مغامرة الحسين

خميس, 09/03/2020 - 16:30

تأبط الحسين لوحته الخشبية بعد تقبيله يد الفقيه السي أحمد مرتين. وربت هذا الأخير على كتفه مهنئا إياه بهذا الإنجاز الكبير. فالتفت الحسين مبتهجا صوب والده، ثم هرول لتقبيل يده ورأسه مرات متتالية. نجاحه هذا في اجتياز عقبة "التزويقة" أو "البقرة الصغيرة"، كما تسمى في بعض المناطق لم تمر بسهولة.

تموقع بيته خارج الدوار كان يحتم عليه قطع مسافة ليست بالهينة للوصول كل يوم إلى المسيد والمثول أمام الفقيه السي أحمد.

كان الحسين مواظبا على الحضور رغم وعورة المسالك وقساوة الجو وضعف الإمكانات. جلبابه المتهرئ، الذي ورثه عن أبيه ويلازمه صباح مساء أضحى متأقلما مع فصول السنة. يقيه من حرارة الشمس في الصيف ويحاول حماية جسمه النحيف من قساوة البرد في الشتاء. لونه الحقيقي اندثر وتغير بفعل تقلبات الجو والقدم. أصبح جلبابا لا لون له. أما فلقة الفقيه السي أحمد وما أدراك ما الفلقة، فكانت هي المعضلة الكبيرة التي لا حيلة ولا دواء لها. فاذا تلعثم الحسين في ترديد الآية التي نسخها بالصلصال على لوحته الخشبية – وهذا ما يحدث باستمرار – فيضطر المسكين لرفع قدميه والاستسلام للدغات قضيب الفقيه الحارقة. وإياه ثم إياه أن يكتشف أمره من طرف والده. وإلا سينال عقوبة ثانية! آثار قضبان الفقيه السي أحمد تظل مرسومة باستمرار على جسد الحسين.

ولا داعي للتطرق لنوعية الغذاء الذي يحمله معه. فقطعة الخبز تبقى في الغالب هي الوجبة الوحيدة التي ترافقه كل يوم. اللهم في بعض الحالات الخاصة، كالأعياد مثلا، حيث ترفق قطعة الخبز هذه بأحد أعضاء الدجاج المتبقي من البارحة. أو بعض حبات الزيتون في موسمه تضفي مذاقا جديدا لقطعة الخبز الحافية. فيقبل يد أمه يامنة تقبيلا ليعبر لها عن مدى غبطته.

مواظبة الحسين على حفظ القرآن لم يكن اختياريا. فقرار أبيه لا يمكن أن يناقش بأي شكل من الأشكال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى انعدام أي بديل آخر في المنطقة حتم على الحسين الانصياع للأمر الواقع! انها حياة عادية وبسيطة يعيشها أهل هذه المنطقة. روتين مستمر. بمجرد بلوغ الأطفال سن الثانية أو الثالثة يزج بهم في حضن المسيد. صغارا وكبارا في "فصل" تختلط فيه الروائح المتنوعة والمنبعثة من كل الجهات. هذه الروائح التي تحاول البحث عن منفذ للخروج ولكن دون جدوى. فتعود مرة أخرى للاستنشاق من جديد. خصوصا في أيام البرد حيث يقفل الباب وهو المتنفس الوحيد لتلك الأنفاس المكدسة داخل بضعة أمتار. فيغلب النعاس على بعضها وسرعان ما تعود لوعيها باكية من شدة ألم القضيب الذي يعكر عليها تلك اللحظة. في هذه الحالة يستقي الفقيه القضيب المناسب في الطول للوصول إلى هدفه.

هذا هو نمط حياة أغلبية الأطفال في بداية حياتهم بهذه المنطقة. بعدها تأتي مرحلة الاشتغال بالفلاحة أو في بعض الحالات النادرة البحث عن عمل خارج المنطقة.

هل سيختلف مصير الحسين عن باقي أقرانه؟

جرت العادة بعد التفوق في اجتياز "البقرة الصغيرة" أن يطوف طلاب المسيد على منازل الدوار. حيث يغدق عليهم ببعض النقود أو بمنتوجات محلية كالبيض والتمر.

نظر الحسين إلى صديقه المعطي، بعدما رأى تسابق الحشد الكبير من الطلاب تجاه بيوت الدوار للظفر بجمع أكثر ما يمكن من الدريهمات. واقترح عليه القيام بنفس المهمة ولكن في دوار آخر بعيدا عن دوارهم. كانت هذه هي بداية المغامرة.

لم يسبق للحسين أن تخطى حدود المنطقة لوحده. لقد سبق له زيارة بعض الدواوير المجاورة أثناء ذهابه للسوق الأسبوعي. ولكن دائما رفقة أبيه. هذه المرة دون رفقته ودون علمه أيضا.

الحسين ابن الثانية عشرة سنة يقدم لأول مرة على تكسير الحواجز.

كانت الطريق جد متعبة وطويلة، اضطر على إثرها الحسين إلى التوقف عدة مرات لاسترجاع أنفاسه المنهكة في غياب ماء يروي به عطشه أو أي شيء يسد به رمقه. غنيمة البيت الأول التي كان الأمل معلقا عليها كانت عبارة عن بيضتين. ولكن شربة الماء أطفأت ظمأه وهدأت من روعه.

شكر الحسين صاحب البيت وتابع طريقه صحبة المعطي في اتجاه البيت الموالي.

ازداد تعب الحسين وهو يتنقل من بيت إلى بيت في طريق كلها شعاب ومنعرجات. وكان من حين لحين يتفقد الحصيلة التي أودعها في قب جلبابه. في نفس الحال بدأت الشمس تستعد للغروب. تابع الحسين سيره محتاطا من هجمات الكلاب الضالة التي تكشر عن أنيابها كلما واجهته. وبدا جليا بعد مدة قصيرة استحالة طرق باقي الأبواب في هذه الأجواء التي أصبح فيها الظلام ينتشر بسرعة.

تمعن من جديد في وجه صديقه الشاحب وأطلق عنان بصره من حيث أتى:

"لا نستطيع أن نعود إلى دوارنا في هذه الساعة". مضيفا: "الطريق طويلة ومظلمة. هل أنت أيضا متفق معي؟".

بعدما طأطأ صاحبه رأسه مبديا موافقته، ارتمى على الأرض. تفحص من جديد حصيلة القب. أعد الدريهمات وهي تتصبب زيتا. فتابع التنقيب عن مصدر الزيت. حيث عثر على رغيفة صغيرة اقتسمها مع صديقه.

وأطلق العنان للتفكير.

لا بد أن والديه الآن في حيرة. يتوقع أن ينزل أباه بفانوسه الزيتي إلى قلب الدوار للبحث عنه في كل مكان. كما يتوقع أن أمه لن يغمض لها جفن هذه الليلة إلا بعد العثور عليه. والشيء الأكيد الذي يتوقعه هو "السلخة" التي سيتلقاها من والده عند ملاقاته.

"لدي فكرة!"، قاطعه صديقه. "سنبحث أولا عن مسجد هذا الدوار لنقضي فيه الليلة".

حبذ الحسين الفكرة ثم انتفض قائما وهو يحاول إدخال بلغته، أو قطعة الجلد المتبقية منها، في رجله. ثم أسرع في المشي للعثور على المسجد قبل صلاة العشاء. وإلا فسيصعب الأمر.

وكما هو الحال في جميع الدواوير، فالمسجد هو المؤسسة الوحيدة التي لا تخفى على أحد. صغيرا كان أم كبيرا.

فبمجرد ولوجه باب المسجد بادره أحد المصلين بالسؤال:

"من أين أنتم؟".

شيء طبيعي أن يتساءل المصلون عن هذين الوافدين الجديدين على المسجد. وانضم إمام المسجد أيضا للاستفسار عن الوضع.

وفي الأخير سمح للحسين وصديقه بالمبيت هذه الليلة في المسجد. فقام الجميع للصلاة بعد تأدية الأذان، غير أن ذهن الحسين ظل شاردا. لقد تذكر إحدى الحكايات التي قصها عليه جده حول المساجد. هذه الأخيرة تتخذ بمثابة مستودع للأموات في الليل. فإذا تعذر دفن الميت نهارا، سيضطر لقضاء الليل في المسجد.

هذه الحكاية كان لها وقع كبير على الحسين. جعلته ينسج حولها تخيلات مرعبة. كنهوض الأموات ليلا من كفنهم والتجول في أرجاء المسجد. فازداد تخوفه.

ولكن ما هو البديل؟

أحس الفقيه بالخوف الذي انتاب وجه الحسين. واقترح عليه الذهاب معه للبيت لقضاء الليلة هناك. على أن ينام فوق سطح الدار. لأنه لا يملك إلا غرفة واحدة ينام فيها هو وزوجته. سطح الدار عبارة عن أرض مستوية، لا يحدها سور أو حاجز من الجوانب.

تذكر الحسين ما تقوله أمه حول عادته في النوم. فهو لا يهدأ من التقلب في فراشه من مكان الى آخر.

وماذا عساه أن يفعل اليوم؟

اقتسام المبيت في المسجد مع الموتى أو امتطاء السطح مع خطورة الوقوع على الأرض؟

يتبع!