لن تكون ليبيا دولة فاشلة

أحد, 12/19/2021 - 19:16

تسود ليبيا، طوال الأسبوع الماضي، أجواء شديدة التوتر، على خلفية تأجيل/عدم تأجيل الانتخابات الليبية، المزمع إجراؤها 24 ديسمبر الجاري، لأسباب تختلف باختلاف الأطراف.
فقد توقع، فتحي المريمي، المستشار الإعلامي لرئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، تأجيل الانتخابات لفترة وجيزة نظراً للصعوبات والعراقيل التي تواجهها، كما طالب رئيس لجنة الشؤون الداخلية في المجلس، سليمان الحرارين، السلطتين التنفيذية والتشريعية بالسعي إلى تأجيل الانتخابات، ومن جانبه أكّد عضو المفوضية العليا للانتخابات، أبو بكر مردة، استحالة الانتخابات في 24 ديسمبر الجاري. من ناحية أخرى، أعرب رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد يونس المنفي، عن حرصه على إجراء الانتخابات في موعدها، ومواصلة العمل على توحيد المؤسسة العسكرية، بينما حمّل رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، مجلس النواب والقضاء مسؤولية ما آلت إليه العملية الانتخابية في ليبيا.

كذلك كان من الواضح نتيجة الأحداث الأخيرة في طرابلس والجنوب، والتصريحات المتضاربة للمسؤولين الليبيين، وبعض المرشحين للرئاسة، الهوة الواسعة التي تفصل بين رؤية الجميع لكيفية تسيير عملية التحضير الانتخابات، وكذا آلية الانتخابات، وغيرها من القضايا الإدارية التي لا تقل أهمية في تأثيرها على مجريات الانتخابات، وعلى نزاهتها وشفافيتها. لذلك أرى أن إجراء الانتخابات أو حتى تأجيلها لفترة وجيزة، لن يكون المحك الرئيسي الذي يمكن أن تتوقف عنده العملية السياسية في ليبيا، إلا أن الحفاظ على الاستقرار والأمن ونظام التهدئة، ووقف الاقتتال، الحوار بين الأطراف وكذلك استمرار عمل السلطة التنفيذية، وهو ما أتفق فيه مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لابد وأن يكون الأولوية القصوى حتى قبل موعد الانتخابات، التي يجب، وبكل تأكيد، أن تتم في أقرب فرصة ممكنة، دحضاً لأي تسريبات أو معلومات "مغلوطة" عن تفكير البعض في استبدال الانتخابات ببعض الإجراءات الصورية لإضفاء بعض الشرعية على استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه، وانتظار الفرج لأجل غير مسمى.

وكانت لجنة المتابعة والتشاور السياسي بين مصر والمملكة العربية السعودية، قد شددت في بيانها الختامي، عقب لقاء وزيري الخارجية المصري، سامح شكري، والسعودي، فيصل بن فرحان آل سعود، 16 ديسمبر الجاري، على ضرورة الحفاظ على استقرار ليبيا ووحدة وسلامة أراضيها، حيث أكّد الجانبان على ضرورة عقد الانتخابات بموعدها المقرر نهاية العام الجاري، كما أكدا على ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة والمقاتلين الأجانب في مدى زمني محدد تنفيذاً لقرار مجلس الأمن رقم 2570، والمخرجات الصادرة عن قمة باريس، ومؤتمر برلين 2، وآلية دول جوار ليبيا وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي.

تعاني ليبيا من مشكلة سيادة، تعود بشكل أساسي للقرار الأممي رقم 1973، الصادر عن مجلس الأمن، عام 2011، والذي اتخذ ذريعة حينها لضرب ليبيا وانتهاك سيادتها وأراضيها، وامتنعت روسيا والصين عن التصويت عليه. تعاني ليبيا كذلك من تجميد أرصدتها، ومن قيود على الطيران، وسفر المواطنين. كذلك فقد غادر كثير من المنظمات الدولية والإقليمية الأراضي الليبية، وأصبحت ليبيا تصنّف بأنها دولة في حالة "ما بعد الدولة الفاشلة"، حيث أصبحت تتهم بأنها أحد مراكز الجريمة المنظمة، ومصدر للهجرة غير الشرعية، التي تمثل أخطاراً لا تهدد ليبيا وحدها، وإنما تهدد أيضاً الدول الأخرى. كذلك تعجز المنظومة الإدارية والقانونية الليبية عن مكافحة الفساد بفعالية، ليصبح أحد أكبر أوجه إهدار موارد الدولة. تتوازى تلك القضايا مع صراعات عشائرية وقبلية، وقوات أجنبية، وسلاح منفلت، ومصالحات تبدو للوهلة الأولى مستحيلة.
لكن ليبيا، في الوقت نفسه، تتمتع بثروات طبيعية ممتدة على مساحة ضخمة تبلغ مليون و760 ألف كيلومتر مربع، وساحل يبلغ طوله 1850 كيلومتر، يعد الأطول من بين الدول الأفريقية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وعدد سكان يقترب من السبعة ملايين، بكثافة سكانية منخفضة للغاية (3.74 نسمة/ الكيلومتر المربع)، للمقارنة فإن الكثافة السكانية للجارة مصر 264.2 نسمة/الكيلومتر المربع، وفي قطاع غزة 5046 نسمة/الكيلومتر المربع.

لكن علاوة على ذلك، تتمتع ليبيا بشعب أبيّ يرفض السماح لأي جهة خارجية بالسيطرة على بلاده، ويواجه كل محاولات الإملاء الخارجية، التي تسعى لفرض أي نظام أو أيديولوجية على الحكم في البلاد، شعب يدرك تماماً ما حل ببلاده جراء التدخل السافر منذ 2011، وحتى يومنا هذا، ومحاولات فرض رؤية معينة، لخدمة مصالح جيوسياسية معينة في حوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة وأن ليبيا عملياً هي أرض بكر، عامرة بكنوز لم تكتشف بعد، وهو ما يثير مطامع دول وتكتلات كثيرة حول العالم.

إن المراد من وضع ليبيا على صفيح ساخن مستدام، هو استمرار لمسلسل عدم السماح لأي من بلدان هذه القارة ببناء مستقبله المستقل، والتمتع بحريته وسيادته على أراضيه، بعد قرن كامل من استنفاد موارد القارة، الطبيعية قبل البشرية. لهذا تعمل بعض الدوائر والشخصيات، مع شديد الأسف، لتنفيذ تلك المخططات، وتسعى لعرقلة المسار الديمقراطي الذي توافق عليه المجتمع الدولي، وتدعمه دول الجوار والمنطقة العربية، نظراً لما تمثله ليبيا من أهمية لاستقرار الساحل الجنوبي لحوض البحر الأبيض المتوسط، وشمال أفريقيا، والوطن العربي.

لا زال الداخل الليبي عاجزاً عن تجاوز خلافاته السياسية، ولا يزال صوت السلاح المنفلت أعلى من صوت الحوار العاقل الرزين، الذي يعلي من شأن الأمة الليبية، والمواطن الليبي، الذي يعاني الأمرّين جراء تلك الخلافات، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف في حربين أهليتين خلال عقد من الزمان.

وبصرف النظر عما يمثّله العقيد الراحل/ معمّر القذافي، بالنسبة للأطراف المتنازعة، ومدى تعاطفهم أو إدانتهم لسياساته وإجراءاته، إلا أن القذافي قد رحل منذ زمن، وعقارب الزمن لا ولن تمضي سوى للأمام، وعلى ليبيا أن تبدأ صفحة جديدة تستند إلى ما رأيناه ونراه من برامج مرشحي الرئاسة، التي تبث ثقة غير محدودة في مستقبل باهر لليبيا، تتجاوز به أزمات الماضي، وتضمد جراح أبنائها.

يتعيّن كذلك طيّ صفحة كل ما كان له يد في إدارة الدولة خلال السنوات الخمس الأخيرة، على مستوى الرئاسة أو الحكومة أو البرلمان، وأن ينضم جميع هؤلاء إلى صفوف الشعب الليبي، ليجنّدوا كل قدراتهم وإمكانياتهم في خلق أجواء بناءة لانتخابات نزيهة شفافة تليق بالأمة الليبية، فليبيا الجديدة لابد وأن تبدأ بشخصيات جديدة على مستوى رفيع من الكفاءة والقبول من غالبية الشعب الليبي، تجمع بينه ولا تفرق، وتبحث عن المساحات المشتركة، لا عن الفوارق والتصنيفات العرقية والأيديولوجية.

لابد أن تلتزم جميع الأطراف بمخرجات مؤتمر برلين 2 حول ليبيا، بإجراء الانتخابات في موعدها، والانسحاب الفوري لجميع القوى الأجنبية على الأراضي الليبية، وكلي يقين من أن الشعب الليبي شعب يقدر حجم المأساة التي مرّ بها، وليس أكثر من الحرب الأهلية والاقتتال بين الأخوة معلماً لما تعنيه الحياة، وما تعنيه مفاهيم الاستقرار والأمن والسلام والرخاء، وسوف ينجح الليبيون معاً في اختيار الكفاءات التي تنقذ بلادهم من كبوتها الطويلة، وتعزز أجواء المصالحة والتفاهم وتجاوز الماضي.

لا أحد ينتصر في الحرب الأهلية، بل يخسر الجميع. ولن يفرض طرف من الأطراف وجهة نظره بالقوة في ظل عالم ما بعد جائحة كورونا، الفيروس الذي استطاع ولا زال قادراً على هزيمتنا جميعاً، دون دبابات، ودون مدافع. ما ينتصر هو المنطق، وما ينتصر هو الإنجازات على الأرض، وما ينتصر هو خدمة المواطن الليبي، وإعلاء قضايا الأمة والمصلحة الليبية العليا فوق أي أهواء أو مصالح سياسية أو شخصية، ومن واقع تواصلي مع عدد من الشخصيات الليبية من جميع أطياف وأطراف الأزمة، تأكّد لي بما لا يدع مجالاً للشك، أن كثيرين من الليبيين يعرفون على نحو تفصيلي دقيق مشكلاتهم الراهنة، وكيفية الخروج منها، وتوظيف الإمكانيات الليبية في خدمة المجتمع الليبي.

لا بد وأن تكون الأولوية بعد الانتخابات، التي نأمل أن تتم في موعدها، أو إذا تم التأجيل فليكن لفترة وجيزة، توحيد الجيش الليبي تحت راية موحّدة تحفظ حقوق كل الضباط والعسكريين دون إقصاء، وتقنن أوضاع السلاح المنتشر في ليبيا، وتؤمن الحدود الشاسعة للدولة الليبية الكبيرة، وتستطيع التنسيق مع زعماء العشائر والقبائل، الذين يعلون، شأنهم في ذلك شأن أي ليبي حر، من مصالح الوطن الليبي على أي مصالح عشائرية أو قبلية ضيقة، وسيفعلون كل ما بوسعهم لتفادي اندلاع حرب أهلية لا قدر الله. ولا شك أن دولاً عربية وأفريقية سوف تكون دائماً في عون الشعب الليبي، كي يتجاوز محنته.

إن جيلاً كاملاً من الوطنيين، المتعلمين، الواعين، المحنّكين، من أبناء ليبيا الحديثة، لن يسمح لليبيا أن تتحول إلى دولة فاشلة.

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب