الصحراء المغربية .. العقدة التي وحّدت الإسبان

جمعة, 08/21/2020 - 14:15

تاريخ إسبانيا مليء بالصراعات والمواجهات التي طبعت مسار هذه الدولة منذ تشكُّلها، بل ساهمت صراعات وتطاحنات الطبقة السياسية في الجزيرة الإيبيرية في تسهيل دخول جيوش المسلمين، وقيام الأندلس وممالكه لاحقا، وساهمت صراعات الأمراء والملوك والنبلاء في غزو نابليون لإسبانيا في بداية القرن 19 (1808ـ 1813) وتناسلت العديد من الحكايات عن نحْس الشقاق والصراع بين الجهات والممالك والإمارات، وأخرى عن تعاون بعض الأمراء والملوك مع خصوم إسبانيا مقابل المال والولاية والغدر بحليف.. لم تعرف إسبانيا في تاريخها الطويل استقرارا سياسيا يقوم على ثوابت مشتركة تحظى بالإجماع. تاريخ إسبانيا الحديثة مليء بالمؤامرات والكيد والقتال بين أطراف اليمين الملكي واليمين الجمهوري، وبين أطراف اليسار من شيوعيين وفوضويين واشتراكيين، وبين أطراف في الكنيسة تنتقل بين دعم لهذا الطرف أو ذاك.. تاريخ انتهى بحرب أهلية شرسة ومدمِّرة أشعلت شرارتها بعض القيادات العسكرية بدعم من بريطانيا وألمانيا النازية على السواء، واستعان فيها المنتصرون بفيالق من المرتزقة قدِموا بهم من مستعمرتهم في شمال المغرب.

اختلف اليساريون الاسبان وتقاتلوا فيما بينهم، وكذلك اليمين بين أطرافه من قوميين وكارليين وملكيين وجمهوريين، وتوحّدوا أحيانا في معارك مؤقتة سرعان ما كانت تنتهي بالعودة إلى التطاحن الداخلي وانطلاق مسلسل من الخيانات والمؤامرات.. تاريخ إسبانيا منذ تأسيسها يكاد يكون تاريخ من الفتنة يستنجد فيها المسيحي بالمسلم للقضاء على خصمه المسيحي، واليساري باليميني للقضاء على خصمه اليساري، والملكي بالجمهوري للقضاء على منافسه الملكي، واستقواء الجمهوري بالملكي والانقلابي للقضاء على منافسه الجمهوري.

مصادر التاريخ الاسباني المتعددة تحكي تفاصيل استعانة ممالك الأندلس المسلمة بجنود مسيحيين في صراعاتها على الحكم، وأخرى تحكي تفاصيل استعانة الملوك الكاثوليكيين بجنود وقوات مسلمة لحسم الصراع بينها على الحكم.. وليس غريبا كما يبدو أن يستعين الانقلابيين بقيادة الجنرال فرانكو على الجمهورية بجنود مغاربة مسلمين بمباركة من الكنيسة وبعض فقهاء المسلمين.

اكتشاف القارة الأمريكية كان له بعض الفضل في قيام دولة قوية بسطت نفوذها على جزء كبير من العالم، لكنها سرعان ما عادت بعد هزيمتها في الحرب الكوبية إلى حالتها السابقة من الصراع والانقسام وبروز القوميات المطالبة بالانفصال، وازدادت حدتها بالهزيمة النكراء في حرب الريف المجيدة أو ما سمته الصحف الاسبانية آنذاك بنكبة أنوال El desastre de Anual.

انتهت الحرب الأهلية في إسبانيا بانتصار الفاشية التي حكمت إسبانيا بالحديد والنار لما يزيد عن 40 سنة، واستطاعت إسبانيا بعدها أن تؤسس انتقالا ديموقراطيا استثنائيا ونموذجيا حقق استقرارا لم يسبق أن عرفته الملكيات والجمهوريات السابقة. ومن جديد يعود شبح الانفصال والانقسام والمستقبل المجهول ليهدد إسبانيا اليوم، وتعود أخبار تورُّط الملك خوان كارلوس في فضائح الفساد المالي والأخلاقي لتهدد عمادا أساسيا من أعمدة استقرار الدولة الاسبانية الحديثة. لكن المفارقة الوحيدة التي تُثير الانتباه لدى المتتبع الخارجي، أن إجماعا غريبا ووحيدا ومُعبِّرا عن سكيزوفرينيا تعيشها النُخب الإسبانية تتمثل في إجماعها الغريب من اليمين واليسار، جمهوريين وملكيين، وحدويين وانفصاليين على دعم قيام دولة مستقلة في الصحراء المغربية. تختلف أسباب وتبريرات هذا الطرف أو ذاك، لكن الإجماع قائم وتُعبّر عنه مواقف كل الأحزاب الاسبانية من اليمين المتطرف، مرورا باليمين المعتدل والأحزاب القومية اليمينية واليسارية وصولا إلى اليسار الوطني المتطرف والمعتدل.

مبررات حزب فوكس اليميني المتطرف بمساندة قيام دولة مستقلة في الصحراء المغربية تجد جذورها في الحنين الاستعماري، وفي طريقة استعادة المغرب لسيطرته على الصحراء سنة 1975 بعد المسيرة الخضراء، والتي اعتبرها مُهينة ومُذِلة، وكذلك الشأن بالنسبة لليمين الشعبي "المُعتدل". في المقابل توجد مبررات اليسار الإسباني ـ على اختلافه ـ في دعمه لقيام دولة مستقلة في صحراء المغرب في مواقفه المساندة لأنظمة كانت تعتبر اشتراكية ومساندة لحركات التحرر العالمية وحق الشعوب في تقرير المصير، وكذلك في ذاكرة حرب أهلية كان للمغاربة دور في إمالة كفّتها لصالح الانقلاب على الجمهورية. بينما تجد مواقف الأحزاب القومية والانفصالية مبرراتها لدعم الانفصال في المغرب في إسقاطها لمشروعها الانفصالي على ملف الصحراء والبحث عن عناصر تشابه لا وجود لها في الواقع. مُبررات مختلفة ومتضاربة تنتهي بإجماع غير طبيعي لكل هذه الأطراف حول قضية لا ناقة ولا جمل للشعب الاسباني، أو بالأحرى شعوب إسبانيا..

ألم يحن الوقت لتبحث النخب الإسبانية عن علاقات جديدة مع جارها الجنوبي، وأن تفُكّ عقدة التوجس التي لازمتها منذ طرد ملوكها الكاثوليكيين لرعاياهم من الموريسكيين، ألم يحن الوقت لتتخلص إسبانيا من عقدة الذنب والتوحد بالمعتدي التي جسّمها سيرفانطيس في شخصية الريكوطي في رائعته " دونكيشوط دي لامانشا. ألم يحِن وقت اجتهاد النُخب الإسبانية في فهم الآخر وتفكيك العُقد التي ينبني عليها عداء عقيم للذات وللآخر كانا وراء هذا الإجماع غير الطبيعي حول موضوع لا يخدم مصالح إسبانيا وشعوبها..

إلى اللقاء في فسحة كورونية قادمة.