تسعى أحدث لعبة تخمينات (للمواقف السياسية الملتبسة) في واشنطن إلى تحديد حقيقة هل أن المدعي الخاص، روبرت مولر، يحقق حاليا في إعاقة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لسير العدالة في التحقيق بشأن تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأمريكية أم لا؟
نفى محامو ترامب هذه التهمة، لكن يبدو أن الرئيس نفسه يؤكدها، بينما يلتزم مولر من جانبه الصمت، بيد أن كل هذه التخمينات تغفل السؤال الأكبر وهو: ماذا سيحدث إذا لم يقتصرعمل مولر على مجرد النظر في أخطاء جنائية محتملة ارتكبها الرئيس، بل انتهى إلى اكتشافها واثباتها.
إن مثل هذا الاحتمال يفتح صندوق باندورا (صندوق الشرور في الميثولوجيا الإغريقية) قانونيا، وهو الاحتمال الذي ربما على مولر أن يفكر مليا قبل المضي قدما فيه.
ونضع هنا بعض السيناريوهات المحتملة في حال ثبوت التورط بذلك بالأدلة القاطعة.
تقريرإلى الكونغرس
تقتضي السبل التقليدية (إذا صح استخدام كلمة تقليدية هنا) لمعالجة الجرائم الرئاسية، والتي استخدمت ثلاث مرات فقط من قبل في التاريخ الأمريكي، بدء إجراءات سحب الثقة في مجلس النواب وتتبعها محاكمة في مجلس الشيوخ (يصبح فيها اعضاء المجلس بمثابة هيئة محلفين كبرى).
ويستدعي البدء في إجراءات سحب الثقة موافقة أغلبية بسيطة في مجلس النواب، لكن الأمر يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الشيوخ لإتمام إجراءات عزل الرئيس. وهذا فعل سياسي، كما لُوحظ دائما، حيث تكون حيثيات وأسباب الدعوى هي الأمر الأساسي، مهما كان قرار الكونغرس.
وإذا كان هذا المسار هو ما سيتبعه مولر، فإن تحقيقه مع الرئيس قد ينتهي بارسال تقرير إلى وزارة العدل، التي يمكن أن تمرره لاحقا إلى زعماء الكونغرس. ولا توجد أي مواد قانونية ملزمة لجعل تفاصيله علنية، على الرغم من أن الضغط على السياسيين لإعلانها سيكون هائلا.
وستترسم هذه العملية المسار الذي وضعه المدعي الخاص، كين ستار، عندما نظر في أخطاء محتملة من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في عام 1998، (قضية اتهامه بالتحرش الجنسي بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي). وفي هذا المثال، خلص المستشار المستقل إلى أن الرئيس حينذاك قد يكون ضالعا في سلوك إجرامي وقدم الأدلة التي تدعم خلاصته تلك إلى الكونغرس لاتخاذ ما يراه مناسبا.
وبدأت إجراءات سحب الثقة، لكن لم تتوفر أصوات كافية لإدانته في مجلس الشيوخ (وهي موافقة ثلثي الأعضاء).
اتهام ومحاكمة
وما لم يقرر ستار فعله في تحقيقه هو السعي إلى توجيه اتهام جنائي للرئيس. ففي الوقت الذي تشير فيه الحكمة التقليدية السائدة إلى أن هذا الخيار لا ينتهي إلى نتيجة، ثمة بعض وجهات النظر المختلفة بهذا الشأن في الوسط القانوني. وعلى الرغم من أن الدستور الأمريكي واضح فيما يتعلق بسحب الثقة، إلا أنه صامت تماما عن الحديث عن موضوع توجيه اتهامات جنائية ضد رئيس مازال في منصبه.
وعندما كان قضاة المحكمة العليا ينظرون في إصدار مذكرة استدعاء بحق الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، بشأن قضية أشرطة التسجيل في المكتب البيضاوي (في فضيحة واترغيت في سبعينيات القرن الماضي)، قال لهم ليون جاورسكي، المحقق الخاص في القضية إن "السؤال الجوهري المطروح حاليا: هل يمكن أن يكون رئيس مازال في منصبه عرضة للائحة اتهام؟".
وقد استقال نيكسون قبل أن يخضع لإجراءات سحب الثقة، ثم حصل لاحقا على عفو من الرئيس جيرالد فورد، لكن المدعي الخاص في القضية قد وسمه بأنه "مشارك في التآمرلم يتهم بعد" في قضيته المرفوعة ضد العديد من مساعدي الرئيس.
ويميل هؤلاء الذين يعتقدون أن قرار توجيه الاتهام الى الرئيس أمر مستحيل إلى الإشارة إلى أنه من غير العملي اتهام شخص ما يمتلك السلطة القانونية للعفو عن نفسه، فضلا عن وجود فقرة في الدستور تشير إلى أن عزل الرئيس من منصبه عبر سحب الثقة لا يمنع توجيه تهم جنائية ضده.
وهذا يشير كما يقولون إلى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة رأوا بأن أي إجراءات جنائية يجب أن تتم بعد خروج الرئيس من السلطة.
كما أن إعطاء السلطة القضائية قدرة معاقبة الرئيس أثناء حكمه قد تؤثر على المبدأ الدستوري الذي يقضي بضرورة الفصل بين السلطات الثلاث في الحكومة الأمريكية: السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. والقضاة هم فرع السلطة الأقل خضوعا لمحاسبة الناخبين الأمريكيين، وهذا ما يفسر حجة: لماذا قرر الآباء المؤسسون وضع سلطة عزل الرئيس في يد الكونغرس، بأعضائه الذين يمتلكون تفويضا انتخابيا من الشعب.
وتصف سوزان بلوتش، أستاذة القانون الدستوري في جامعة جورج تاون والتي درست مدى قانونية توجيه لائحة اتهام للرئيس، فرضية محاكمة الرئيس ومن ثم احتمالية إدانته بالسجن أثناء وجوده في السلطة بأنها أمر "مثير للسخرية".
وتقول :"لا يجب أن تُخضع رئيسا لإجراءات محاكمة جنائية وهو في الحكم، على الرغم من أن نص (الدستور) يسمح بهذا، لكنني أعتقد أن الاعتبارات العملية تؤكد على أنك لا يجب أن تجعل الرئيس يقلق بشأن إجراءات جنائية".
في حين أن المحكمة العليا الأمريكية أقرت إمكانية خضوع رئيس وهو في منصبه لمحاكمة مدنية في القضية التي عرفت باسم (جونزضد كلينتون) - أي قضية التحرش الجنسي التي رفعت ضد الرئيس كلينتون والتي أدت في النهاية الى سحب الثقة منه-، لكن العقوبات في مثل هذه القضايا تكون مالية تنتهي بدفع غرامة وليس بالسجن.
وترى بلوتش أن المحكمة العليا أخطأت في تقدير مدى الضرر الذي ستتسبب فيه حتى الإجراءات القانونية المدنية للرئاسة الأمريكية. إذ توقفت الأعمال التجارية في البلاد خلال إجراءات سحب الثقة اللاحقة من كلينتون. وهو ما سيجعل أي محاكمة جنائية رئاسية أمرا أكثر تدميرا وتخريبا.
وكان جاي سيكولو، أحد محامي الرئيس ترامب الشخصيين، قد رفض شرعية توجيه لائحة اتهام للرئيس في مقابلة تلفزيونية جرت مؤخرا، مستشهدا بدليل القواعد الارشادية لسياسة وزارة العدل الأمريكية الذي يرجع تاريخه إلى فضيحة واترغيت.
واقتبس من التقرير الصادر عن مكتب المستشار القانوني بوزارة العدل قوله "إن لائحة اتهام أو ملاحقة قضائية جنائية لرئيس أمريكي وهو في منصبه ستكون غير دستورية لأنها ستتعارض مع قدرة الرئيس على أداء مهامه المكلف بها دستوريا، وبالتالي سيكون ذلك غير متسق مع بنية الدستور".
لذلك فإن مولر المدعي الخاص في قضية ترامب وبصفته موظفا بوزارة العدل، سيكون ملزما بالالتزام بهذا الدليل والمبادئ التوجيهية، الأمر الذي سيضع حدا للمناقشة بشأن لائحة الاتهام قبل أن تبدأ فعلا.
ويعارض مؤيدو جعل الرئيس عرضة لمواجهة التهم الجنائية قضية أن الحصانة الرئاسية المؤقتة تستند إلى تفسير شخصي للأحكام الدستورية. ويدفعون بأن الآباء المؤسسين إذا أرادوا وضع الرؤساء فوق القانون أثناء وجودهم في الحكم، لكانوا قد قالوا ذلك صراحة.
مولر
ولديهم أيضا حججهم العملية لصالح الإجراءات الجنائية الفورية. ومنها أن تأجيل إجراءات التقاضي حتى مغادرة الرئيس منصبه، على سبيل المثال، قد يؤدي إلى جعل المهمة أكثر صعوبة جراء فقدان الأدلة أو تدميرها واحتمال موت الشهود أو نسيانهم تفاصيل هامة.
ويشير البروفيسور إريك فريدمان، في مقال بعنوان "مراجعة قانون هوفسترا" نشر في عام 1999، إلى أن مسؤولين آخرين في الإدارة، ومنهم من شغل منصب نائب الرئيس، خضعوا لتوجيه الاتهام اليهم أثناء وجودهم في المنصب، كما حوكم بعض القضاة الاتحاديين ودخلوا السجن قبل أن يعزلهم الكونغرس.
وكتب أيضا أن "تفسير الدستور لحماية الرئيس الحالي من المسؤولية الجنائية لن يغذي الأوهام الاستبدادية المسيطرة على عدد كبير جدا من كبار المسؤولين الأمريكيين في هذا القرن فحسب، بل سيقوض أيضا المفهوم الجوهري الذي ينص على أن الرئيس مواطن عادي يمارس السلطة التي منحها له الشعب بشكل مؤقت".
تعليق قرار الاتهام
وتردد حل ثالث محتمل في مذكرة مكتب المستشار القانوني على الرغم من أن وزارة العدل رفضتها في نهاية المطاف، وهو هل يمكن لهيئة محلفين كبرى توجيه لائحة اتهام للرئيس، ثم تعلق المحاكمة لما بعد مغادرته منصبه التنفيذي؟
من المؤكد أن ذلك سيمنع مثول رئيس في قفص الاتهام وهو في منصبه، ولكنه سيسمح بدوران عجلة العدالة. بيد أن وجهة نظر وزارة العدل كانت أن السحابة السياسية الناجمة عن ذلك ستكون سامة بالتأكيد.
وقالت وزارة العدل في تقريرها الصادر عام 1973 "بالنظر إلى واقع السياسة الحديثة ووسائل الإعلام، وحساسية العلاقات السياسية التي تحيط بالرئاسة داخليا وخارجيا ، ستكون هناك مقامرة (روليت روسي) خطيرة في حال اتهام الرئيس ثم تأجيل المحاكمة، على أمل الحفاظ على سلطة الحكم".
وحتى لو كان شخص ما منيعا ومحصنا ضد (رصاص) الصدمات مثل الرئيس ترامب فإنه سيكون من الصعب عليه النجاة من مثل هذا المشهد.
ولن يستغرق الأمر وقتا طويلا بالنسبة لمعارضي الرئيس ترامب، حتى يهاجموه مستخدمين ما قاله خلال حملته الرئاسية محذرا من التداعيات الوخيمة لفوزهيلاري كلينتون بالرئاسة في وقت كانت فيه هدفا لتحقيق جنائي.
ومن المؤكد أنهم سيقدرون السخرية هنا، على الرغم من المرارة التي قد تكون فيها.