التعليم الرقمي.. لنبدأ الآن

سبت, 10/31/2020 - 17:39

جائحة الكوفيد لن تبقى بيننا إلى الأبد، لكن آثارها ستبقى لزمن طويل، طويل جدا، وهذا ما يجعلنا، لسنا مجبرين فقط، بل مدفوعين باقتناع تام إلى التعامل مع الآثار العظيمة للجائحة، آثار ستشمل كل الميادين بلا استثناء، بدءا بالاقتصاد والسياسة والعادات المجتمعية، وانتهاء بأهم القطاعات حيوية في المجتمعات، التربية والتعليم.

وفي الزمن الذي مضى، مرت الكوارث العظمى على البشرية بالتقسيط، كالزلازل والفيضانات والحرائق والحروب وغيرها، تارة في بلد وتارة في قارة وتارة أخرى أوبئة خطيرة غير متوقعة، تشمل مناطق محددة في العالم، مثل الطاعون الإسباني قبل مائة عام.

لكننا اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، نمر بكارثة كونية شملت الجميع، صحيح أن أوبئة كثيرة مرت على البشرية، لكن حجم العولمة لم يكن قد وصل إلى ما وصله اليوم من تطبيق حرفي لنظرية "العالم قرية صغيرة"، فقد كان العالم كبيرا جدا وشاسعا، فجعلته العولمة بلدة يبدأ الوباء في شمالها صباحا، فيصل جنوبها مساء.

لهذه الأسباب، وغيرها يقول الفلاسفة وعلماء الاجتماع إن البشرية، لأول مرة في تاريخها، تواجه اليوم عدوا واحدا، البشرية كلها في جانب، والوباء في جانب آخر، وفي ظل هذا الوضع صار العالم فعلا قرية صغيرة، أصغر مما كان مفترضا، وعادة ما يتصرف سكان القرية بطريقة مشابهة جدا، لذلك صار الناس يسلكون التصرفات نفسها، أبرزها أنهم، أو أغلبهم، قرروا البقاء في منازلهم خلال فترة الوباء، وحتى في حال انفراج الوضع في وقت ما، فإن الكثير من هذه "السلوكات الكوفيدية" لن تتغير، بل ستكون منطلقا نحو إعادة بناء عالم مختلف تماما في المستقبل.

هذه "السلوكيات والعاديات الكوفيدية المستقبلية، بالتأكيد، ستصنع لنا إنسانا كوفيديا مختلفا، وهذا الوصف ليس من باب اللعب بالمصطلحات، بل سيكون ذلك أمرا واقعا ومترسخا إلى درجة قد تثير اندهاش حتى أكثر الناس تفاؤلا بالتغيير، فلم يكن هناك في تاريخ البشرية محفزات أكثر ثراء للتغيير من الكوارث والحروب العظمى والأزمات القاتلة.

في التغيرات السلوكية الناتجة عن الكوفيد حاليا، هناك منتصر كبير، ليس الوباء بالتأكيد، لأنه سيخسر يوما، لكن لدينا منتصر أزلي، وهو الأنترنيت، الذي صار سيد الزمان والمكان، وطرح نفسه، في فترة زمنية وجيزة جدا، كبديل إستراتيجي بلا منافس في الحاضر والمستقبل، ويكفي فقط أن نمارس لعبة الخيال لكي نتصور لو أن هذه الجائحة حلت بنا في زمن لم يكن فيه الأنترنيت موجودا، أكيد أن وجودنا في الأصل سيكون مهددا بخطر كبير.

ما ساعد أكثر في تسيد الأنترنيت للمشهد هو أن صبيبه شهد ثورة حقيقية في السنوات القليلة الماضية، وحوّل الكثير من المهام والمهن إلى القطاع الرقمي بشكل غير مسبوق، وانسابت المعلومات بشكل فاجأ حتى المختصين في المجال.

هكذا، حل الأنترنيت معضلة بشرية على قدر كبير من الخطورة، في وقت كان من الممكن أن تُشل كل القطاعات، وأن تتحول حياة البشر إلى جحيم يومي لا يطاق، وأن يعود الإنسان إلى زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية، أو حتى الأولى، ويختلط حابل التقدم الصناعي غير المسبوق الذي وصلته البشرية بنابل التقهقر السريع نحو الماضي..

هكذا، صار "الكوفيد" هو الداء والدواء، هو النفق وهو الضوء، وربما لولاه لضاعفنا المسافة نحو المستقبل؛ لكننا اليوم نختصرها بفعل ما قدمه لنا هذا الوباء، رغم كل الخسائر، لأننا صرنا ملزمين بأن نتفوق على أنفسنا الآن وفي المستقبل، وأن نحول الكثير من قطاعاتنا الحيوية إلى عجينة رقمية بين أيدينا نمارسها في أي مكان، من دون إلزامية التنقل أو بناء المؤسسات الكبرى بجيش الموظفين وبعبء مالي واقتصادي كبير.

لنحاول، إذن، أن نثبت أننا تجاوزنا خطا أحمر، لا يمكن العودة بعده أبدا إلى الوراء، وهذا الإثبات قد يكون طويلا جدا لو تطرقنا لكل المواضيع التي تضررت من الوباء وحاولت تجاوز تبعاته من خلال مختلف الوسائل، ولنركز فقط على قطاع على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لكل الشعوب، إنه قطاع التعليم، بمختلف مستوياته، من مرحلة الحضانة وتعلم الحروف الأبجدية، إلى التعليم الجامعي المفضي مباشرة إلى العالم الواقعي برهاناته الكبرى.

فمنذ الأيام الأولى لتفشي الوباء وبدء البلدان تطبيق الحجر الصحي، كان التحدي كبيرا، وهو كيف نحافظ على مستقبل الأجيال من دون أن نعرضهم، ونعرض الجميع للخطر. فمهما كانت خسائر الاقتصاد والصناعة كبيرة، بل كارثية، فإنه لا يمكن تصور خسائر بهذا المستوى في مجال التعليم، لأن ذلك يهدد الحاضر والمستقبل.

لهذه الأسباب انخرط التعليم سريعا في سياق تطوير نفسه للنجاة من الجائحة، أو، على الأقل، الخروج بأخف الأضرار. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي لقيها التعليم عن بُعد في البداية بفعل عامل المفاجأة، وأيضا قلة الإمكانيات وغياب التكوين، سواء لدى المدرسين أو المتلقين، فإنه حاول تطوير نفسه مع مرور الأيام، والمطلوب منه أن يواصل عملية التطوير الذاتي خلال الشهور والسنوات المقبلة، لأن هذا قدره المستقبلي، سواء بالجوائح أو من دونها.

اليوم، سمع الجميع عن التعليم عن بُعد، بعدما كان، حتى شهورا قليلة خلت، شكلا من أشكال الخيال العلمي، أو في أحسن الأحوال كان ترفا لا حاجة إليه في ظل توفر كل الظروف الممكنة للتعليم الحضوري، والذي لم يكن يسمى حضوريا لسبب بديهي، وهو أنه لم يكن يوجد مصطلح "تعليم عن بُعد"، فبالأضداد تعرف المصطلحات.

نحن اليوم أمام واقع لا مناص منه، وهو أن التعليم المستقبلي إما أن يكون "افتراضيا" أو لا يكون، وكلمة "الافتراضي" هنا تأخذ معناها من قلب مصطلح "التعليم عن بُعد"، لكن تحت جلباب هذه المصطلحات توجد الكثير من التفاصيل، حيث يختبئ الشيطان عادة.

من أبرز التحديات التي تعترض التعليم الرقمي هو ديمقراطية الوسيلة؛ فلا يمكن أن ندخل هذا التحدي بينما نسبة كبيرة من المتمدرسين يفتقرون إلى الوسائل اللازمة للتدريس عن بُعد. وهذا بدا جليا خلال المراحل الأولى التي تلت قرار التعليم عن بُعد حين دخل العالم، ومعه المغرب، مرحلة الحجر الصحي وأغلقت المدارس والمعاهد، وصار التعليم الحضوري مستحيلا. وعلى الرغم من كل المثالب التي طبعت هذه البداية المتعثرة، فإنه يمكن اعتبارها تأسيسا فعليا لمستقبل يمكن فيه تحقيق هذا الحلم البيداغوجي.

وبما أننا نتكلم عن طريقة مستقبلية للتعليم قد تكون قدرية ولا مفر منها، فإنه أيضا لا مفر من توفر الكثير من الأسس التي يجب أن تجعل هذا المستقبل آمنا بما فيه الكفاية بالنسبة للجميع. من أبرز هذه الشروط أن يكون الملقن والمتلقي على قدر كبير من الوعي بأهمية هذه الطريقة. ونحن هنا لا نتحدث عن حتمية أن يكون الملقن مدرسا بالطريقة التقليدية، بل من الممكن أن يكون غير ذلك، ولن نقول بالضرورة حاسوبا أو إنسانا آليا.

التعليم عن بُعد، والذي لن يصبح مستقبلا استثناء، يجب أن يخضع لآلية حقيقية من الانضباط والتفاعل الإيجابي بين الملقن والمتلقي بشكل يجعل التعليم الحضوري، الذي يمكن أن يصبح من الماضي، وسيلة لتسريع زمن التعليم في مختلف مراحله، بل وتكثيف كم المعلومات وراهنيتها، من دون تمييعها بالوفرة الزائدة، وأيضا تنمية جرعة الحماس لدى الطرفين، وهو ما سيمكن من اختصار الزمن التعليمي وربح رهانات كانت إلى وقت قريب من سابع المستحيلات.

التعليم عن بُعد سيكون إلكترونيا مائة في المائة، وهو ما يعني أنه سيكون مرتبطا بما حوله من مجال حيوي اقتصادي واجتماعي. وهذا الارتباط سيكون عضويا لأسباب؛ أهمها أن العالم سيخرج منهكا جدا من الجائحة، وهذا الإنهاك الاقتصادي سيجعل من الحتمي ربط التعليم بأسواق الشغل مباشرة، وهذا ما يجعلنا أمام تحدّ حقيقي على المستويين التعليمي والاقتصادي، بحيث يجب أن نفتح القنوات مباشرة بين عالمين لم ينفصلا يوما، لكنهما سيكونان أكثر ارتباطا فيما سيأتي من سنوات وعقود.

إننا هنا لسنا بصدد الحديث عن تفاصيل ومزايا التعليم عن بُعد، بدءا من الابتدائي وحتى الجامعة، وستأتي مناسبة التطرق إلى هذه التفاصيل، لكن ما يهمنا أكثر هو تبيان المزايا الإستراتيجية لنمط تعليمي، خصوصا التعليم الجامعي، يُفرض علينا فرضا حاليا ومستقبلا، فمن أبرز النعم التي سكنت نقمة "الكوفيد" هي أننا صرنا نفكر جديا في هذا الأمر في وقت لا نرى من الفيروس الكبير سوى وجهه الحالك، لكن سيمر بعض الوقت لكي ندرك الكثير من أوجهه الإيجابية.

إن ما يقودنا إليه الفيروس الحالي، أو الفيروسات المقبلة، هو أنها ستكون بمثابة الداء والدواء، وسنتذكر معها ما قاله الشاعر "فداوني بالتي كانت هي الداء"، فهذه الجوائح تضعنا مباشرة أمام مرآة المستقبل، وسنضطر إلى معاينة أنفسنا عراة من الألبسة المنمقة والمساحيق التي داومنا عليها طويلا، والمستقبل سيعرينا تماما أمام واقع قاس.

إن ربط التعليم بأسواق الشغل سيزداد إلحاحا مع قسوة الظروف التي سيعرفها العالم، ونحن جزء لا يتجزأ من محيطنا. لذا، يلزمنا أن نستبق زمنا قادما لا محالة لكي نكون في الموعد، وأن نتوقف عن رعاية تعليم أغلب همه هو توفير مناصب الشغل للمدرسين وجيش من الموظفين، ومقابل ذلك يخرّج هذا التعليم جيشا من العاطلين كل عام، وكل ما نفعله مع هذا الواقع المؤلم هو الاقتداء بالنعامة، فنواصل إغراق رؤوسنا في الرمال، لكن المستقبل لن يوفر لنا المزيد من هذه الرمال. لذا، يلزم أن نبحث عن حل أفضل، خصوصا أن تأثيرات الفيروس ستكون أشد وطأة على البلدان النامية منها على البلدان المتطورة، والوقت الذي يلزمنا للتعافي هو أضعاف الوقت الذي يلزم البلدان الصناعية. لذا، صار من الملح إنجاز قفزة تاريخية في مجال التعليم ستوفر علينا الكثير من الوقت والجهد مستقبلا.

قد يكون الحديث عن التعليم المستقبلي فضفاضا في الكثير من أوجهه؛ لكننا حين نتحدث عن التعليم الرقمي فإننا بالضرورة نتحدث عن ربط هذا التعليم بأسواق الشغل، والقصد هنا أساسا هو التعليم العالي، وهو التعليم الذي تعتبره مختلف البلدان البوابة التي تقود مباشرة إلى العالم الواقعي، وهذا المعطى هو الذي يفرض اعتماد مناهج وبرامج تعليمية تقرب أكثر من أسواق الشغل.

ربما ينبغي أن نكرر أسفنا على وضع جامعاتنا، التي لا تستطيع أيا منها وضع نفسها من بين المائة جامعة الأفضل في العالم، ولا حتى بين أكثر من ذلك؛ لكننا بالتأكيد نجد الوقت الكافي لكي نفخر بأعداد الخريجين وأعداد الأساتذة والطواقم الإدارية وغير ذلك من أرقام لا تضعنا إلا في ورطة بعد ورطة، لأننا نستمر في الدوران ضمن الحلقة المفرغة التي لا تقود إلا إلى الفراغ نفسه، الفراغ الذي يجعل الطلبة شبه منفصلين عن محيطهم الاقتصادي والاجتماعي، الفراغ الذي يجعل طالبا، بعد تخرجه، يشبه بدويا في باريس، ينظر إلى ما حوله بكثير من الدهشة المقرونة بالإحباط.

* مختص في التواصل وشؤون التربية والتعليم