الدروع البشرية" في غزة من منظور قانوني وأخلاقي

جمعة, 01/05/2024 - 10:49

الفلسطينيين.

ثمة -في هذا السياق- تعبيران يحملان المعنى نفسه من حيث اللغة، ولكنهما يحيلان -من منظور تاريخي ومفهومي- إلى أمرَين مختلفين. التعبير الأول: هو "الدروع البشرية"، والتعبير الثاني: هو "التترس" (اتخاذ تُرْس). فالأول عسكري وقانوني حديث يعبّر عن جريمة حرب، بينما الثاني فقهي وصفي يُطلب فيه الحكم المعياري، وثمة خلاف حول تفاصيله بين المذاهب الفقهية تاريخيًّا، وقد استخدمته جماعات العنف -في الزمن الحاضر- لتسويغ إصابة المدنيين المسلمين في معاركها مع الأنظمة السياسيّة الداخلية.
المسلمين أو أهل الذمة وَفق الاصطلاح التاريخي)، يريد بالتُرْس صدَّ المسلمين عنه لتحقيق غرض عسكري.

ونلحظ فوارق عدة بين مفهومي الدروع البشرية والتترس وهي:

الأول: أن التترس يتمحور -أساسًا- حول اتخاذ العدو غير المسلم ترسًا ممن يَحْرم قتله، ومن ثم انصرف النقاش الفقهي التاريخي إلى حكم المضي قدمًا في العمل العسكري؛ إذا كان سيؤدي إلى قتل الترس البشري (من المسلمين أو أهل الذمة أو نساء العدو نفسه وصبيانه الذين يَحرم قتلهم في الحرب).
ومن اللافت أن النقاش الفقهي حول التترس يستبعد -فيما أعلم- فكرة استعمال المسلمين أنفسهم الترسَ، ويبدو أنها لم تكن مطروحة ولم يسبق للمسلمين -فيما نعلم- أن استعملوا الترس البشري في الحروب، ولكن استعمله غيرهم قديمًا وحديثًا.

الثاني: أن التترس جزء من منظومة ما قبل الدولة الحديثة التي تصوغ تصورها الخاص حول من يَحرم قتله في الحرب، بينما تتمحور فكرة الدروع البشرية حول مبدأ أو قاعدة مركزية، وهي التمييز بين المدني والعسكري أولًا، وإعطاء حرمة متميزة للمدني وحمايته في الحرب ثانيًا، ومن هنا اعتُبر استخدام الدروع البشرية جريمة قانونية؛ لأنه يلغي هذه الفوارق ويهدر حرمة المدنيين الذين ليسوا جزءًا من الحرب ولا يساهمون فيها. وعلى هذا، فمفهوم "المدني" الحديث أوسعُ من التصورات الفقهية الكلاسيكية لمن يَحرم قتله في الحرب.
أما "الاستفادة" من المدنيين -وهي المعنى الثاني- فيصعب ضبطها في حالة غزة؛ لثلاثة اعتبارات:

أولها: أننا أمام حرب شنتها إسرائيل على قطاع مدني شديد الكثافة السكانية، ومن الصعب تطبيق شرط تجنب وضع أهداف عسكرية داخل مناطق مكتظة بالسكان.
وثانيها: أن هذه الحرب هي حرب من طرف واحد، تدور بين جيش نظامي محتل وحركة مقاومة وطنية ليس لها صفة "الدولة" ولا صفة "الجيش"، ومن ثم فهي غير قادرة على اتخاذ الاحتياطات الممكنة لحماية المدنيين والأهداف المدنية من آثار الهجمات.
ثالثها: أن هذه "الاستفادة" من المدنيين في غزة ليست اختيارًا، وإنما هي جزء من طبيعة المكان والسياق، ولهذا فإن طبيعة الاحتلال والجغرافيا والحصار الإسرائيلي المطبق على القطاع كلها عوامل فرضت إستراتيجية المقاومة وليس العكس.
أضف إلى ذلك أن شبكة الأنفاق التي تُستخدم في هذه المقاومة تقع خارج المفهوم القانوني التقليدي لـ "تمركز وحدات عسكرية مقاتلة في مناطق مأهولة بالمدنيين"، ومن ثَم فلا يمكن الحديث عن "وضع أهداف عسكرية داخل أو بالقرب من مناطق مكتظة بالسكان"؛ لأن التصورات التقليدية للحروب بين الدول تختلف عن حالة قطاع غزة، وإستراتيجية المقاومة التي تستعمل الأنفاق، ولا يمكن الحديث فيها عن وضع أهداف عسكرية على الأرض في مناطق مدنية.

ولا بد من إضافة بُعد آخر هنا لمفهوم الاستفادة من المدنيين، وهو تمويه الهدف أو تغيير مظهره من مدني إلى عسكري أو العكس، وقد قامت إسرائيل بذلك عدة مرات حين قامت -بشكل متكرر- بقصف المستشفيات وتدميرها؛ بذريعة كونها أهدافًا عسكرية، وهو ما لم يثبت حتى الآن!

توضح الاعتبارات الثلاثة السابقة تعقيدات تطبيق مفهوم "الدروع البشرية" على حالة غزة من الناحية القانونية، وتوضح -في الوقت نفسه- لماذا ليس لإسرائيل -أيضًا- حق