سِجِلاّت الروح

أربعاء, 06/03/2020 - 13:02

تجربة خيالية، عاصفة، مجنونة، تفوق كل التوقعات.. تجربة جنونية لونت نبضاتها زمان الوداع وانغرست جذورها في عنان السماء، محلقة مع النوارس، تحت ظلال الشك، وانطلقت أصداؤها في الكون، على أنغام موسيقى اللانهايات.

السجن!

وجودي فيه مصير حتمي، وهناك وجدت المظلوم والمقهور والمحتال والغافل والمطحون تحت رحى الوجود و"البزناس" والمتعلم والأمي والغني والفقير. هناك وجدت مقلدا لشارلي شابلن، ومتأثرا بروائع نجيب محفوظ، ومروجا لأفكار المهاتما غاندي، ومن دب اليأس القاتل في أغوار روحه فصارت أيامه متشابهة متطابقة مثل الأوراق البيضاء لكراس لم يمسسه أحد.

السجن.. لن أمضي فيه أسبوعا أو شهرا أو شهرين ولكن سنوات من الوجود على هامش حياة استثنائية تنتظرني هناك. هل سأغادر الزنزانة بفهم جديد للعالم؟ هل كان مقامي هناك، حزنا في حزن؟

أكيد لا... ولكن ما الحزن؟

إنه في ما يبدو حالة غامضة مبهمة، بين حدود الحياة والموت، وأنت تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنه إذا فحصته من الخارج، أما الباطن فسر مغلق غارق في الظلمات. ما الذي لاح على وجه فتح الله وهو يغرق يومذاك في حزن دفين لم تنتشله منه سوى جمل المواساة الصادرة عن أمه وهي تزوره في السجن؟

نظرات شاردة، قلب يعصره الألم، لحية مهملة، وجه هادئ، لكنه مربد حفرت عليه ليالي السهر أخاديد عميقة، ولعل هذا هو تماما أحد المظاهر الخارجية للحزن..

كان حكم السجن قاسيا. ربما أقسى من الموت، لأن الموت نهاية، وانتظار سنوات السجن القادمة بداية موت بطيء...

5 سنوات.. شيكات دون رصيد تناهز قيمتها 300 مليون. حكم قاس، لكنه منتظر، وهل له إلا أن يبقى ذاهلا حائرا وسؤال وحيد، أقسى من هول الصدمة، يزلزل كيانه: كيف تطمئن النفس في السجن بعيدا عن كل شيء، داخل اللاشيء، وكيف له أن يقضي هذه السنوات المديدة بين الجدران الأربعة؟

- فتح الله، اسمعني جيدا، أنت في السجن ويخيل إليك هذه الأيام الأولى أنه مكان لا يطاق. بلى، ليس هو كذلك دائما. إن السجن الحقيقي هو أن تركن روحك للخرافات والجهل وأن لا تستفيد من مدة اقامتك هنا لتعليم وتنوير نفسك. لن يمنعك أحد من القراءة، لن يمنع أحد أهلك من إحضار الكتب إليك داخل السجن. فتح الله، إن سجنك حافل بالحرية.. حرية التعلم والقراءة والاطلاع على أفكار وقصص جديدة لم تصادفها قبل في حياتك خارج الجدران..

وهل يتمنى الإنسان على الله أكثر من أن يهبه رفقة صديق مرشد، ويبوئه كل يوم الارتقاء في مصاف المعرفة؟ الفضل يعود لك يا عزيز، وقصة فتح الله في السجن، هي تماما قصتي التي سأرويها لك بالتفصيل.

نعم، فتح الله هو أنا، وأنا فتح الله، وهذي فاتحة القصة...

2

يغمرني شعور عجيب ولذيذ أني أحيا من جديد، وأني لم أعد من أهل الدنيا. ما الذي حصل؟ ما الذي تغير في داخلي؟ ما سر هذا التحول المستنير الذي أعيش على إيقاعاته المشرقة كل يوم؟ زنزانة السجن هي نفسها، لم تتغير، لم تزدد مساحتها، لم تضئ من جديد، إنها هي ذاتها برطوبتها وتجهمها وبردها المماثل لقبلة بلا طعم، لقبلة من قبل الوداع... ما الذي تغير إذا؟

الكتب هنا متناثرة يمينا وشمالا، وهي الشموع التي تضيء أيامي في السجن. صحيح أني هنا فقدت قدرتي على الحركة ولقاء الناس في أماكن العمل، لكني خارج السجن كنت محدودا جدا.. وكانت حياتي كلها تنصب في اتجاه واحد: الجري وراء المزيد من الأموال عن طريق الصفقات...

كانت حياة كلها انطلاق، لكني في خضمها كنت مكبلا بالأغلال: المادية الطاحنة والبحث عن الثروة بأي وسيلة كانت. كنت حبيسا في قمقم، وكان هذا القمقم بكل بساطة أفكاري عن المال..

المال هو الحياة. دون مال لن تستطيع أن تفعل شيئا، لن تأكل أفضل الطعام، لن تزور أمهر الأطباء، لن تبني أحسن بيت، لن توفر لأبنائك أحسن مستقبل وأنجح تعليم، لن يحترمك الناس ويقيموا لك وزنا، لن تكون مهيبا مرهوب الجانب، لن تحل بإشارة من أصبعك الكثير من المشاكل، ولن يصادقك أصدقاؤك بل حتى أعداؤك..

كانت حياتي كلها تدور في فلك المال، لكني الآن منفصل عن الماضي، طليق السراح.

ولكم كنت ثقيلا مشدودا إلى الأرض، وهأنذا أتخلص من حملي وأرسل وثاقي وأحلق عاليا في سماء قراءاتي وأفكاري. كنت محدودا فصرت دون حدود، كنت حواس قصيرة المدى فانقلبت حسا كونيا شاملا كله إدراك وبصيرة واغتراف من ينابيع العرفان، فصار الكون على مرمى شبر أو أقل، بل حل في وحللت في لانهائياته الساطعة المبهرة.

لم يحدث هذا التحول الشامل في لمح البصر، لكني احتجت إلى عامين حتى أصبح مدمنا على المطالعة، وحتى أتمكن بفضل هذه العادة الملكية من أن أكسر جدران الصمت وأعانق المستحيل..

3

فتح الله، اسمعني جيدا، أنت في السجن، لكن روحك ترفرف في ملكوت الحرية، إن هذه الكتب المتناثرة هنا وهناك، بين أرجاء هذه الزنزانة، والتي يربو عددها على 600 كتاب.. هذه الكتب سجلات لروحك التي ولدت من جديد بفضل عادتك الملكية الأثيرة: القراءة. هل أنت سجين؟ لست كذلك وهذه الشذرات الفكرية التي تنير المكان جزء لا يتجزأ من روحك. هناك من يعتقد أن الكتب جامدة إذا لم تقرأ وأن ما يبث في أوصالها الحياة هو التصفح واقتفاء الفكرة تلو الأخرى. هذا الاعتقاد نسبي جدا. ثمة روح عظيمة ثاوية في كل كتاب من قبل أن يفتح ويقرأ. إنها روح الكون من قبل أن يخلق، ولكن هل يفهم كل الناس هذا الكلام الأشبه بالسحر وما هو بسحر؟ ليست كل أذن تسمع، وليست كل عين ترى، وليس كل فؤاد يطلع على أسرار الغيب ويبصر.. حين تدمن القراءة كما فعلت أنت على مدار هذين العامين يصير سمعك رهيفا خارقا للحجب، وبصرك بصيرة نافذة وقلبك فؤادا ينبض بالأمل والعشق. ربما تقول لي: أنت تبالغ يا عزيز، إنك تمجد السجن، بل كأنك تشجع الناس على ارتياده! إطلاقا.. افهمني جيدا، يقول ألبرت أينشتاين: (عندما نقبل حدودنا فإننا نتجاوزها بعيدا). هل تتأمل معي لحظة من الزمان هذا الكلام الحكيم لأينشتاين؟ إن حدودك هي جدران هذا السجن الذي يجثم على صدورنا جميعا، لكنه، ولحسن الحظ، لم يقتل أرواحنا التي تسافر في ملكوت الأفكار اللامحدود. انظر مرة أخرى إلى جواهرك الملقاة لكثرتها على الأرض: قواعد العشق الأربعون، مائة عام من العزلة، الخيميائي، حضرة المحترم، العجوز والبحر، الحب في زمن الكوليرا، الفتوحات المكية... وغيرها مئات من العناوين المشرقة بأنوار المعرفة.. إنه يحق لزوجتك وأبنائك وخاصة لأمك أن يفخروا بك جميعا. أي نعم، يفخروا بك لأنك لم تسلم روحك للخرافات والجهل وسجلت إلى جانب قراءاتك التي لا تنتهي في ماستر الفلسفة الذي تعده بين أسوار السجن.. الكثير من الناس، ونحن كنا من بينهم قبل أن نلتقي هنا، يعتقدون أن الدراسة في السجن غير ممكنة. هذا اعتقاد خاطئ، وها نحن معا ندرس، كل واحد حسب احتياجات روحه وفكره، أنت اخترت الفلسفة، وأنا شارفت على إتمام رسالة الدكتوراه في علم النفس.. صفحات أخرى قليلة وتكون هذه الثمرة المعرفية جاهزة للمناقشة.. أنظر إلى هذا الزاد النفيس الذي لا فقر بعده أبدا. إنك حين قبلت مقامك هنا، وانغمست قلبا وعقلا وروحا في القراءة، قبلت حدودك الجديدة، في هذه الزنزانة الباردة كما الموت، لكنك تجاوزتها بعيدا وحلقت في سماء الفكر. إن كتبك هذه أثمن ما تملكه هنا، والروح التي تنبض في ثناياها من روح الكون..

4

ما السجن؟

ما الغرض من طرح هذا السؤال وأنت صرت أكثر حرية وانطلاقا من ذي قبل؟ أنت سعيد في شقائك، منعم في حرمانك، تغترف من معين الحياة وتنهل.. أنت تحيا هنا، لكن غدا لناظره قريب.. تحيا ها هنا كما تحيا مخلوقات الله التي لا تعرف اليأس والأمل، لكنك دربت نفسك وروحك على الأمل، وصرت بمدد من المولى متعلما داخل السجن، بل أكثر من ذلك، عينتك الإدارة مشرفا على مكتبة السجن لحسن سلوكك ولين طباعك.

فتح الله، ابني الحبيب، أنا أمك، فاسمعني جيدا: كنت أعتقد للوهلة الأولى، حين رموك في غيابة السجن، أنك ستنهار، لكنك بهرتني، واكتشفت أن الكتب التي كنت أزودك بها بانتظام، تحت طلبك، أنقذتك من اليأس، بل طهرت روحك من الصدأ، فشكرا لخالق الأنوار التي تفيض من هذي السجلات التي لا تموت، شكرا لمخرج الحي من الميت، للحي الذي لا يموت.

كنت ساذجة وكنت تماما مثلك، في تجارتك المجنونة وجريك المستميت خلف المال.. كنت أحيا على الهامش، بل كان الهامش أنا، وكانت حياتي تمضي على إيقاع رتيب: أكل وشرب ونوم وذهاب إلى الحمام، واعتناء بالبيت والأبناء ومشاهدة لا تنتهي للأفلام والمسلسلات، ولم تكن هناك وسط تفاصيل هذا الزحام الخانق، وجبة معرفية واحدة.. لكم كنت ساذجة وغارقة في الخرافات والجهل، لكني وأنا أخط إليك رسالتي العاشرة هذه تغيرت. صرت قدوتي، وأصبحت تماما مثلك.. أصبحت مدمنة على القراءة... كنت حريصة على اقتناء الكتب التي تطلبها، وكنت في البداية لا أكترث لها، بل أسلمها فقط لك كما تسلم البضاعة لتشحن على ظهر سفينة تبحر إلى عالم بعيد.

وذات يوم كنت أنوء بحمل 55 كتابا اشتريتها من أكبر مكتبة في العاصمة، كنت أصعد السلالم وبين يدي هذا الحمل الثقيل، فجأة تعثرت في الدرج وسقطت الكتب في الأدراج محدثة ضجيجا غريبا عجيبا تلتقطه أذناي لأول مرة. لم يكن هذا الضجيج بضجيج، ولكن خيل إلي في لحظة خاطفة أنه يشبه صوت الأشجار وهي تقطع، ولأني كنت صائمة يومذاك، مع إيمان قوي صاحبني منذ طفولتي بالحياة وعلاماتها ورموزها الخفية، فإني تخيلت هذا السقوط صعودا إلى الأعالي، وتخيلت أنه ليست الأشجار التي تقطع حين تسقط الكتب، ولكني أنا المقطوعة إن اكتفيت بحمل الأسفار وتوصيلها دون قراءتها، وفي مشهد لن أنساه ما حييت، استجمعت أنفاسي وشرعت في التقاط الكتب وتصفيفها، وكان لغرابة الصدف أول ما قرأت في الكتاب المفتوح الذي التقطته، هذه السطور...

5

"لا تحزن فإن أي شيء تفقده سيعود إليك في هيئة أخرى؛ لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؛ ما تبحث عنه يبحث عنك؛ تعلمت التفكير، بعدها تعلمت التفكير داخل قوالب، بعدها تعلمت أن التفكير الصحيح هو التفكير من خلال تحطيم القوالب...".

لكم تبهرني هذه الأقوال الخالدة لمولانا جلال الدين الرومي، وأنا تماما مثل أمك، من تلاميذه ومريديه. ليست أمك هي الوحيدة التي تغير حالها واتجه إلى الأفضل إثر دخولك للسجن، لكني أنا أيضا بت أنظر إلى الحياة بشكل جديد. إن مهمتي الأولى في الحياة أن أبقى وفية لك، لأنك كنت دائما، ورغم كل شيء، الزوج الحنون الصالح. لن أطلب الطلاق، كما تلح علي بعض النسوة الجاهلات – سامحهن الله. سأعتصم بالصلاة والصبر والدعاء في الليل وأعماق الفجر، فربنا وخالقنا سميع الدعاء وصاحب الفضل والفرج.

ان مهمتي الثانية في الحياة، هي إعادة النظر في التوجه الدراسي لابننا الوحيد فريد. كان خطأ فادحا أن تفرض عليه دراسة القانون، دون أدنى اكتراث بحبه الأبدي للموسيقى... الآن فهمت باقتناع تام أن سعادة فريد هي اتباعه لقلبه. يعشق الموسيقى حد الجنون؟

فليدرس الموسيقى، وليمارسها بانتظام، وليعزف اليوم وغدا ودائما دون هروب وتستر من الآخرين. فليفعل ما يحب وليعش حياته مثل أسطورة شخصية يكتب صفحاتها المشرقة بأنغام كمانه ودندنات عوده وغنائه الشجي الذي يمزق القلب حزنا وفرحا. أو ليس فريد موسيقيا متعدد المواهب؟ إذا ساندت كل أسرة في هذا العالم الفسيح ابنا لها بهذه المواصفات والمواهب، فكم مقدار السعادة التي سنجنيها في نهاية الأمر؟ تخيل معي...

6

أنا الذي أدعوك يا أبي العزيز إلى أن تتخيل السعادة الهائلة التي تغمر كياني وهذا الخبر السار يزف لي عن طريق أحد معارفي في مجال الصحافة: والدك استفاد من العفو، ونظرا لحسن سيرته داخل السجن فإن عقوبة السنوات الخمس خففت، والدك يتم بعد يومين 3 سنوات ويغادر بعدها أسوار السجن!

يا إلهي! معجزة. أكاد لا أصدق..

7

بلى.. صدق ما حصل يا بني، فمعجزات الحياة لا تنتهي. الحياة بدورها، بين الألم والأمل، معجزة المعجزات. لو كان هذا هو الفصل الأول لرواية أكتبها عن مقامي في السجن، لكان جديرا به أن يشبه هذه السطور:

(كان يا ما كان، كان هناك رجل يدعى فتح الله، وكان سر تسمية والدته له بهذا الاسم هو حلمها أن يفتح الله له أبواب الرزق باشتغاله في التجارة، هذا لأن فتح الله سليل أسرة تاجرة حتى النخاع من جهة أبيه وأمه وأجدادهما على مدار أجيال وأجيال، وكانت أحلام فتح الله الذي كان يسكن في طفولته في بيت فسيح وجميل على ضفاف البحر، والذي كان يستمتع بحياة هادئة في كنف والدين محبين كريمين لم يبخلا عليه وعلى سائر إخوته بمال أو رعاية... كانت أحلامه محصورة في هدف واحد وكبير: أن لا يخيب ظن والديه به وأن يمضي قدما بكل طاقته وحماسه وذكائه في عالم التجارة، عاقدا العزم على أن يكون من كبار الأثرياء..

مهلا.. هل أتوقف قليلا؟ أليست "كان يا ما كان "عبارة تستهل بها قصص الأطفال والجنيات والخرافات الموغلة في القدم؟ أليست "كان يا ما كان" عبارة سحرية لتنويم العقول وتخدير المشاعر والأحاسيس؟ ألا يراد منها الابتعاد عن الواقع والإبحار في شطآن الخيال؟ كلا وألف كلا... رغم أن قصتنا معاصرة، رغم أن أحداثها تعود فقط إلى 10 سنوات خلت، فدعونا نحتفظ بهذه البداية، على الأقل حتى نشعر أن هناك ما يستحق الحكي فيما يلي من سطور وأحداث.

كان فتح الله قد أتم هذا العام ربيعه الرابع والأربعين، وكان كل من يراه يعتقد بل يجزم أنه شديد اليفاعة، دعونا نبسط ونقل إنه يلوح أصغر من سنه: 30 أو 35 سنة على أقصى تقدير. أما عن أوصافه، فهو شديد الحماس، كثير الطموح، محب لكسب المال، عاشق للمغامرة، ولوع بالسهرات العائلية والأسفار وتنظيم الولائم وإطعام المحتاجين وفي عينيه بريق دائم وشغف لا ينتهي بالمجازفة، وحب، وأمل وتعلق جنوني بالحياة.

وذات خريف بارد وحزين، توسطت سماءه شمس كسيفة، وداعبت أشجاره نسائم بطعم الوداع، لاحظ فتح الله، وهو يملأ في مكتبه إحدى ملفاته التجارية إنه يكاد يختنق من كثرة العمل، وأنه يحتاج إلى إحياء سنة من سنن طفولته التي قضاها بين أمواج البحر ونوارسه وأصدافه وسحره اللامتناهي، إنه يحتاج إلى جولة على ضفاف الكورنيش. فاللحظات التي كانت تدخل السرور إلى قلبه وتشعره بالبهجة أكثر من أي شيء آخر هي تلك التي دأب أن يقضيها في معية البحر، بالرغم من الوحدة أحيانا وزخات المطر أو تيارات الهواء البارد أحيانا أخرى.

وكان له ما أراد، وأتم فتح الله جولته التأملية على ضفاف البحر، لكنه بمجرد عودته إلى المكتب صبيحة الغد الموالي، أخبرته السكرتيرة أن الشرطة تستدعيه على عجل للتحقيق. لماذا؟ شيكات دون رصيد تناهز قيمتها 300 مليون. يا إلهي! كيف لم ينتبه لأخطائه الفادحة في التجارة في المدة الأخيرة؟ كيف لم ينتبه لها وهو يلهث خلف المزيد والمزيد من الأموال؟ ما مصيره وكل أمواله موضوعة في طاحونة التجارة؟ ما المصير الذي ينتظره؟

الواقع أن فتح الله لم يحتج وقتا كثيرا ليسقط فريسة للعذاب النفسي، لأنه أودع السجن في غضون أيام قليلة، بعد أن استحال عليه أن يسدد ديونه المتراكمة. وكانت أسابيع السجن الأولى قاسية يسمها طعم الهزيمة المر، ولكن فتح الله سرعان ما أفاق من هول الصدمة، وأسس له داخل السجن حياة جديدة عنوانها الأمل والعلم والتعلم والحلم بغد أفضل، وكان الفضل الأول في هذه الولادة المشرقة يعود لمدربه ومرشده عزيز الذي كان يردد دائما على مسامعه هذه العبارات:

تخالني مرشدا لك. أوكي.. لكني أحتاج بدوري لمن يرشدني في غيابة السجن وظلامه الدامس.. إن وجودنا معا في السجن ليس عذابا أو غضبا إلهيا. بالعكس، إنه نعمة النعم. علينا أن نهزم رغباتنا قبل أن نهزم أعداءنا، لأنّ أصعب انتصار، كما يقول أرسطو، هو الانتصار على الذات.

إن عزلتنا هنا فرصة للقراءة والتأمل وتطهير الروح من الصدأ. علينا أن نكابد ونجاهد لمعرفة نفسنا داخل هذي الزنزانة، قبل أن نموت وقد غفلنا عن معرفة ذاتنا وما الذي كان يراد منا في الحياة، علينا أن نعرف هنا نفسنا قبل فوات الأوان، لأن ذلك بداية كل حكمة. إن ما نحتاج إليه هو أن نعود إلى أعمق نقطة في ذواتنا، تلك المنطقة المنسية من أرواحنا التي سودتها مادية الحياة، والتي تحتاج الآن، وبسرعة، لأن تنغمر بالأنوار والإشراقات التي تضعها على السكة الصحيحة للوجود. علينا أن نحرر أنفسنا من الأوهام ونغتنم كل لحظة من حياتنا في التعلم. علينا أن لا نترك الأمل بين براثن الألم. البحر يوماً سيهدأ، وعلينا أن نتعلم الإبحار بين أمواجه العاتية..

وأخيرا.. من نحن؟ من أين جئنا؟ وماذا نفعل؟

إن هذا هو السؤال الحاسم..

* خبير التواصل والتنمية الذاتية