بروين حبيب
عشر سنوات مرت على غياب نازك الملائكة، سيدة الشعر الحر، وواحدة من حلقة شعراء أنجبتهم بغداد ليحدثوا التجديد في الشعر العربي المعاصر. حلقة بدأت
تتسع حتى شملت كل العالم العربي بأقطابه. وما أثير حينها من سجالات، يعلمها الله وحده، لأنه لشدة أهميته واتساعه خرج من المنابر الإعلامية ليتوغل في الجامعات والصالونات الأدبية ولقاءات المقاهي، بين أهل الشعر والأدب، ولم يهدأ إلى اليوم حتى وصوت الشعر خامد أو غير مسموع.
عشر سنوات كانت كافية ليغطي غبار النسيان إسم هذه الشاعرة، ولا أدري هل طال هذا الغبار رفوف الجامعات أو أن الجمود أصاب الماكنة الإعلامية لقلّة «الضخ» فيها. إذ أن نكسة الإعلام على المستوى العربي لم يشهد لها مثيل، سواء على مستوى «تأديب» الجهات الممولة لأغلب المنابر الإعلامية، ما أدى إلى نفاد صبر الإعلاميين، وتعاطيهم المهنة بقلوب شبه ميتة، أو على مستوى طغيان الموضوع السياسي على الاهتمام العام ما جعل شاعرة مثل نازك الملائكة – أقلّت في أعمالها وإن جدّدت- تنتهي سريعا في ذاكرة المثقفين إلا من عاصرها وعايش فترتها من قريب أو بعيد، ويجيء ذكرها في كلامه مرتبطا بشهادة شخصية.
ومع أن حياة نازك الملائكة ثرية وخارجة عن المألوف، إلاّ أنها لم تجذب صناع المهرجانات والمحافل الأدبية، فبالكاد عاشت الجائزة الموسومة باسمها لعدّة
سنوات ثم ذوت، ولا أدري صدقا هل لا تزال مستمرة بعيدا عن الأضواء؟ أم أنها انطفأت تماما؟ فقد غابت فجأة ولم يثر غيابها أي علامات استفهام، مع أن اسم نازك الملائكة المقترن بثورة كبيرة أحدثتها في الشعر، وفي حكايات اليومي الثقافي على أيامها لم تلاق أي اهتمام، لإخراج تفاصيل حياتها من تحت الرّدم وتحويلها لعمل درامي مثلا، مع أن ملايين الدولارات أهدرت على أعمال ملأت الفضائيات في هذا الشهر الفضيل، دون أن تنال اهتمامنا، بل إن بعضها لم يدخل دائرة الرؤية بتاتا، لأنّه أسوأ من أن يذكر.
وقد تساءلت بيني وبين نفسي لماذا ألقت الدراما العربية الضوء على الأسماء التي عكّرت صفو حياتنا، دينيا وسياسيا، ولم تهتم بمن صنعوا فرحنا ورمموا قلوبنا المجروحة وخلقوا أجواء ارتقت بنا عن توافه الأمور؟ لماذا غاب المثقف الحقيقي عن جلّ ما يقدم لنا على الفضائيات العربية، وتحشى به رؤوس متابعي مواقع التواصل الاجتماعي؟
وصدقا أخبركم أنني منذ تلك اللحظة الفارقة التي عشتها أمام العراقي هشام الذهبي ورهانه الصعب على استثماره الثقافي في أطفال الشوارع، ونجاحه منقطع النظير، وأنا مفعمة بأمل غير طبيعي على أن الثقافة هي الحل.
ألف عذر يخطر على البال، حين نقول إن نازك نسيت أو قُرِّر لها أن تُنسى، فهي عراقية، والعراق غير مستقر بعد حرب شعواء شوّهت أعماقه، وهي امرأة وحظ النساء عندنا نصف حظ الرّجال، إن توفّر لهن حظ، وهي تنام في منفاها في مصر، والمنافي وإن كانت في بعض الأحيان جميلة للأحياء، إلاّ أنها للموتى مسح نهائي للذاكرة. وهي شاعرة، والشعر بعد مراحل التجديد والتحديث والتقليد والدخول في المتاهات الإلكترونية ما عاد يغري لا الناشرين ولا المستثمرين في قطاع الثقافة.
بؤس حقيقي يحاصر الشاعرة العراقية من كل الجهات، لكن كما قلت حين وقفت أمام هشام الذهبي وعجزت عن إيقاف دموعي وأنا أرى ما أنجزه بالشعر والموسيقى والفن مع أطفاله الذين جمعهم من الشارع، أدركت أن الأقدار أوصلته إلى ذلك المكان، ليؤكد أن زمن المعجزات لم ينته ما دام صانع المعجزة له إرادة تفوق الحديد صلابة، وهي معجزة الحب، وما دام السلاح هو الثقافة. وإن استحضرت هذا الشاب العراقي النبيل فلكي أصد كل الردود السلبية التي تتحجج بوضع العراق المزري، فإن كان العراق مطعونا فهل نزيده طعنا؟
لم أسمع أن الحياة توقفت في بغداد، ولم أسمع أن الناس توقفوا عن قراءة الشعر والأدب عموما في العراق، فقد فوجئت دوما بالأرقام التي تصلنا من هناك وتتحدث عن نسبة القراءة، ونازك الملائكة لا تزال تتجوّل في أروقة الجامعات هناك، فهل ترانا نحن من نتّحد لإخفاء اسمها والتّعتيم عليه؟ وأنّ النكران لها من خارج العراق لا من داخله؟
أطرح الأسئلة وأنا لا أملك من الأجوبة غير احتمالات وتخمينات، فقد تمنيت بعد عشر سنوات من غيابها، وفي ذكرى مولدها الرابعة والتسعين، التي ستحل قريبا في الثالث والعشرين من شهر أغسطس/آب أن يتذكرها أهل الشعر أكثر، وجمهور الكتاب وهو ليس بقليل، ومن بقوا متمسكين بخشبة الخلاص الإعلامية، ومن لهم مورد مال للاستثمار في الثقافة ويتماطلون. ليتهم يحيون ذكراها بما يليق بها، فقد عاشت طويلا ونحن للأسف مجتمع لا يحترم رموزه ولا كباره، وهذا من أسوأ أمراضنا المزمنة، نهيم في هلام زمني أشبه بالطريق التي شُقّت في الفلات دون دلالات توصل لهدف. وقد همّشت بما يكفي لنراجع أنفسنا تجاه ما قدمته، لأنّ ذكرها يحيي أسماء كثيرة تنكّرنا لها.
وما ذكر رموز شعرنا سوى تأكيد لمدارس شعرية يجب ألا تموت، فقد عهدنا الموت، وتعوّدناه حتى بلغ بنا الأمر قتل مكاسبنا المعنوية المرتبطة بالفنون ومنها الشعر. وإن كان ابن الشارع أصبح شاعرا وعازفا وشخصا ناجحا، من خلال «تجربة الذهبي» فلماذا طلاب الجامعات في تقهقر؟ وساحة الشعر يملؤها المتسلّقون؟ وواجهات الشعر تدلّت منها أسماء باهتة لا لون لها ولا طعم.
ضخامة السؤال بضخامة المحنة التي نعانيها، وأعتقد أنّها تضاف لأعبائنا السياسية، وتراجعنا المعرفي، فوضعنا لا يختلف عن وضع الحيوان الذي يحيط به الجفاف والوحوش الجائعة والطيور الآكلة للجيف .
إنّه وضع لا نُحسد عليه، خاصة حين نعتقد أن الشعر مجرّد كلام، بحكم أنه منبثق من لغتنا، وتواصلنا اليومي مع بعضنا بعضا، لكن هل أدركنا أن سحرية الشعر تكمن في قوة الحدس التي تحملها تلك الكلمات للتعبير عن الجانب الأكثر خصوصية في الإنسان؟
قارئ نازك الملائكة، حين كسرت بعض قواعد الشعر لأول مرة، لم يتوقف عند عتبة الإيقاع وبحور المدرسة الكلاسيكية، بقدر ما انساق مع المعنى المتماهي مع مشاعره، وبراعة تعابيرها، وصورها المثيرة للدهشة، وأفكارها غير المألوفة، مع أنها تعكس قاموسنا اليومي وانشغالاتنا العادية. هكذا تجاوز شعرُها وشعرُ من جاء بعدها في تلك الحقبة الذهبية معبرا من معابر الشعر العالية للفوز بلقب «شاعر»، وهو نفسه المعبر الذي وجد فيه شعراء الزمن الجميل فضاء شاسعا مليئا بالضوء، انطلقوا فيه معبرين عن قضايا تلك الساعة، فولد البياتي، والسياب، ونزار قباني، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وكوكبة من الشعراء الذين أنقـــذوا الساحة الشعرية من الخواء بعد أن هرم أبناء المدرسة القديمة وهرم شعرهم !وحتى لا ننسى فإن مغامرة نازك الملائكة هي التي حققت ذلك الفتح وشرّعت الأبواب أمام تلك النهضة.
شاعرة وإعلامية من البحرين