مواجهة جنوب أفريقيا لإسرائيل بين "التجريس" و"الإدانة"

أحد, 01/14/2024 - 10:35

مجنحًا، وإن توقعناه فلا نطمح في أن يأتي إلا بعد عقود من الزمن.

تجربة مريرة
خرجت جنوب أفريقيا من محنة التمييز ضد السود مؤمنة بقول مانديلا: "نتسامح، لكن لا ننسى"، ثم صارت أمينة على هذا المبدأ.

ولأنها لم تنسَ جاءت مقاربتها للحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة نابتةً من قلب تجرِبة مريرة عاشتها، بدأت باستعمار استيطاني إحلالي، ثم كفاح مسلح سالت فيه دماء كثيرة، فنضال سلمي، خلق حالة من التعاطف الدولي مع المميز ضدهم، تمت ترجمته إلى نبذ ومقاطعة وفرض عزلة على نظام الحكم العنصري، فاضطر في النهاية إلى التخلي عن إدراكه وفهمه وقوانينه وإجراءاته وتصوراته وأسلوب إدارته للدولة والمجتمع، ليتهاوى وتقوم دولة على أنقاضه ديمقراطية، تساوي بين المواطنين البيض والسود في الحقوق والواجبات.

هذا التاريخ كله يشكل الآن إطارًا معرفيًا تقارب منه جوهانسبرغ القضايا الدولية، وها هي قد طبقته على غزة فلم تجد أمامها من سبيل سوى أن ترفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية متهمة إسرائيل بالقيام بـ "إبادة جماعية" في هذا القطاع ضيق الجغرافيا، لم تقتصر على البشر إنما طالت الحجر أيضًا.

خطوة شجاعة
ولعلّ قيام جنوب أفريقيا بهذه الخطوة الشجاعة يكتسب أهمية وزخمًا من تلك التجربة، وذلك الإطار، بل من الصورة التي تطل بها هذه الدولة الأفريقية على العالم كله، وينسحب جزء منها بالقطع على قضية الشعب الفلسطيني؛ لأنه يواجه أيضًا استعمارًا استيطانيًا إحلاليًا، ويعيش خلف جدران عازلة، حوّلت قطاع غزة والضفة الغربية إلى سجنَين كبيرين، فيما يمارس الاحتلال ضد من تبقى من هذا الشعب داخل إسرائيل منذ 1948، ويحمل جنسيتها، تمييزًا واضحًا فاضحًا.

وضمن الصورة أيضًا، بل في قلبها، هو تمثيل جنوب أفريقيا للعالم بأعراقه وثقافاته، إذ وجدنا من أعضاء الفريق الذي يترافع أمام قضاة محكمة العدل الدولية من هم من أصول أوروبية وأفريقية وآسيوية، وداخل الدولة كلها تمثيل للأديان الثلاثة الأكثر اشتباكًا مع القضية الفلسطينية، وهي: المسيحية، والإسلام، واليهودية.

وتضيف جنوب أفريقيا إلى صورتها المتداولة هذه بعدًا جديدًا اليوم بتدخلها من أجل إنقاذ الشعب الفلسطيني، إذ لم يعد أمام كل إنسان حر منصف في هذا العالم إلا أن يقول من أعماق نفسه، وصميم قلبه، وكل صوته: شكرًا جنوب أفريقيا
تطرُّف وغطرسة
وتدل مضاهاة موقف بلاد مانديلا بغيرها على إدراك عام لأمرَين أساسيين؛ الأول: أنه كما هو حال الأفراد هناك دول مكرمة وأخرى مهانة، ودول شجاعة وأخرى جبانة، والثاني: أن كل الذين هاموا حبًا واحترامًا لمانديلا، نابعٌ من أنّ شخصه ومساره وأهله يستحقون هذا عن جدارة.

كل هذا جعل من تصدِّي جنوب أفريقيا للعدوان الإسرائيلي عبر محكمة العدل الدولية له حيثية وحُجية أقوى، متكئة على كينونة هذه الدولة وصورتها، والدور الذي تلعبه في فض النزاعات وتسويتها في القارة السمراء على مدار ربع قرن تقريبًا، وكذلك الشعبية التي اكتسبتها في الأيام الأخيرة.

ربما لهذا السبب أدرك بعض الإسرائيليين أن ذهابهم إلى محكمة العدل الدولية، لأول مرة- وبيد جنوب أفريقيا بالذات- يمثل ضغطًا دوليًا شديدًا عليهم، يجب التعامل معه بجدية، وهو ما جرى بالفعل حين حضرت إسرائيل المحاكمة، ودافعت عن نفسها، بينما كانت هناك أصوات داخلها غارقة في التطرف والغطرسة تنادي بعدم المثول أمام المحكمة أصلًا.

وإذا كان هناك من الإسرائيليين من يسخر من هذا الأمر برمته، على أساس أن المحكمة ستذهب في النهاية إلى مجلس الأمن، وفي الأخير توجد الولايات المتحدة الأميركية التي ستستخدم حقّ الفيتو، فإن هؤلاء المستهترين لا يدركون أن ما جرى في محكمة العدل الدولية، هو إعلان سقوط إسرائيل أخلاقيًا، وهذا يمثل مقدمة لثمن سياسي باهظ جدًا ستدفعه حتمًا، ومعها بالطبع واشنطن إن أصرّت على الدفاع عن آلة القتل الإسرائيلية بلا تحسّب أو تروٍّ.
سقوط الطلاءات المزيفة
قد لا تلتزم إسرائيل بقرار وقف الحرب إن صدر من المحكمة، لكن إدانتها- بل فضحها وتجريسها أمام العالم على هذا النحو- تكرّس تجريدها من الصورة الإيجابية التي سوّقتها عقودًا عن نفسها، وتزيد من تعاطف العالم مع القضية الفلسطينية.

فالآن لم يعد من الصعب إعادة رسم الصورة الذهنية للفلسطينيين، والتي طالها ونالها تشويه جارح بفعل إسرائيل وتدبيرها. فمن قبلُ كانت هناك مشكلات جمة تواجه هذا التشويه، أما الآن فإن الصد والرد سيتكئان على بعد قانوني ومنطقي طرحته جنوب أفريقيا أمام محكمة دولية، وسرى طرحها في أوصال العالم كله، عبر الإعلام التقليدي والجديد في آن.

وحتى إذا أفلتت إسرائيل من جريمة "الإبادة الجماعية"، التي تتطلب توافر النية أو القصد الإجرامي، فإن ما ارتكبته ضد الغزّيّين هو- بلا مواربة- جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، يجب أن تتوقف، ولا تنتظر إصدار المحكمة حكمًا فيما بعدُ، وإن لم تمتثل إسرائيل لذلك فإن السخط الدولي عليها سيزيد، وستتساقط كل الطلاءات الملونة الجاذبة التي توارت خلفها حقيقة ناصعة هي أن الفلسطينيين يقعون تحت احتلال، وأن هذا هو أسّ الداء والبلاء، ودون علاجه لن تحل أي تسوية أو سلام، وسيستمر الدم سائلًا، والنار مشتعلة، والآلام صارخة.

التهرب من المسؤولية
ولعلّ إسرائيل نفسها تدرك هذا جيدًا، وتحاول إخفاءه، كما فعل المدافع عنها أمام المحكمة، حيث لم يأتِ على ذكر المحتل، تصريحًا أو تلميحًا، بل حاول التهرب من مسؤوليته عن الشعب الواقع تحت الاحتلال، حين رد على اتهام إسرائيل بتعطيش وتجويع الفلسطينيين عمدًا بالقول: مصر هي المسؤولة عن معبر "رفح"، متجاهلًا ستة معابر بين إسرائيل وغزة، تم إغلاقها، لتشديد الحصار على القطاع.