العشائر الفلسطينية ومخططات الاحتلال

ثلاثاء, 01/23/2024 - 09:01

لا يعتبر ما طرحه رئيسُ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو-حول خُطته لإدارة قطاع غزّة بعد الحرب اعتمادًا على العشائر في غزة- جديدًا على العقل الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين. وإن كان من نافلة القول لنتنياهو أن عليك ألا تَعِد بجلْد الدبّ قبل صيده.

وقد أحسنت الهيئة العامة للعشائر الفلسطينية بالمبادرة إلى التأكيد على رفض المخططات الصهيونية، وأن جميع أبنائها يقفون وراء المقاومة وأنها الحاضنة الشعبية لها. لكن هذه المحاولة لم تكن الأولى وقد لا تكون الأخيرة، فقد بدأ العقل الصهيوني محاولة استخدام ورقة العشائر منذ ازدياد نشاط الاستيطان اليهودي في فلسطين إبّان الانتداب البريطاني في محاولات لاستمالة رؤساء عشائر، ونسج علاقات معهم كإحدى أدوات السيطرة والاختراق، ويعتبر ذلك امتدادًا للعقل الاستعماري عبر التاريخ في أدوات اختراقه للمجتمعات، إذ دائمًا ما كان زعماء العشائر في المجتمعات المستعمرة جزءًا من أدوات الاتصال والسيطرة وشراء الولاءات.

ما يتردّد اليوم على لسان القادة الإسرائيليين -من خطط إدارة قطاع غزة بعد الحرب وتقسيم القطاع لمناطق تسيطر عليها العشائر والعائلات التي ستتولى الاتصال مع الإسرائيليين في توزيع المساعدات وتدبير حياة السكان وَفق خططهم- هي اللغة ذاتها التي ردّدتها المنظومة الإسرائيلية في التخطيط المسبق لإدارة ما يسمّونه: "السكان الفلسطينيين" بعد احتلال عام 1967.
برز في المداولات الإسرائيلية -وَفق الأرشيف الإسرائيلي ما قبل النكسة- سيناريوهات عديدة للتحدّي الأبرز الذي سيواجههم بعد السيطرة على الضفة الغربية، وكانت الإدارة من خلال العشائر أحد أفضل هذه السيناريوهات.
عمدت سلطات الاحتلال فعلًا بعد النكسة إلى تطبيق هذا النموذج، الذي فشل لاحقًا، فاعتمدت بشكل رسمي على "المخاتير" من ممثلي العائلات والعشائر من أجل التواصل معهم في الأمور العامة، فإذا ما أرادوا اعتقال شخص جاؤُوا إلى منزل المختار وطلبوا منه أن يرشدهم، وكذلك في تحديث السجلات المدنية، ومتابعة الأوضاع الإنسانية، والتواصل الحياتي، وما إلى ذلك. لم يكونوا عملاء، لكنهم كانوا وسطاء بين المجتمع والإدارة المدنية التي يشرف عليها جيش الاحتلال في الضفة.

لم يكن هذا السلوك مقتصرًا على الإسرائيليين، فالبريطانيون من قبلهم نحَوا المنحى ذاته في اللعب بهذه الورقة، وتغليب عائلات وعشائر على حساب أخرى؛ من أجل السيطرة على المجتمع.
أضر نهج الاستعمار في اللعب على ورقة العشائر في فلسطين بالحركة الوطنية الفلسطينية أيَّما ضرر، يمكن تتبع ما قام به البريطانيون من دعم عائلات ضد أخرى في فترة الانتداب البريطاني؛ من أجل كبح جماح الحركة الوطنية حينها، من الأمثلة البارزة ما قامت به عائلة كبرى كانت تنافس عائلة الحسيني في السيطرة على قيادة القرار الفلسطيني في تلك الفترة، إذ تحالفت مع البريطانيين وشكلت ما عرف بعصابات السلام التي واجهت الحركة الوطنية والثوار حينها، وساهمت في إحباط المقاومة المسلّحة ضد البريطانيين عام 1937.

برزت عائلة الحسيني في تلك الفترة متصدرة الحركة الوطنية إلا أنه ورغم كل المواقف التي تحسب لها تاريخيًا فإن تأسيس وبناء الحركة الوطنية وفق أسس عشائرية عليه ما عليه من مآخذ، خاصة أنَ الثوار الحقيقيين على الأرض من أبناء البسطاء في القرى والأرياف ليسوا ذوي صلة بالصراعات النخبوية بين العائلات الكبيرة، وليسوا ممثلين في أقطابها.

جسَدت ثورة الشهيد عزالدين القسام حينها مثالًا مغايرًا لقائد عمل بسرية لتشكيل خلايا مقاومة، وفي الوقت نفسه كان زاهدًا تمامًا في أي موقع سياسي مرتبط بالعلاقة والصراعات مع هذه الأقطاب، ليكون التمايز والفجوة الكبيرة بين القيادات القسامية الشعبية المقاومة، والقيادات السياسية النخبوية العشائرية المتصدرة.

تعود أزمة العلاقة بين مقاومة الاستعمار والعشائر في فلسطين إلى ما هو أقدم من ذلك، وتمثلت في أسوأ صورها وتداعياتها على الحركة الوطنية الفلسطينية في فترة الإقطاع التي تجذّرت في أواخر الحكم العثماني، واستثمرها الاستعمار البريطاني في فترة الانتداب.

سيطرت عائلات إقطاعية كانت منتشرة في أنحاء فلسطين حينها على أغلب الأراضي الزراعية في المناطق السهلية. امتلكت هذه العائلات مساحات شاسعة وسيطرت على قرى بأكملها ووظفت الناس للفلاحة.

كانت هناك العديد من العائلات قاسية مستغلة لصغار الفلاحين، تستخدم التعذيب والتنكيل بشكل لا يوصف، فالفلاح يعمل لديها طوال النهار مقابل وجبة لا تقيه من الجوع، كان الإقطاعي يتفقد الفلاحين وهو على صهوة الحصان وبيده السوط الذي طالما هوى على ظهور العمال.

امتلكت عائلات إقطاعية سجونًا وأماكن للتصفية الجسدية، حتى إن أعراض الناس كانت مباحة أمام الإقطاعي، وقصورهم ما زالت شاهدة على تلك الحقبة السوداء لحكم العائلات.

ومن المفارقات إبّان فترة الانتداب البريطاني أن اضطر بعض الفلاحين الفقراء إلى بيع أراضيهم لهؤلاء الإقطاعيين من أبناء العائلات الكبيرة من أجل شراء سلاح للدفاع عن الوطن!

بالعودة إلى الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة 1967، فقد عمل على زيادة دور العشائر وصولًا إلى تشكيل ما أطلق عليه "روابط القرى"، حيث سعت إسرائيل لاستبدال الدور المدني للعشائر بدور سياسي على حساب الحركة الوطنية الفلسطينية، لكن هذا المشروع فشل في انتخابات البلديات عام 1976، حيث سيطرت الحركة الوطنية بممثليها على البلديات، واعتبر ذلك انتكاسة كبيرة لمشروع العشائر، فيما وأدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 هذا المشروع إلى الأبد.

عمدت السلطة الفلسطينية عقب إنشائها إلى تقوية دور العشائر مرة أخرى، وإضعاف دور الأحزاب والحركات السياسية، ومنحت العشائر امتيازات ونفوذًا وقانونًا خاصًا بها، في الوقت الذي مارست فيه تضييقًا على الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وحاربتها بقوانين صارمة، وأسست هيئة شؤون العشائر. أثّر ذلك سلبًا في إعادة إحياء النعرات العشائرية، وتغذية الصراعات المجتمعية، وانتشرت دواوين العائلات، وتم مأسستها ودعمها ماليًا من قبل السلطة الفلسطينية.

استخدمت السلطة الفلسطينية العائلات والعشائر على حساب الأحزاب والحركات السياسية والمجتمع المدني كإحدى أدوات إحكام السيطرة، وتضخَم دور العشائر بشكل مبالغ فيه مقابل تدهور الحركة الوطنية، حتى إن العشائر باتت تسيطر على جامعات ومؤسسات، من أمثلة ذلك أن عائلة ما تسيطر على جامعة بوليتكنك الخليل، وأخرى تسيطر على جامعة الخليل، وحين انتزعت جامعة بوليتكنك قرارًا من الحكومة بإنشاء كلية للطب قبل سنوات احتجّت جامعة الخليل لأبعاد عشائرية، فكانت تسوية الحكومة للموضوع بتقاسم كلية الطب بين الجامعتين، بحيث يحصل الطالب على شهادته في الطب باسم الجامعتين!! ليس المثال هو المهم، ولكن العقلية السياسية التي غذت هذه النزعات ورعتها ووفرت لها الحاضنة.
عادت سلطات الاحتلال لاستخدام الورقة ذاتها مرة أخرى، حين اتخذت قرارًا في السنوات الأخيرة بإضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ضمن مشروع ضم مناطق "ج " في الضفة الغربية، وبرز مخطط تقسيم الضفة إلى سبع إمارات وَفق تصور المستشرق مردخاي كيدار، الذي يدعي أن المجموعة الأقوى في الشرق الأوسط هي "العائلة، ويليها العائلة الموسعة، ثم الحمولة، والقبيلة". ويدعو للتعامل مع الفلسطينيين بموجب "النموذج الناجح في الخليج، والذي يقوم على العائلات المحلية".

ويخلص إلى أنه يجب الاعتراف بغزة كدولة، وإحلال السيادة الإسرائيلية على كل الضفة الغربية، وتفكيك السلطة الفلسطينية، وإقامة سبع إمارات في الخليل وأريحا ورام الله وقلقيلية وطولكرم ونابلس وجنين، وتكون إمارات مستقلة تقوم على العائلات المحلية، ويكون السكانُ مواطني هذه الإمارات: مواطني إمارة الخليل، أو مواطني إمارة نابلس، وتكون هناك معابر حدودية بين هذه الإمارات وبين إسرائيل، وتكون الترتيبات الأمنية بيد إسرائيل.

تحاول حكومة الاحتلال -وفي ظل عدم وجود خطط وبدائل للإجابة عن السؤال الملحّ عن مرحلة ما بعد الحرب على غزة- التسترَ خلف مخططاتها القديمة الجديدة بإبراز ورقة العشائر كوسيط بينها وبين المجتمع، يعتبر ذلك خطيرًا وسخيفًا في الوقت نفسه، فهو خطيرٌ لوجود مخططات لها جذور تاريخية وممارسات مريبة، وسخيفٌ لأنَ الشعب الفلسطيني وبعد كل هذه التضحيات لن يسمح بأن تكون المرحلة التي تلي هذه التضحيات شبيهة بمرحلة ما بعد ثورة 1936، أو نكبة 1948، أو نكسة 1967، أو أوسلو جديدة.

يتطلب ذلك باختصار؛ التعامل برفض حاسم لأي دور للعشائر في تصدّر المشهد الوطني؛ لأنَ تاريخ الشعب الفلسطيني مليء بالتجارب المريرة، وإن كان كل ذلك لا يلغي أدوارًا رائعة وبطولات مؤرخة للعائلات والعشائر في فلسطين في مقاومة الاستعمار، لكنها عائلات البسطاء والفقراء وليست عائلات النخب التي كانت غالبًا الأقدر على بناء تسويات مع المستعمر تضمن لها نفوذها ومصالحها

تعتبر العشيرة جسمًا مجتمعيًا نقيضًا للمجتمع المدني، إذ إنَّ أيَّ دور لأحدهما هو على حساب الآخر، إذا ما قويت العشيرة ضعفت الأحزاب، لكن يبدو أن كل مَن يحكم يلعب بهذه الورقة.