اليوسفي، رجل تاريخ ربط السياسة بمصلحة وتقييم الشعب

ثلاثاء, 06/02/2020 - 20:22

اليوسفي، إبداع في تشخيص الإرث الثقيل وشجاعة ونجومية في رفع تحديات الإصلاح

لقد لامست مصادر القرار المؤسساتية خطورة الأوضاع بالمغرب في نهاية الثمينات وبداية التسعينات. إنه الاعتبار الوطني الذي كان دافعا قويا، لم يستحضر فيه حزب القوات الشعبية أي تردد، لاتخاذ قرار قيادة الحزب لمشروع إنعاش البلاد، متحديا مستويات التأزم التي عمت كل مجالات حياة الدولة والمجتمع. لقد استجابت القيادة الحزبية، وبدون أن تعتبر ذلك مغامرة سياسية، للإرادة الملكية المعلنة للانفتاح على الطاقات الوطنية تحت شعار إعطاء الانطلاقة لتطوير نسق سياسي جديد يدخل البلاد إلى مرحلة تثبيت ركائز تأهيل حياتها السياسية وتقريب منافع السياسة الديمقراطية الإصلاحية من الجماهير الشعبية. لقد كان عبد الرحمان اليوسفي، كقيادي لحزب معارض تاريحي عريق، واعيا تمام الوعي بصعوبة المهام والتحديات المرتبطة به. إنه الوعي الذي عبر عنه من خلال تقديمه لحصيلة عمل حكومته كالتالي: "والواقع أننا واجهنا وضعية كان يتجلى لنا يوما بعد يوم طابعها المقلق. فبلدنا كان على عتبة أزمة اجتماعية شاملة، وكان اقتصادنا ذا تنافسية ضعيفة. أما الادخار والاستثمار فكانا دون المستوى بسبب انعدام أي رؤية واضحة وفقدان للثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين، وكانت المالية العمومية على جانب كبير من الهشاشة بفعل عبء نفقات التسيير وحجم المديونية العمومية الخارجية على الخصوص، بتلازم مع تجاوزات على صعيد العجز العمومي، بينما كان القطاع العمومي يجنح نحو الانهيار نتيجة سوء تدبير بعض المؤسسات والمقاولات العامة التي تحولت إلى قلاع منيعة. والأخطر من هذا وذاك، أننا اصطدمنا بواقع مجتمع كان ولا يزال يئن من أثار ماض مؤلم في مجال حقوق الإنسان "

إن الوعي بجسامة المسؤولية في مواجهة هذا الإرث الثقيل، دفعه إلى تخصيص وقت كاف للإعداد المنهجي وتوفير شروط العمل السياسي الجاد، ليمكن من إخراج البلاد من المنطقة الرمادية من خلال ترشيد النفقات وتخفيض المديونية إلى أدنى المستويات الممكنة، وإعطاء الانطلاقة للمشاريع المهيكلة للتراب الوطني، مركزا طوال أيام حياة حكومته على النهوض بالأوضاع الاجتماعية فاتحا أوراش حكومته الإصلاحية في كل مجالات العمل الحكومية، وعلى رأسها قانون الصفقات العمومية.

لقد توج مجهوده بتوفير قسط هام من ميزانية الدولة سنويا نتيجة التقليص الكبير للمديونية الخارجية، الشيء الذي مكنه من إنجاح الحوار الاجتماعي، ساعيا بكل ثقة تحسين أحوال الشغيلة في القطاعين العام والخاص، وتقوية الطبقة الوسطى المنشطة للحياة الاقتصادية المحلية. إنها الحصيلة التي خلقت رواجا ترابيا منتجا في مختلف أقاليم وجهات المملكة.

اليوسفي والنجاح في تفعيل منهجية ربط السياسة بإرادة الشعب

لقد سبق للمرحوم اليوسفي أن اعتقل بسبب تصريحه بمسؤولية الحكومة أمام الرأي العام. فبعدما انتقل التدافع المسؤول من أجل تحويل السياسة إلى ترجمة معلنة لإرادة الشعب الواعية في إطار التوافق من طابعه النضالي والمطلبي الشعبي إلى الطابع المؤسساتي التفعيلي، تحول تعيينه إلى مرحلة تاريخية لتقوية الروابط ما بين السلطات الأربع للدولة المعروفة كونيا: الحكومة، البرلمان، القضاء والإعلام. لقد وضع هذا القائد هدف ترسيخ هذا الترابط الجوهري في العمل الديمقراطي إلى انشغال أساسي في قيادته لتدبير الشأن العام. وفعلا كان، لقد حقق أيقونة السياسة المغربية، بشهادة كل المتتبعين وطنيا ودوليا، ارتقاء قياسيا في المجال المنهجي.

ففي إطار التواصل مع البرلمان، تم لأول مرة عرض البرنامج في بداية الولاية الحكومية، ثم العودة إليه عند منتصفها لتقديم عرض مرحلي بالمنجزات والأوراش المفتوحة وآفاق العمل، ثم تقديم الحصيلة في آخر الولاية. لقد توجه اليوسفي من خلال منهجيته إلى الشعب المغربي معتبرا إياه شاهدا على هذه المحطة التاريخية، مصوبا رسالته السياسية إلى الضمير الجماعي للمغاربة في شأن ربط المسؤولية السياسية بالمحاسبة الشعبية.

لقد حاول بكل ما لديه من قوة الرفع من قيمة البرنامج الحكومي بتحويله إلى التزام تعاقدي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، هادفا إرساء هذه الثقافة في الممارسة المؤسساتية والوعي الشعبي على السواء. لم يضيع هذا القائد التاريخي أي فرصة زمنية لزرع المبادئ الديمقراطية السالفة الذكر في ضمير الأمة المغربية متخذا كل الوسائل الممكنة لسن عرف "تقديم الحصيلة"، الواقعية والموضوعية، في التوقيت المناسب، وتحويلها إلى آلية لتقييم الأداء الحكومي ومعيارا لتجديد الثقة الشعبية من عدمه في مكوناتها في المحطة الانتخابية المقبلة. لقد نزل الزعيم عبد الرحمان بكل ثقله من أجل ترسيخ دولة المؤسسات بثقافة سياسية جديدة توضح بجلاء المعنى النبيل لتحمل المسؤولية على أعلى مستوى في أجهزة الدولة، وأهمية تفعيل منهج الحوار بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

لقد ثابر هذا القائد الاستثنائي في الحياة السياسية المغربية، ولم يهدأ له بال منذ الساعة الأولى من تخطيه عتبة مكتبه بالوزارة الأولى، من أجل التعبير الفعلي كون قيمة التجربة لن ترتقي إلى المستوى السياسي المطلوب ما لم تلعب مؤسسة الوزير الأول الأدوار المنوطة بها في مجالات التنفيذ وروابطها بالشرعية السياسية الانتخابية. لقد حرص أن يجعل منها الوظيفة الدستورية بالمقاييس الديمقراطية الدولية بالرغم من كون دستور 1996 لم يحدد ذلك بشكل مفصل. لقد قاوم بشدة كل ردود الأفعال المعرقلة التي كانت تطمح في النجاح في مضايقته، وبالتالي زرع التذمر في نفسيته بالقدر الذي يفرض عليه التخلي الكلي أو الجزئي عن بعض انشغالاته السياسية المعلنة، والتقليص من حدة عزائمه لبناء دولة الحق والقانون بالتدرج. فإضافة إلى عدم تقبله للمشاريع "العرجاء" ذات الحصائل الناقصة أو الضعيفة، كانت الضمانة الملكية حافزا له للسعي القوي لتحقيق نتائج مشاريع النسق السياسي المتوافق عليه من خلال تحويل مهامه المؤسساتي في تأطير العمل الحكومي وتنشيطه ولعب الأدوار السياسية في مجالي التنسيق والتحكيم إلى سلاح ناجع لردع جيوب المقاومة.

لقد اعتمدت حكومته، المسلحة بالثقة والدعم الملكيين، على الحوار والتشاور من أجل إثمار التعامل والتفاعل مع كافة الفاعلين (أصحاب سلطة)، بحيث التزم اليوسفي بقيم التفاوض المثمر المراعي في نفس الآن لمصالح الفاعلين والمواطنين والدولة في تدبير الملف الاجتماعي، مبرهنا لمفاوضيه عن القدرة الحكومية على الوفاء بالالتزامات المبرمة.

ومن أجل توفير الوسائل المالية الضرورية لتنفيذ مشاريعه، عملت الحكومة، منذ البداية، على انتهاج سياسات قطاعية بإعطاء الأسبقية للقطاعات الأكثر إنتاجية والواعدة في مجال إحداث فرص الشغل. إن تشبثه بالمقاربة الاندماجية في بلورة وتنفيذ المشاريع التنموية، جعله يسهر باستمرار في ارتقاء مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى مكونات متكاملة تنضوي في إطار نسق شمولي، وصيرورة بأبعادها الزمنية القصيرة والمتوسطة والبعيدة. لقد جعل لأول مرة من سياسة إعداد التراب أرضية تنموية للترشيد الجيد للاستثمارات العمومية وتوزيع المهام بين الفاعلين.

لقد تسارعت حكومته مع الزمن من أجل تحقيق تشخيص دقيق للإمكانيات الاقتصادية والبشرية للوحدات الترابية في مختلف جهات المملكة من خلال منظور جديد لسياسة إعداد التراب الوطني، والذي توج بالميثاق الوطني لإعداد التراب. وفي المجال الاقتصادي وإنعاش الشغل، تم الاعتماد على مقاربة مبنية على دعم الادخار والاستثمار كقاطرة حقيقية وقارة لإنعاش التشغيل، وعلى تحرير بنيات الاقتصاد الوطني باعتبارهما عاملين أساسيين لتهذيب السلوك المستقبلي للفاعلين الاقتصاديين، ولبعث ثقافة المبادرة الحرة كإطار أمثل للاندماج المهني الحقيقي لفئات مؤهلة عريضة من الشباب المغربي.