نحن رجال

جمعة, 08/21/2020 - 14:16

نحن رجال ولا خوف إلا من الخوف! ...

يتراءى لي كل شيء حلما لكنه من صميم الواقع. لم يغادر مولاي أحمد دنيانا منذ يوم أو يومين، لكن آخر لقاء جمعني بأسد الجبل يعود إلى أزيد من عشرين سنة.

هل أريد أن أقنع نفسي أنه مات وانمحت ذكراه؟ هل أقنع الآخرين أنه راقد منعم في مثواه الأخير منذ عقدين ونيف، لكنه حي في أعماق ذاكرتي ووجداني كأني قابلته بالأمس؟

أكتب عنه، لكن شعورا غامضا منبثقا من باطن الغيب يخترق كياني، ومعه أحسني أعرف هذا الفتى الشجاع منذ الأزل وأن روحه وروحي تعارفا وتعانقا في برزخ مجهول لكنه أقدم من القدم.

يجب أن أعترف أن الزمن لا قيمة له في هذا المجرى الوجودي النابض بالحياة.

مولاي أحمد! أنت الغائب الحاضر وقصتك تنبض في شراييني..

أن أحكيها لك، أن أشاركك بعض تفاصيلها الرائعة، أن أدق أبواب من يريد أن يستمع لها ويتخيلها كيف جرت... تلك مهمتي، فلكل حكاية راو ولا أحد يستطيع أن يقصها على الملأ غير روحك الطاهرة، غير روحك التي لم تمت رغم حتمية الوداع.

أيها العالم، إني أصرخ ملء صوتي؛ فهل تسمعني؟

يعتقد كل من رآني وعاشرني لمدة كافية أني بحري، فطريقة كلامي وحركات يدي وتقاسيم وجهي... كل ذلك يتدفق من معين الحرية والانطلاق.. لكني ابن الجبل ومن تضاريسه الوعرة انطبع في جيناتي منه مزيج من الصلابة والعناد والرغبة المجنونة الجامحة في قهر الشدائد وتسلق الصعاب.

نحن رجال! أبناء الجبل نحن.. لا نخاف إلا من الخوف!

كان والدي رحمه الله فقيها عاش حياته كلها متنقلا بين الجبال. وسماني أحمد تيمنا بخير الورى، وكان اسمي أيضا مطابقا لاسم جدي من أبي، لكن أخوالي كانوا يرددون دوما على مسامع والدي: ابنك مبروك، على وجهه طابع النجابة، وفي عينيه وميض الذكاء. سيباركه المولى في كل الخطوات ومشاريع الحياة... ولعلك تذكر أن فراشك ازدان به في أقدس يوم في دورة الكون: ليلة القدر..

إنه ليس أحمدا فحسب، انه سليل البركة والإشراقات. سنناديه دائما (مولاي أحمد)!

مولاي أحمد! إنك لم تمت، فروحك الزكية ترفرف فوق رؤوسنا كالشاهد الصامت لما يقع في العالم. ها أنت تهاجر من قريتك الصغيرة المدفونة في سفح الجبل وتقصد المدينة للعمل. ها أنت تبدأ حياتك من الصفر، وتبيع في مستهل مسيرتك في العمل كل شيء: التين والزيتون ومواد التنظيف والأغذية في محلات البقالة... جربت كل شيء في التجارة، وبعت حتى الجوارب وأعواد الثقاب.

ها أنت تبكر إلى العمل.. ها أنت تقوم من نومك على الساعة الثالثة صباحا وتركب دراجتك قاصدا الضيعات للتزود باللبن. ها أنت تعود إلى محل تجارتك بعيد الفجر لتضع فيه الحليب المعد للبيع وتصنع منه في الآن ذاته الزبدة واللبن والرائب. ها أنت تتزوج في العشرين وترزق بتسعة من البنات والبنين حرصت على تمتيعهم بأفضل تربية رغم ضيق ذات اليد وشح الموارد.

ها أنت تنيف على التسعين وتظل رغم أعاصير الحياة الهوجاء صامدا شامخا كالجبل لا ينهد لك بنيان. ها أنت في منتصف التسعين تقترب من النهاية، لكن النهاية بداية وأنت ضاحك الوجه منفرج الأسارير تداعب وتلاعب أبناء أحفادك.

يتراءى لي كل شيء من نافذة الأحلام ولكنه يطل علي من شرفات الواقع. لم تغادرنا يا مولاي أحمد منذ يوم أو يومين أو عام أو عامين، لكن روحك وروحي تشابكا وتعارفا في برزخ مجهول أقدم من القدم، في برزخ زمنه لا وزن له ولا قيمة في هذا المجرى الوجودي النابض بالأمل.

* خبير التواصل والتنمية الذاتية