بين التطبيع والتمييع.. مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان ودولة الكيان

سبت, 10/17/2020 - 09:26

بلال مصطفى
ما رأيناه في الأيام السابقة من إشكالات في المجتمع اللبناني السياسي والشعبي على خلفية شكل الوفد الذي ذهب للمشاركة في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود مع العدو الصهيوني، وذلك برعاية الأمم المتحدة وفي مقرها الحدودي هناك وبتحكيم أميركي، بحجة تسريع عملية استخراج الغاز من المناطق البحرية المتلاصقة حدوديًا، هو مشهد يوحي بالتمييع للمواقف السياسية في الداخل اللبناني من قبل الموالين لأمريكا أو الذين ينصاعون للإرادة والعقوبات الأمريكية التي يلوح دائمًا بها.
كان من المفترض أن يكون الوفدان اللبناني والإسرائيلي خاليين من المدنيين، لتغير بعدها الحكومة الإسرائيلية تشكيلتها عدة مرات وتوهم بمشاركة أحد وزرائها حتى اللحظات الأخيرة. وفي لبنان، وبطريقة شد الحبال، أدخل شخصين مدنيين مع الوفد العسكري تحت شعار خبراء، الخلاف ليس بروتوكولي، خصوصًا مع وجود رغبة أمريكية صهيونية بصناعة جو تطبيعي والتي سعت سعيها لنيل بعض الوقود الشكلي لانتخابات الرئيس الأمريكي، ولو بصورة تذكارية تجمع الوفود، كانت تلك الضغوط لتغيير شكل الوفود العامل الأساس لخلق تلك الاشكالات. أما المكايدة السياسية في لبنان فهي تعزز هذا النهج، وعادةً ما يضلل التمييز بين العميل والمكايد.
لبنان كأي دولة في العالم تريد البحث أو التنقيب عن الغاز والنفط في البحر, يجب عليها أن ترسم حدودها أولًا ثم تستدعي الشركات النفطية للبدء بعمليات الاستكشاف أو التنقيب. كل ذلك يجري بشكل اعتيادي بين الدول الصديقة استنادًا للاتفاقيات الدولية، القانون الدولي وقانون البحار. وفي الحالة اللبنانية بوجود الكيان الصهيوني المحتل للأراضي والمياه الفلسطينية, الرافض لتوقيع الاتفاقيات الدولية فيما يتعلق بشؤون البحار, الملتزم سلبيًا بالقانون الدولي, والذي اختلق مشكلة جوهرية في ترسيم الحدود بينه وبين لبنان وقبرص بأيدي لبنانية, وذلك بتنازل مخطئ من قبل رئاسة الحكومة اللبنانية عام 2007 والذي قضى بتراجع لبناني ل 10 أميال بحرية من جهة الجنوب مع فلسطين المحتلة ومن الشمال مع سوريا بنفس التراجع, ليأتي التصحيح اللبناني عام 2009 من حكومة ثانية بنكس تلك الاتفاقية التي كانت مع قبرص, لتقوم إسرائيل وقبرص بعدها بترسيم حدودهما البحرية على أساس التراجع اللبناني, ما استدعى حكمًا دوليًا متمثلًا بالولايات المتحدة الأمريكية لفض النزاع. المطامع الغازية المرتبطة بنواة النزاع تكمن في البلوك البحري اللبناني رقم 9 الحدودي والملاصق لاكتشافات إسرائيلية في الشطر المقابل، والتوقعات تشير أن الآبار الغازية والنفطية في تلك النقطة متداخلة بين الجانبين وبكميات كبيرة، والطمع المستقبلي الأكبر يكمن في تشبيك خطوط الأنابيب من دول الخليج ومصر صعودًا ليشمل إسرائيل ولبنان، عوضًا عن الاكتشافات في البحر السوري والقبرصي.
هذا النزاع التقني والذي طال الأخذ والرد فيه عشر سنوات تحت الطاولة بين عدة مفاوضين أمريكيين مع المفاوض اللبناني تحديدًا رئيس المجلس النيابي نبيه بري، فيما خص ترسيم الحدود، أفضى في شهر الماضي إلى كتابة ورقة اتفاق إطار للبدء بالمفاوضات وتسليم زمام الأمور إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية والجيش اللبناني. وكان لبنان خلال تلك المدة الطويلة قد أعطى إجازتين للتنقيب في البحر فقط لبلوكين من أصل 10, ولنفس تحالف الشركات النفطية (فرنسي-روسي-إيطالي) وفي مباراة كاملة وحيدة لأن الثانية لم تبصر نتائجها النور، مقارنة مع دولة الاحتلال التي أقامت 3 مباريات لعدة بلوكات بحرية وهي فعليًا تخطت عملية الاستهلاك المحلي للغاز المستخرج لتبحث عن التصدير. 

 

في لبنان الإجازة الأولى كانت لبلوك رقم 4 شمالًا والذي أبرز محورية شركة توتال الفرنسية التي تترأس تحالف الشركات الرابحة، بعدما باشرت مؤخرًا وقبل انفجار مرفئ بيروت بأشهر قليلة بعملية بحث استكشافي في تلك المنطقة وهي فعليًا لم تفصح حتى يومنا هذا عن النتائج النهائية المفصلة، أما بلوك رقم 9 فهو حدودي والذي لم يحرك فيه شيء، بالرغم أن اتفاقيات التلزيم بين تحالف الشركات الرابحة والدولة اللبنانية تجبر الشركات أقله بالبدء بالبحث تمهيدًا للتنقيب خلال وقت زمني محدد. بدا جليًا أن العجلة السياسية الدولية هي المحرك لهذا الملف وأن لبنان عاجز إراديًا عن الالتفاف بخلافها انكسارًا للجهات الداخلية والخارجية.

وفعليًا لبنان اليوم يعيش أزمة اقتصادية وكيانية جدًا صعبة، وأزمته نابعة من عوامل مكايدات داخلية وضغط خارجي بأبشع أشكاله. موضوع ترسيم الحدود بين لبنان ودولة الاحتلال يفتح اليوم ليس لمصلحة لبنان بل هو لمقايضته على أمور أخرى، كالأمور الاقتصادية الداخلية المتعلقة بالبنوك اللبنانية والعقوبات الأمريكية المنفذة بأيدي لبنانية ضد الشعب بأكمله، من شح في تأمين اللوازم الأولية كالقمح والدواء والبنزين، والارتفاع المجنون للأسعار مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية هي أشكاله. أما القرار السياسي الداخلي اللبناني فهو لا يتمثل في جهة واحدة، كسفينة معطوبة يقودها أكثر من قبطان بعضهم لا ينزع السيجار من يده في جوٍ تملؤه العواصف الرعدية.
الأطراف الخارجية التي تسيير هذا الملف عديدة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية التي تلعب ورقتها في عملية ترسيم الحدود مغطسةً إيها بالتشبيك الاقتصادي للطرفين اللبناني والإسرائيلي لأن الشركات المشاركة في مباريات التنقيب عند الطرفين هي نفسها إلا قليل. والجهة الخارجية الثانية هي الدولة الفرنسية التي ما برحت طرحًا لمبادرتها لحل الأزمة السياسية-الاقتصادية في لبنان، والتي زار رئيسها إيمانويل ماكرون عدة مرات لبنان بعد انفجار مرفئ بيروت، وكل معالم زياراته كانت توحي مباشرة للمجتمع اللبناني أنه يعرف ويقدر أهميت لبنان أكثر من حكامه الذين أوصلوه إلى الحضيض، حتى وصل الأمر إلى سماع صوت نشاز في الداخل اللبناني يطالب بعودة الانتداب على يديه، ونسوا أنه يعاني في بلده ضغطًا شعبيًا رافضًا لسياسته الاقتصادية. وفرنسا هي الدولة الراعية لمؤتمر سيدر مع بعض الدول الأوروبية كإيطاليا، المخصص لتديين لبنان أموال تكفيه لسد استحقاقات الديون السابقة التي توقف عن سدادها وبعضًا من مشاريع الخصخصة في عدة مجالات. وهناك تقبل كبير للموقف الفرنسي من الأطراف السياسية اللبنانية الحاكمة بعضهم طوعًا أو خوفًا من العقوبات، والأخر على سبيل النجاة.
لبنان لم يضغط على شركة توتال الفرنسية للكشف عن جدية العملية الاستكشافية التي قامت بها أو حثها على المتابعة، حتى أنه توقفت المباراة الثانية لإعطاء الإجازات على باقي البلوكات لأسباب تتمحور حول عدم قدرة الشركات النفطية العالمية الاستثمار في ظل أزمة كورونا، وتكذيبًا لهذا المنطق، قامت إسرائيل بفتح أبواب الترشح لثالث مباراة.
لكن تقاطع المصالح الأمريكي الفرنسي الإسرائيلي يكمن في تشبيك خطوط أنابيب الغاز في المنطقة، وبذلك تكون شركة توتال الفرنسية المشاركة في البلوكين في لبنان قد وجدت طريق التصدير مأمن، وبمشاركة دول أكثر كدول الخليج ومصر ما سينشط كمية الاستثمار لإنشاء أنابيب جديدة باتجاه قبرص لقطع الطريق على مساعي تركيا لنقل الغاز المستقبلي من شمال لبنان إلى أنابيبها القريبة في قبرص-التركية.
لبنان يواجه أزمات متعددة الأوجه، وتحديًا لما يمثله من بلدٍ يعيش فيه شعبٌ لا يرضى الزل، والخوف على لبنان يأتي من قلة اهتمام حكامه بالشأن العام، في كل صغيرة وكبيرة تكمن المكايدة بين الأطراف الداخلية التي من السهل العبث بمواقفها من الخارج وهي ليست بعاقلة. ولعل الحل يكون فقط بالوعي لدى الشعب بأكمله ليفرض على فراعنة زمانه ومكانه الأدب والاحترام لفقر الشعب الذي هم سببه، والله كريم.
كاتب لبناني