"الاستثناء" الذي يؤكد القاعدة

جمعة, 07/03/2020 - 11:36

طفل ينوح ويصيح، مشاداة جسدية بين رجال الشرطة وشخص يحاول التملص من قبضتهم. تدافع وسب وشتم بلكنة مغاربية. يظهر شخص يحاول التدخل ليخلص الرجل من قبضة الشرطة، بينما شرطي آخر يقف أمامه محاولا ثنيه من الاقتراب. أشخاص بزي أمني يصلون مهرولين إلى المكان. تمت السيطرة على الرجل ووضعت على يديه الأصفاد وتوارى عن الانظار. يزداد صراخ الطفل. ثم يتعالى صوت رجل: "ما هذا التصرف؟ لم يقم بأي شيء يستدعي تعاملكم الغريب هذا!" مجموعة من المارة يتابعون المشهد، منهم من استسلم للفضول ووقف يعاين عن قرب. يعود نفس الصوت مخاطبا الشرطة: "فقط أريد أن أعرف أي ذنب اقترفنا؟ نحن لسنا مجرمين، نحن أناس محترمون. حتى قنينة الماء التي كانت في حوزتنا وضعناها في كيس لنحافظ على نظافة المكان". يظهر رجل أسود البشرة على الصورة، متحدثا بدوره إلى الشرطة: "أنظروا لقد صدم الطفل بسبب تعاملكم اللاإنساني مع أبيه". يتزايد الاحتجاج وتتداخل الأصوات. تظهر شرطية في وضع غير مريح، وهي تحاول إشهار ابتسامة عابرة في وجه الطفل الصغير في محاولة لتهدئة روعه. الكل يؤثث مشهدا لصورة غير مطمئنة لشرطة وجدت نفسها في وضعية حرجة، وهي عاجزة عن تقديم أجوبة، وسط أجواء طبعها التشنج والارتباك والحيرة.

المشهد هو مقطع فيديو يظهر توقيف الشرطة البريطانية لشخص من أصول مغاربية رفقة أقربائه، في ظروف يبدو من خلال طريقة الاحتجاج أنها غير طبيعية.

سيدة ذات بشرة سوداء تتناول الكلمة: "أود أن أخبركم، وأخبر الزملاء والزميلات، أنني كنت ضحية عنف من قبل الشرطة البلجيكية. وليس لهذا الحادث من عنوان سوى أنه فعل تمييزي بنزعة عنصرية. بالأمس وأنا أغادر محطة القطار الشمالية، شاهدت تسعة من رجال الأمن وهم يتحرشون بشابين بسحنة سوداء. أخرجت هاتفي وأخذت صورة للمشهد. وهو ما لا يعد مخالفا للقانون. بعدها مباشرة، توجه نحوي أربعة من رجال الأمن، نزعوا مني هاتفي وحقيبتي اليدوية وألصقوني بعنف ضد الحائط، ثم شرعوا في تحسس جسدي وساقي متباعدتين، بطريقة مهينة وهادرة للكرامة. وفي حوزتهم كل الوثائق لإثبات هويتي: جواز سفري، بطاقة إقامتي وشارة عملي حول عنقي. اليوم وضعت شكاية لدى المصالح المختصة. لأنه لا يمكن بتاتا أن نقبل باستمرار هذه الممارسات العنفوية الأمنية. لذلك وجب اتخاذ تدابير عملية آنية ضد هذه السلوكات، التي يقع ضحيتها العديد دون أن تتاح لهم الفرصة لتناول الكلمة أمامكم". تعالت التصفيقات وسط البرلمان الأوروبي أمام تأثر المتحدثة وتقدم زميلة لها لمواساتها وهي تذرف الدموع جراء الإهانة التي تعرضت لها من طرف الشرطة البلجيكية، حسب روايتها.

Pierette Herzberger والمتحدثة هي ألمانية، بجدور إفريقية. إنها ، عضو البرلمان الأوروبي. Fofana

حادثان متزامنان، اختلف فيهما المجال، واجتمع فيهما نفس السجال. استسلم الحارس الأفرو-أمريكي جرجس فلويد لركبة الشرطي ديريك، واهتزت أمريكا ومعها العالم إدانة وشجبا واستنكارا. وعاد النقاش ليطفو على السطح، واشتعلت المنابر سجالا وهي تتعرض للتمفصلات المتعددة، والتمظهرات المختلفة لأشكال التمييز والنزعة العنصرية. بل وعمت الفوضى المدن. وغرد مسؤول أمريكي: "حرق مدينة أمريكية كاملة لن يرجع جورج فلويد إلى الحياة"، ليرد عليه مواطن أمريكي: "تماما كما تفجير الشرق الأوسط لن يصحح حادثة 11 شتنبر". مات فلويد، لكنه أحيا نقاشا ظنه الكثير متجاوزا ومستهلكا بل وفكرا ماضويا. حيث كشف الواقع معاشا رهيبا، تخفي واجهاته المزركشة، وآخر صيحات ألواحه الرقمية المثيرة، وشعاراته الرنانة، مشاهد لن يصح القول على أنها معزولة. كونها أصبحت قاعدة وليست استثناء. أو ربما الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

كانت آخر جملة تفوه بها (I can’t breathe) "لا أستطيع التنفس" فلويد بعد تكرارها مرات عدة. وقبلها عند مطلع السنة الجارية، ردد رجل (le livreur) Cedric Chouviat, التوصيل الفرنسي البالغ من العمر 43 سنة، عبارة "إني أختنق" (J étouffe) سبع مرات قبل أن يصاب بلعومه بالكسر ويلفظ أنفاسه الأخيرة، يومين بعد تعنيف الشرطة الفرنسية له، خلال نقطة للمراقبة الطرقية على Quai Branley بباريس. Quai Branley على مقربة من متحف الشهير للفنون والحضارات الإفريقية والآسيوية والأقيانوس والأمريكيتين، والذي يفوق. Cedric عدد زواره العشرة ملايين سنويا. فارق الحياة تاركا وراءه أرملة وخمسة أيتام صغار.

"إنني أتحمل كامل المسؤولية على هذه الأخطاء! وتبعا لذلك أضع كان هذا تصريح لقائد الشرطة Chris Magnus استقالتي" بولاية أريزونا الأمريكية عقب نشر فيديو يظهر فيه شرطيان وهما يثبتان وجه شاب هيسباني على الأرض ويديه محكمتان وراء ظهره. الشاب ذو السابعة والعشرين سنة، يقاوم ويصيح في محاولة للإشارة إلى أنه لا يستطيع التنفس متوسلا جرعة ماء. بعد دقائق معدودة خمد الصياح والصراخ. وخمدت معهما أنفاس Carlors Ingram Lopez في صفوف رجال السلطة جراء الحادث الذي يعود إلى شهر أبريل الماضي، فقط بعد تداول شريط الفيديو الفاضح لممارسات لاإنسانية للشرطة الأمريكية.

وقائع متعددة ومتكررة لمشاهد عدوانية يكشف عنها رجال الشرطة في بلدان طالما تبجحت بالديمقراطية، وأطلقت العنان للدروس والأستاذية في الحقوق والإنسانية. توعدت، وهددت وأرهبت وهي تندد بالممارسات التمييزية، عنصرية كانت أم حقوقية. وأصبحت تقاريرها المنجزة من المؤسسات التابعة لها، أو المتحكم في خيوطها، تشهر البطائق الصفراء والحمراء في وجه من أشارت إليه الأصابع العشواء.

وحتى الأطفال لم يسلموا من الحقد الدفين على اللون والعرق والهجين: طفل في ربيعه التاسع، يمنع من ولوج أحد المطاعم بمدينة أمريكية. السبب: بذلة رياضية غير لائقة بالمكان. إلى هنا لا بأس، يمكن أن نتفهم الأمر ونمتثل لقواعد اللباس. لكن الغريب أن الزجاج الشفاف بداخل المطعم لم يستطع حجب طفل في نفس العمر، وبنفس البذلة الرياضية. فرق واحد فقط يميزهما: لون بشرتهما. تساءلت الأم لماذا؟ تلعثم المدير، تعثر لسانه وأتلف بيانه. شاعت الصورة، وبعدها جاء الاعتذار وأعفي المدير.

علق أحدهم على الأعمال العنصرية في الدول "الديمقراطية" قائلا: "أكيد أننا لا نعيش في بلداننا جنة حقوقية، لكننا على الأقل نعيش في جنة إنسانية رغم إكراهاتها وعناد واقعها"، هناك من اتفق وهناك من اختلف. ثم أضاف: "من الخطأ أن تكون الأمور الأكثر أهمية تحت رحمة الأمور الأقل أهمية". وهنا طبعا اتفق الجميع. لكنني وجدت نفسي أنزع إلى الاختلاف، فقط في السهو عن تحديد معنى الأمور الأكثر أهمية" توخيا للوضوح ورفعا للبس فقط! أعجبتني كثيرا حكمة يرددها بعض إخواننا الأفارقة: "نثير ضحككم لأننا مختلفون، وتثيرون ضحكنا لأنكم كلكم متشابهون". وكما عبر عن ذلك، وبكل جمالية، الحكيم والفيلسوف الكولومبي Nicolas Gomez Davila:" يتضايق العنصري لأنه يخشى أن تتساوى الأعراق، وينزعج المعادي للعنصرية لأنه يخشى من أن لا تكون الأعراق متساوية". إذن، وفي الأخير، هي مسألة تتعلق بـ "المساواة" التي هي من صنع الله، لأن "التمييز" من صنع البشر. فالله خلق قاعدة، ومخلوقه يصر على خرقها ليخلق الاستثناء. كما تجسد ذلك المشاهد التي ساقتها لنا الصور، في دول "ديمقراطية" غير عادلة حتى في الظلم، على حد تعبير القول المأثور "المساوات في الظلم عدل". لكم التعليق!