدا يحكمه العسكر ومجتمعا تديره النساء، لهالك لا محالة أو مُعذّب عذابا شديدا؟
والله وارث الأرض ومن عليها
تلك مقالة مهلهلة النسج عن بعض صور الفساد بين شعبنا
ويأتي حديث أكثر تدقيقا عن “سبل الإصلاح”.