صبحي حديدي
تاريخ 16 حزيران (يونيو)، من كلّ عام ـ أو، بالأحرى، ابتداء من سنة 1954 ـ يوم مشهود عند أبناء الآداب الإيرلندية، وعشاق روائي البلد الكبير جيمس جويس، المنحازين إلى روايته الفريدة «عوليس» خصوصاً، الأمر الذي يجعل المناسبة أثيرة، استطراداً، لدى أنصار الفنّ الروائي، والحداثة الروائية، في مشارق الأرض ومغاربها. لكنّ حكاية ذلك اليوم المشهود ليست طريفة، فحسب، بل نادرة في وقائعها وما باتت تمثله في وجدان ملايين القراء: في مثل هذا اليوم، من العام 1904، تجوّل رجل إيرلندي يُدعى ليوبولد بلوم في شوارع العاصمة دبلن، ثمّ التقى بإيرلندي آخر شابّ يُدعى ستيفن ديدالوس، فترافقا بعض الوقت، وزارا دار بغاء بيللا كوهين، ثم عاد كلّ منهما إلى بيته.
هذا هو مختصر اليوم المشهود! وأمّا فرادة الاحتفاء بتفاصيل عادية كهذه، فهي أنها ليست البتة عادية، في عمقها الإنساني، من جانب أوّل، وأنها، من جانب ثانٍ، لم تجرِ على أرض الواقع، بل في ميدان الخيال الأدبي، وفي «عوليس» جيمس جويس دون سواها. ولقد شاء الواقعون في غرام هذا اليوم (وهم كذلك حقاً: في حال من غرام مشبوب!) أن يطلقوا عليه اسم Bloomsday، نسبة إلى الشخصية المركزية في الرواية. وكان أوّل احتفال باليوم قد أقامه لفيف من أدباء إيرلندا، في طليعتهم باتريك كافاناه وفلان أوبرين، في الذكرى الخمسين لذلك اليوم الروائي، فزاروا برج مارتيللو، الذي يشهد افتتاح الرواية، وعدداً من البارات، ومواقع الرواية في المدينة، وقرأوا مقتطفات من بعض فصولها، كما ارتدى بعضهم ثياباً شبيهة بالزيّ الإدواردي الذي كان شائعاً في زمن الرواية الافتراضي.
هكذا استقرّ التقليد السنوي، الذي يبلغ ذرى مباهجه في دبلن بالطبع، ولكن المرء لا يعدم احتفالات وأنشطة ومراسم لا تقلّ بهجة، بل لعلها ترتدي خصوصية مختلفة، كما يحدث في باريس عادة، بوصفها المدينة التي شهدت إصدار الطبعة الأولى من «عوليس»، سنة 1922، بعد أن رفضتها دور النشر البريطانية والأمريكية، وصنفتها في خانة «الكتابات الإباحية»! ولا تخلو كلّ سنة من «كشف» جديد، حول هذا الجانب أو ذاك من عمل يُعدّ الثاني الأكثر دراسة، عالمياً، بعد التوراة، وليس في نطاق الأبحاث الأدبية والنقدية واللغوية والبلاغية والسردية وحدها، وهذه بعض خصائص الرواية بالطبع، بل كذلك على أصعدة أخرى متعددة تخصّ ماضي استقبالها وحاضره، وعلاقتها بالفنون الأخرى على اختلاف جماهيرها، والغوامض الكثيرة التي لا تزال تكتنف النصّ حتى الساعة.
على سبيل المثال، في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، حين أخذت «عوليس» تكتسب شهرة واسعة في الولايات المتحدة، اتصل الناشر الأمريكي جورج ماسي بالفنان الفرنسي الشهير هنري ماتيس، وعرض عليه خمسة آلاف دولار (وكان مبلغاً مرقوماً، حينذاك) مقابل عدد من الرسوم الداخلية لطبعة جديدة من الرواية. التاريخ لا يسجّل أنّ ماتيس قرأ الترجمة الفرنسية للرواية ذاتها (التي تظلّ، للتذكير، قراءة شاقة تماماً، بمقدار متعتها الفائقة)، ولكن لأنه عرف أنّ فصولها تستهدي بـ«أوديسة» هوميروس، فقد أنجز 26 رسماً، شغل كلّ منها صفحة كاملة في طبعة 1935. وفي حفل توقيع هذه الطبعة، وقّع الفنان التشكيلي 1500 نسخة، وأمّا الروائي نفسه فقد وقّع 250، وهواة النوع، من أثرياء العباد، يستطيعون اليوم شراء نسخة من تلك الطبعة، لقاء 37 ألف دولار… فقط!
سنة 1955، في مثال ثانٍ من الثقافة الشعبية العريضة، كانت المصورة الصحافية الأمريكية الرائدة إيف أرنولد قد نشرت صورة غير عادية: مارلين مونرو، «نجمة الإغراء» بلا منازعة يومذاك، ترتدي ثياب البحر، مستغرقة في قراءة نسخة من «عوليس». هنا، أيضاً، لا يفصح التاريخ عن حقيقة ملابسات اللقطة: هل كان الغرض منها تجميل مونرو ثقافياً، على نقيض مثالها كما رسخته أدوارها؟ أم أنّ مونرو، كما تقول الصورة في كلّ حال (وأياً كان مقدار التمثيل فيها)، كانت بالفعل تقرأ باستمتاع تلقائي؟ وأخيراً، ألا يصحّ القول إنّ هذه الاعتبارات، منفردة أو مجتمعة، تبرهن أنّ قيمة «عوليس» رفيعة في يقين الرأي العام العريض، خاصة تلك الشرائح الشعبية المهووسة بشخصية مونرو السينمائية، وأمثولتها في الإغواء تحديداً؟ في عبارة أخرى، أليست هذه الصورة دليلاً على أنّ الرواية، على صعوبة مغامرتها المفتوحة في المحتوى والشكل، شكّلت برهة مصالحة نوعية نادرة، بين الجمهور العريض والحداثة الأدبية القصوى؟
يبقى، للتذكير، أنّ «عوليس» تسرد وقائع ذلك اليوم المشهود، من الصباح الباكر وحتى قرابة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، عبر رحلة ديدالوس وبلوم في دبلن، وصولاً، ختاماً، إلى حجرة نوم موللي (زوجة بلوم) وأخيلتها الجنسية التي تسردها في ذلك الفصل الشهير، الذي يسير كجملة واحدة متصلة، بلا أيّ علامة وقف. وبين ألغاز الرواية ذلك السؤال حول يهودية بلوم، الذي يقول عن نفسه: «كان يعتقد أنه كان يظنّ أنه يهودي، بينما عرف أنه كان يعرف أنه لم يكن». وأمّا جويس نفسه فقد كان لا يملّ من اقتباس عبارة السياسي البريطاني دزرائيلي: «اليهود فسيفساء عربية»!
وليس بلا أسباب وجيهة أنّ نهار بلوم يظلّ عجيباً هكذا، بل عجائبياً!