السودان.. اتصالات مقطوعة وعزلة شعبية كاملة وسيناريوهات غامضة!

سبت, 02/10/2024 - 14:25

لأكثر من أسبوع، فشلتْ كلّ محاولاتي في التواصل مع أفراد أسرتي والأصدقاء داخل السودان، إذ لا تزال كافّة شبكات الاتصالات مقطوعة بالكامل، وكذلك خدمات الإنترنت، بعد أن تمّ تخريب وتدمير السيرفرات والألياف البصرية، على نحوٍ أعاد السودانيين إلى عصور قديمة، لم يكن متاحًا فيها التواصلُ، إلا عبر الحمام الزاجل.

سياسة العقاب الجماعي
قوّات الدعم السريع المتمرّدة تسيطر على المقسم الرئيسي (MSC) في الخرطوم، وبالتالي فهي تتحكم بالقوة في شركات الاتصالات الكبرى الثلاثة داخل السودان، وقد تبنت بالفعل رواية تعطيل الخدمة، وطالبت بعودتها إلى دارفور أولًا لتسمح بها بعد ذلك إلى بقية الولايات؛ أي أنها تريد أن يتساوى السودانيون في الظُلم والظلام، عن طريق سياسة العقاب الجماعي.

لكن جرائم الدعم السريع في دارفور تنسف تلك المبررات، فلا يعقل أن تقتل الناس وتسلبهم كافة ممتلكاتهم وتجبرهم على النزوح، ثم تطلب لهم خدمات الإنترنت! إلى جانب ذلك فإن وصول الفنيين من شركات الاتصالات إلى غرب السودان حاليًا، أمر شبه مستحيل، ومغامرة محفوفة بالمخاطر.

لا شك أن قطع الاتصالات وخدمة الإنترنت عن السودانيين، في أي ولاية، جريمةٌ لا تغتفر، وانتهاكٌ صريحٌ لحقوق الإنسان، ومضاعفة لمعاناة الضحايا، لا سيما أن الاتصالات ترتبط بخدمات المصارف والتحويلات المالية، واستخراج شهادات المواليد والجوازات والأوراق الرسمية، التي توقفت أيضًا مرة واحدة.

فضلًا على أن الحرب تدور رحاها وسط الأحياء السكنية، وتتساقط الصواريخ والدانات فوق رؤوس المدنيين، والأوضاع كلها كارثية لا تنبئ بخير، ولا أحد يعرف حقيقة ما يجري بالداخل وسط هذا التعتيم الكامل.

وأصبح القلق والخوف ينتابان الناس على أهلهم، المعزولين بين القرى والمُدن، ونقاط التفتيش العسكرية، وقد كانت الهواتف هي وسيلة الاطمئنان الوحيدة عليهم، وتزويدهم بالتحويلات المالية، لكن تلك الهواتف الآن لم تعد ذات جدوى، وباتت ثمة حاجة لخيارات بديلة مثل الإنترنت الفضائي "ستار لينك" غير الرسمي.

جدلية مَرْكَزة الخدمات
فكرة قطع الاتّصالات عن السودان سلوك إجرامي، لا يمكن تبريره أبدًا، ويضع الدعم السريع في موضع الإدانة، لكنه بالمقابل سوف يدفع الناس إلى الثورة على مَرْكَزة الخدمات كلها في عاصمة أو مدينة واحدة كالخرطوم: المصانع، البنوك، مطبعة العملة، الشركات الكبرى، المقسم الرئيسي للاتصالات (MSC)، المطار، المصفاة، الصناعات الحربية، الجامعات، مراكز البحوث، المتاحف، ملاعب كرة القدم، لتكون عرضة لأي توترات أمنية بذلك التمركز قصير الظل.

كما أن الدولة لم تحتطْ لهذه الظروف، وتحتفظ بمراكز تشغيل الخدمات الضرورية في مناطق آمنة، أو تضع خططًا بديلة في حالة الكوارث، ولعل واحدة من فوائد الحرب، بعد اليوم، أهمية التفكير في المستقبل، وضرورة توزيع المشروعات والخدمات وفقًا لخارطة جديدة، تضمن، على الأقل، تنمية بقية الولايات وجعلها جاذبة ومغرية للحياة، والحد من الهجرات لعاصمة أو مدينة واحدة، دون مقومات كافية، بضربها أو احتلالها ينهار كل السودان.

نحن الآن نعيش في مرحلة الفوضى الشاملة، قتل وسلب وتشريد وحرمان للمواطنين من أبسط حقوقهم، فلا الدعم السريع يعبأ بأرواح الناس، ولا الجيش قادر على حمايتهم.

والأدهى والأمرّ غياب الدولة وتدابيرها بشأن تصاريف الحياة، حيث أصبح السودان عبارة عن جُزر معزولة عن بعضها بعضًا، تُخيّم عليه سيناريوهات غامضة، وهي وضعية شاذة يجب عدم السكوت عنها والتسليم بها، وإنما ثمة حاجة لثورة جديدة بلا أجندة خارجية، ومقاومة شعبية واسعة، تفرز من بين الصفوف قيادة رشيدة وخلّاقة، تُعيد للسودانيين وطنهم المفقود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.