د. ابتهال الخطيب
«سأقتل كل المسلمين» قالها الإرهابي وهو يحاول دهس مجموعة من المسلمين الخارجين من المسجد بعد أدائهم لصلاة التراويح بضعة أيام مضت. جملة غريبة ترن ببشاعة في الأذن ليس فقط من واقع أنها لكائن حي يحاول قتل آخرين من بني جنسه، ولكن لأن هذا الكائن لم يبقِ حتى على بدائيته، لم تدفع به للقتل حاجة لطعام أو مأوى أو دفاع عن النفس، هو قتل حديث «متحضر»، قتل صنعته أزمان وأيديولوجيات وأفكار وفلسفات حتى استوى واجباً بل وأحياناً شرفاً للقائم عليه، يقتنص به حقه ويقتص من خلاله ممن أذاه ويعلن عن طريقه احتجاجه على ظلم أو إيمانه برسالة. خلطة فكرية غريبة لبدائية جسدية لم يعرف الإنسان من خلالها سوى العنف والقتل معجونة بتحضر فكري حديث يبرر ويمنطق ويفلسف هذا القتل صانعاً منه فعلاً مقبولاً بل ومطلباً شريفاً. وهكذا جررنا معنا بدائيتنا وصولاً إلى القرن الواحد والعشرين، حيث تخلينا عن الكثير من البشاعة خلال هذه الرحلة إلا أشدها، فلا يزال القتل المبرر بتبريرات أيديولوجية ودينية، مضافاً اليه القتل بإسم المفهوم الحديث للوطنية، فعلاً مستمراً قوياً بين البشر، تزهق باسمه أقل الأرواح تورطاً وأكثرها براءة والتي عادة ما تكون للأطفال أو المدنيين العزل الذين يعاملهم القتلة على أنهم خسائر جانبية لا مفر منها.
منذ سنة تقريباً دخل مسلح فلسطيني الى مركز تسوق تجاري في قلب المدينة المسمّاة تل أبيب فاتحاً النار على المتسوقين، حيث إنتهى الأمر الى مقتل عدد من الموجودين بالإضافة الى الشاب المسلح بحد ذاته. وقتها كتبت على تويتر أن «فتح النار على مدنيين في مجمع تجاري، هذا هو النضال ضد الغزاة؟» حيث جاءت ردة الفعل في معظمها عنيفة تجاه تغريدتي تلك. وكانت لبعض المعلقين ردود منطقية في الواقع، منها مثلاً أن أرض فلسطين كلها تعتبر أرض حرب طالما يطأها غزاة، وأنه لا خيارات كثيرة أمام الفلسطينيين في نضالهم سوى اللجوء لهذه الأساليب لاستحضار إنتباه العالم ولصنع خروق في الجدار الصهيوني الصلب البشع، وأن المدنيين مدانون بقبولهم العيش في منطقة مسروقة، وغيرها من الحجج التي تبدو ذات بعد منطقي لو أننا نقرأها في كتاب تاريخ، الا أنها تبدو مغموسة في الدماء ونحن نتداولها حجة في لحظة الحدث لنبرر بها مقتل مدنيين أبرياء ولدوا ليجدوا أنفسهم على أرض مسلوبة، لم يختاروها عمداً ولم يعرفوا غيرها وطناً، بعضهم يستنكر وجوده الدخيل عليها وبعضهم مشبع بحقه الديني فيها، الا أن أياً منهم لم يختر هذه السرقة العلنية، لربما لم يرفع سلاحاً مطلقاً ولا يحمل سوى الحب لأرض ورثها له أسلافه نهباً.
ومع فارق الموقعين والحالتين، هؤلاء مواطنون ومقيمون مسلمون على الأراضي البريطانية يخرجون من مسجد قابلوا فيه وجه رب كريم في ليلة رمضان، وهؤلاء أحفاد سلاّب أرض ولدوا ليجدوا أنفسهم لها وعليها من دون اختيار، يتبضعون في سوق تجارية مع صغارهم من دون نية شر أو أذى لآخرين، هؤلاء يتعايشون مع البريطانيين أحياناً حباً وأحياناً بغضاً، وهؤلاء يتعايشون وأصحاب الأرض من الفلسطينيين أحياناً إحتراماً وأحياناً جهلاً وتجاهلاً، مع كل هذه الفوارق، تبقى المتشابهات كثيرة، أهمها أن هؤلاء وأولئك بشر مدنيون لا ذنب لهم في الصراع الدائر بغض النظر عن تواريخهم وبغض النظر عن أفكارهم الدفينة في نفوسهم. فكما يقول البعض بأن كل من يعيش من اليهود على الأراضي المحتلة متشبع بفكرة الأحقية اليهودية للأرض ولذا يستباح دمه. يمكن إستخدام ذات الحجة بأن كل المسلمين مشبعون بفكرة سيادة دينهم على الأرض ولو جهاداً مسلحاً ولذا تستباح دماؤهم، وفي الحالتين قراءة للنوايا وإصدار أحكام على أشخاص ولدوا في منظومات لم يختاروا تطرفاتها، فلا كل المسلمين يفكرون بهذه الطريقة ويؤمنون بهذا المبدأ ولا كل اليهود قابلون بالوضع البشع الراهن. الحالة السياسية والمعطيات الخارجية مختلفة تماماً بين مقتل المسلمين الخارجين من المسجد ومقتل الإسرائيليين في مول تجاري، لكن الحالة الإنسانية واحدة، البشاعة واحدة، والعنف واحد مهما حاولت الأطراف المختلفة فلسفته وتبريره.
علّق البعض أن تلك بضاعة المسلمين ردت إليهم، ونقول لهؤلاء عار عليكم تشمتوا في أبرياء فرغوا للتو من لقاء ربهم الروحاني من دون أن يؤذوا أحداً، عار عليكم أن تقبلوا رد البشاعة ببشاعة وغسل الدماء بمزيد من الدماء، كما علّق البعض أن تلك بضاعة الصهاينة ردت اليهم، ونقول لهؤلاء مخجل أن تشمتوا في مقتل مدنيين بينهم أطفال أبرياء لم يؤذوا أحداً ولم يختاروا الظلم الذي فرضه أسلافهم على أصحاب الأرض، مخجل أن تقبلوا رد البشاعة ببشاعة وغسل الدماء بدماء الأبرياء. أعلم طبعاً أن من يده في الماء غير من يده في النار، وأن الفلسطينيين يعيشون صراعاً طويلاً ممتداً ويعانون صلافة وبشاعة العدو الصهيوني بشكل يومي مما يجعل خياراتهم محدودة وأفعالهم مضغوطة بفعل التاريخ والمعاناة والظلم الطويل، ومع ذلك يبقى المبدأ أن دوماً ما يجب البحث عن خيار أفضل، عن وسيلة أقل بشاعة وأكثر إنسانية (لربما في اختيار الموقع والهدف البعيد عن المدنيين على سبيل المثال) حتى في الدفاع عن الوجود والمعتقد والنفس والأرض. دائرة الدم مغلقة، لا يجففها سوى قطع مسارها، سوى الإمتناع عن رد الروح بالروح وثأر الجسد بالجسد. نختار بإنسانية لا بداروينية وإن كنا قد تكونا من خلال مسارها، أن نكون قد جئنا من خلال التطور الدارويني لا يعني بالضرورة أن نحيا من خلال مفاهيم الجينات الأنانية*، نمتلك اليوم من الوعي والضمير والتطور العقلي ما يمكننا من أن نسمو ونختار الأفضل، فلنفعل.
٭ نسبة لكتاب ريتشارد دوكنز The Selfish Gene