لا علاقة للإسلام بالأزمة سيد ماكرون الأزمة في علاقة الغرب بالمسلمين من مواطنيه.. أليس الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية من صنع الإرهاب ليستثمر فيه!

سبت, 11/07/2020 - 08:21

دكتورة خديجة صبار

لا يمكن فهم طبيعة العلاقة بين العالم الإسلامي وعالم المسيحية أو الغرب دون العودة إلى محراب التاريخ، وسبر غوره لفهم ما طبعه من صراع وتداخل بين العالمين، ذلك أن للعلاقة الصدامية بينهما محطات حاسمة كانت عواقبها ملموسة تساهم في إذكاء الشعور بالعداء، وتؤثر في المخيال البشري منذ احتلال الأندلس فاجتياح القدس 1099، ثم سقوط القسطنطسينية على يد محمد الفاتح 1453، فحصار فيينا الذي اكتسى بعدا دينيا، واستسلام غرناطة 1492 بعد قيام الحضارة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، ومعركة ليبانتو 1571، فأحداث 11سبتمبر 2001 التي عبر عنها بوش الابن بحرب صليبية، فاجتياح العراق 2003 ومحاولة إعادة صياغة العالم الإسلامي، وما تلا ذلك من أحداث وأعمال عنف لا يمكن اعتبارها معزولة ودون غاية بل تندرج في حرب حضارية- بطرق أخرى- ذات جذور تاريخية.
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وانفراد الرأسمالية الغربية المعولمة بالسيطرة على العالم، وخرق القانون الدولي، وجد الغرب في الإسلام العدو الضروري والمشجب الذي يعلق عليه تناقضاته، وأضحى الشعور بالعداء أو الإسلاموفوبيا يتلازم والإرهاب، يسبغ العداء للإسلام والمسلمين الشرعية عليه. ومهما كان التاريخ عسير الصوغ المنطقي، فهذا الصوغ يبقى من ضرورات الوجود الإنساني: فالعدوان الغربي المستمر ضد الإسلام ذو جذور تاريخية، ألم يقترح ماسينيون على مسيحيي الشرق تمسيح المسلمين “الملعونين” حسب رأيه، كما في رمز أبناء إبراهيم المغضوب عنهم والمنفيين حسب رأيه. والتركيز على الإرهاب أساسه السعي للسيطرة على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى
من الصعب فصل التطاول على رسول الإسلام عن مسار التاريخ. وفي حالة المسيحية والإسلام يجب أن يحيط هذا السياق بتاريخ يعود القهقرى إلى عدة قرون مضت. منذ منتصف القرن السابع الميلادي كان ينظر إلى الإسلام على أنه العدو الخارجي للعقيدة المسيحية الحقة، ولم يدانيه في خطورته المميتة سوى العدو الداخلي أي الهرطقة، وعلى مر الزمان صارت صورة الإسلام بوصفه عدوا ومنافسا وخصما رئيسا، وصورة أكثر تعقيدا وقوة: هذه القدرة على بناء الأعداء وجعلهم شياطين الشر هي التي تغلغلت في مجتمع أوربا الغربية، فكيف كانت المعاني تنمو وتتكاثر؟ فوجئ الغرب بسرعة تقدم الإسلام. ولد النبي سنة 570م تقريبا أي بعد خمس سنوات من موت الإمبراطور جوستينيان الذي كان قد أعاد بناء الإمبراطورية الرومانية(البيزنطية) وعاد بها إلى أقصى اتساع منذ القرن الثاني بعد الميلاد. وفي غضون جيل واحد بعد وفاة الرسول 623 كان محاربو الصحراء من جنود الإسلام يفرضون الحصار على القسطنطينية، عاصمة الإمبراطور.
أكيد أنه ليس ثمة ما هو أكثر رعبا وجرما من الهجوم الإرهابي الذي حدث في قلب كنيسة نوتردام بنيس يوم 29 أكتوبر 2020، وقبله مقتل المدرس الفرنسي “صمويل باتي” الذي أبيد جسديا وبأبشع صورة( فصل الرأس عن الجسد) بالقرب من المدرسة التي يدرس فيها خارج باريس: فعل جريمة وعنف مدان بجميع اللغات وعلى جميع المستويات، فما يرتكب باسم الإسلام من شرور مؤرقة لكل ذي ضمير يقظ. لكن الحدث الرهيب يستدعي من الرئيس الفرنسي استنطاق الواقع لاستيعابه قصد احتوائه، عوض اتخاذ موقف مناوئ للإسلام بتصريحاته الدالة على استبطان حقد تاريخي دفين صليبي وإمبريالي، يظهر العمق المسيحي لفرنسا العلمانية. وأن يصب جام فزعه وغضبه على الإسلام وعلى الرسول دليل على نزعة عنصرية معادية وهروب من أزمة الوضع الاجتماعي الفرنسي الداخلي، لامتصاص الأزمة التي تعيشها الجمهورية منذ انتفاضة أصحاب السترات الصفراء، مرورا بالتركة الثقيلة لجائحة كرونا وتبعاتها، والعجز عن التخفيف من تناقضات المجتمع الفارزة لسلوك من الصعوبة قهره لدى شباب لم يعد بأي حال من الأحوال واثقا من المستقبل. والعنصرية حسب “حنة أرندت” تحمل في تعريفها خمائر العنف،” يمارسه شباب في استغناء عن العدد، يدبر أمره عبر أدوات، ما دامت فاعليته لا تعتمد على الكثرة، مقابل لعبة هدفها الردع بخطاب الكراهية والتحامل المجاني المعبر عنه بالعنف اللفظي الذي لا يعني شيئا آخر غير العلاقة الملتبسة والنظرة المؤدلجة للدين في المجتمع الفرنسي.
الإسلاموفوبيا نتاج لأزمة الغرب الداخلية، وبالرغم من وجود متطرفين من مسلمي فرنسا نشأة وولادة، يشكلون نسيج المجتمع الفرنسي، فإننا نجد إلى جانبهم مواطنين فرنسيين مسلمين، منتجين أكاديميا وطبيا ورياضيا وهندسة وفنا، وملتزمين بقوانين الجمهورية؛ فمن يصنع “الهوية” الفرنسية بل وتاريخها، ومن يدافع عن علمها وحريتها ووطنها ومرماها ليس الفرنسيون وحدهم بل هويات أخرى، فلماذا تعميم الصورة السلبية عن الإسلام، وتعميم العداء والكراهية، باستهداف رمزهم الديني شتما وتشهيرا، اعتمادا على التحامل المنحاز والجهل البين بالإسلام وثقافته؟ وهل من المعقول توظيف حرية التعبير وشعاراتها للتهجم على الدين؟ ألا يكشف خطاب الرئيس عن عنف رمزي طبقا لمنطق تحليل الخطاب هدفه التشهير والشيطنة ناهيك عن التحريض ! ومفاد العنف المعنوي شرعنة ممارسة العنف المادي وتحريض الجمهور عليه، إلى جانب الهيمنة المقوضة لشروط العيش المشترك واحترام معتقدات الآخر المختلف،علما أن احترام الأديان منصوص عليه في جميع المواثيق الدولية! وإذا كان بالإمكان الاستيلاء على الأرض والتحكم الاقتصادي والسياسي والعسكري، فيستحيل الاستيلاء على معتقدات الناس وقناعاتهم ولغتهم. إن الهيمنة تنتج العنف، والعنف يزرع الرعب بجميع أشكاله.
ما الفائدة من تصريحات تعزف على وتر التعصب المفضوح سوى أنها تكشف عن فقدان الحساسية إزاء دلالتها، جارحة لمشاعر وقناعات فئة كبيرة من سكان المعمور؟ والإصرار على مواصلة نشر الرسوم الكاريكاتيرية، وعرضها على واجهة بعض المباني في العاصمة الفرنسية باريس؟ وهل يصح أن يحمّل كافة المسلمين جريرة أعمال عنف وإرهاب تجترحها تنظيمات باسم فهم معين للإسلام؟ وما لسر تزامن تبني تلك المنشورات مع مناسبة عيد المولد النبوي والتطبيع مع الكيان الصهيوني المغتصب المدفوع من طرف أمريكا، وتفجير مرفأ بيروت، وحريق غابات الشاطئ السوري ! إن الإمعان في الموقف تأجيج للجو المشحون في الوقت الذي تستحق فيه فرنسا اهتماما خاصا بثقافة التعايش بين فسيفساء شعبها، بدل خلق تنافر عميق يهدد الأمن والسلم الاجتماعي فيها وفي وأوروبا عامة. أيصدر هذا من رئيس فرنسا الحضارة وفلسفة الأنوار، من مونتيسكيو إلى ديدرو، ومن روسو إلى كوندورسيه وفولتير، مهد الثورة الفرنسية ونضال الشعوب لتنتزع من الطبيعة شروط الحياة المادية، وقيم المساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان؟ ألا يُقصد من صرخة الإثارة الفظة، الربط المصطنع بين العقيدة الإسلامية والإرهاب لنيل رضا رأس المال الصهيوني وكسب بريقه؟ ليجد الرئيس نفسه أمام يقظة الجمهور وحماس عفويته، فتستنجد السلطات الفرنسية بالاتحاد الأوربي المنسجم انسجاما متكاملا، فالغرب كعادته ومع كل الخلافات البينية، متحد أشد الاتحاد وملتحم ضد الآخر، إذ تأتلف مؤقتا ضروب القلق الأكثر تعارضا فيما بينها.
تحويل الصراع إلى الداخل الأوربي
منذ الضربات الإرهابية ” لشارلي إبدو” بتاريخ 7 يناير 2015، مرورا بمجزرة نيس يوم العيد الوطني 14 يوليو 2016، فاستهداف برشلونة بتاريخ 17 غشت 2017، إلى هجوم “فيينا” بتاريخ 2 نوفمبر 2020. لم يتوقف الهجوم الإرهابي في فرنسا وكأنها أصيبت بنهمه. وعوض تكثيف العمل من أجل البحث عن جذوره لاستئصالها، يُسارع إلى القفز إلى الأمام، والارتفاع بها من النسبي إلى المطلق، لحصر الإسلام ضمن سياق الإرهاب، تروج له أجهزة الإعلام وشبكات التواصل، علما أنه ليس كل عربي أو منتسب إلى العقيدة الإسلامية مشبوها، وكأن ليس من المحتمل أن يكون المسيحي عنيفا؛ ألم تعلن وكالات الأنباء العالمية أن عددا من الفتيان والفتيات الأوربيين التحقوا بالمجاهدين في العراق والشام؟ لا يقبل الغرب أن يؤدي ثمن الاكتواء بنيران أخطائه.
إن الخوف من الإسلام يا سيد “ماكرون” هو نتاج أزمة داخلية، وثمن التوسع الاستعماري. ودوله تتحمل مسؤولية تاريخية في الأوضاع الصعبة التي تعيشها دول الجنوب، بنهب ثرواتها واستغلال خيراتها لحد الإفقار، مما يدفع طاقاتها الشابة لركوب القوارب المتقاطرة على الشواطئ الأوربية، والتي غدا ركوبها شكلا مقنّعا للانتحار، لأن راكبيها يعلمون أنهم لن يبلغوا برّ الأمان، وأنهم يحاولون آخر محاولاتهم اليائسة ضد البطالة والفقر والحرمان، وتتدخل بعلاقاتها الدبلوماسية في قضاياها الثقافية والسياسية (لبنان أخيرا) بل حتى التعليم فيها أصبح شأنا غربيا يتم النظر في البرامج والمناهج وفق النظرة الغربية.
الاستثمار في الإرهاب صناعة الغرب. هو من خلقه وهيأ له ظروف الانتعاش والتدريب والتسفير، يوظفه ضد البلدان العربية ويستخدمه ورقة لتنفيذ مصالحه. وجل منفذي العمليات غربيو الولادة والنشأة، مهاجم ” فيينا” من أصل ألباني لكنه ولد ونشأ في” فيينا”. ألم تقل وزيرة الخارجية الأمريكية “هيلاري كلينتون” بصريح العبارة:” نحن مولنا القاعدة”؟ ألم تساهم فرنسا في تسفير فرنسيين من أصل مغاربي لإسقاط النظام الليبي في عهد الرئيس “سركوزي” وحلف شمال الأطلسي ومنظّره الصهيوني “برنار هنري ليفي”، والتنسيق مع حركة الإخوان المسلمين في ليبيا. لا يقبل الغرب تأدية ثمن دعمه المباشر وغير المباشر للجماعات الإرهابية، ويقتنع أن الإرهاب ليس سلاحاً يعتمد لأنه يرتد على صانعيه، مادام جوهر فعل العنف تسيره مقولة الغاية والوسيلة.
– إن أزمة فرنسا وليدة فشل سياسة الهجرة والإدماج والارتكان إلى أسهل الحلول، وجعل الجاليات المسلمة تعيش في الضواحي مع ما يترتب عن ذلك من نظام فصل عنصري عبر عنه بشجاعة غداة أحداث شارلي إبد، الوزير الأول السابق مانويل فالس.
– لقد أضحى خطاب العداء للإسلام من مكونات المشهد السياسي والثقافي للغرب. والمنطق يقول أنه لا يمكن ربط العنف بدين معين أو بثقافة معينة، فهو من صميم الكائن والوجود. وضحايا هذا الخطاب ليسوا مهاجرين يحملون جنسيات بلدان إسلامية بل هم أبناء أوربا ولدوا فيها ويحملون جنسياتها. وصدق الصحافي أيدوي بلينيل بقوله” لقد حل المسلم في مخيال الفرنسي والغربي محل اليهودي حينما كان موضوعا للعداء.”[1]
إن عدم الإساءة للرموز الدينية يعبر عن رقي القيم الحضارية والإنسانية. والحضارة الحالية وهي- غربية بالطبع- تحمل في داخلها جرثومة أزمة القلق واليأس من الحاضر. إن المسيحية الغربية هي من أنتج أفكار التمييز والوهم، وهي التي اخترعت حروب الاستباق والوقاية وهي التي خلقت الاستعمار القديم والجديد. والإسلام في تاريخه لم يكن أكثر عنفا من المسيحية أو اليهودية. من الواضح أن زاد الرئيس الفرنسي من الحضارة العربية الإسلامية ضعيف، فهو ليس دين إرهاب وقتل وتدمير بل دين تسامح ونبذ العنف ودعوة للحوار والتواصل، وكمثال على منهجه في التربية والأخلاق:
– دخول عمر بن الخطاب إلى القدس وعهدته لأهلها ودخول الصليبيين إليها وما أحدثوه فيها.
– دخول المسلمين إلى الأندلس ونشرهم للعلم والحضارة في أوربا ثم خروجهم منها جراء القتل ومحاكم التفتيش.
– أبو بكر الصديق يوصي يزيد بن أبي سفيان لما بعثه إلى الشام قائلا:” لا تقتلوا كبيرا هرما ولا امرأة ولا وليدا، ولا تخربوا عمرانا ولا تقطعوا شجرة، ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغدر ولا تمثل.”[2]
[1] – Edwy Plenel , Pour les musulmans, la Découverte, 2014.
[2]- (السنن الكبرى للبيهقي رقم 18614، (9/80)
كاتبة مغربية