الجزائر في الذكرى الأولى لحِراكها الشعبيّ الحضاريّ والسلميّ

جمعة, 02/21/2020 - 21:46

خرج مِئات الآلاف من المُحتجّين في مسيراتٍ حاشدةٍ بالعاصمة الجزائريّة عشيّة الاحتِفال بالذّكرى السنويّة الأولى للحِراك الشعبيّ التي تُصادف غدًا، رافِعين شعارات تؤكّد أنّهم لم يخرجوا للاحتفال بهذه المُناسبة، وإنّما للمُطالبة برحيل النّظام الحالي الذي يرون أنّه امتدادٌ لنظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بينما رأت مئات الآلاف، وربّما الملايين، فيما تحقّق من استقرارٍ إنجازًا كبيرًا وهذا طبيعي في دولة تتحسّس طريقها نحو الديمقراطيّة والاستِقرار.

الجميل في هذه الظّاهرة الجزائريّة هو صُورتها الحضاريّة، فالمُحتجّون كانوا وفي الجمعة الـ 53 لحِراكهم في ذروة السلميّة والحِفاظ على الأمن والمُمتلكات العامّة مِثلما كانوا دائمًا، أمّا السّلطة ومؤسّساتها الرئاسيّة والأمنيّة فاحترمت المطالب الشعبيّة، والحقّ في التّعبير عنها، ولم تَحدُث أيّ صِدامات بين الجانبين.

الرئيس الجزائريّ عبد المجيد تبون وقّع مرسومًا باعتِبار يوم 22 شباط (فبراير) يومًا وطنيًّا، وعُطلةً رسميّةً، واعترف في خطابٍ وجّهه إلى المُحتجّين بأنّ حِراكهم أنقذ البِلاد من كارثةٍ، ولولاه لأصبَح وضع الجزائر أكثر سُوءًا من وضع ليبيا، ولانهارت الدّولة الوطنيّة، ولكنّه طالب المُحتجّين في الوقتِ نفسه بتوخّي الحذر من مُحاولات الاختِراق التي تهدف إلى دَفعِهم لارتِكاب أحداث عُنف.

تحذيرات الرئيس الجزائري الذي فاز بانتِخابات رئاسيّة أيّدها البعض، وقاطَعها البعض الآخر، جاءت في محلّها، وفي التّوقيت المُناسب لأنّ هُناك جِهات خارجيّة وداخليّة، تعمل في الظّلام لنشر الفِتنة بين أبناء الشّعب الواحد، وبَذر بُذور الحرب والاقتِتال الداخليّ عازفةً على وتر الطائفيّة والعِرقيّة والقبائليّة والمناطقيّة.

نعم هذا الحِراك الشعبيّ العفويّ المُبارك الذي لم تُرَق فيه نقطة دمٍ واحدة، ورسّخ نموذجًا في الوعي الوطنيّ والحِرص على المال العام والخاص، حقّق إنجازات كبيرة أبرزها إطاحة نِظام عاجز فاسد استمرّ عدّة سنوات، فمِن غير المعقول أن لا يُخاطِب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شعبه لحواليّ عشر سنوات، وأن يهتف أنصاره لصُوَرِه، وأن يذهب إلى صناديق الاقتراع على كُرسيٍّ مُتحرّكٍ دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة.

لا يُعقَل مُطلقًا أن يَحكُم هذا البلد الذي يُشكّل فيه الشّباب تحت سن الثّلاثين حواليّ 60 بالمئة من شعبه من قبل مجموعة فاسدة، وتُديره بطريقةِ الحركات والعِصابات السريّة المُغلَقة، حتّى أنّ هُناك انتقادات للحِراك بأنّه جاء مُتأخِّرًا، ولكن أن تأتي مُتأخِّرًا خيرٌ من أن لا تأتي أبدًا.

من كانوا يقفون خلف المُؤامرة، ونحن نعرف جيّدًا في هذه الصّحيفة بعض فُصول التّحضير لها في غُرف مُغلَقة، أرادوا  تطبيق السّيناريو السوريّ وليس الليبيّ، وإغراق الجزائر في حمّامات الدّماء، وتقسيمها على أصول عرقيّة بعد سنوات، وربّما عُقودٍ من الفوضى الدمويّة.

ربّما يختلف بعض الجزائريين مع الجِنرال قايد صالح، رئيس هيئة أركان الجيش الجزائري، الذي وافته المنيّة وانتقل إلى الرّفيق الأعلى بعد اكتِمال الانتخابات الرئاسيّة ببضعة أيّام، وهذا من حقّهم، ولكن يجب الاعتِراف بأنّ الرّجل انحاز للشّعب ورغبته في التّغيير، وأدار الأوضاع بدرجةٍ عاليةٍ من المسؤوليّة، وكبَح جِماح العناصر المتطرّفة في المُؤسّستين العسكريّة والأمنيّة التي كانت تتحرّق لاستِخدام القوّة ضِد المُحتجّين وأثبتت الأحداث والوقائع، وما تسرّب من معلوماتٍ حول تفاصيل المُؤامرة، أنّه كان حكيمًا، مُصيبًا، في مُعظم، إن لم يَكُن كُل قراراته.

لا ندّعي في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” أنّ الأوضاع الحاليّة في الجزائر مِثاليّة، وخالية من بعض العُيوب، فالكمال لله وحده، ولكنّها قد تكون بداية لمرحلة انتقاليّة، تمهيدًا للوصول لنِظام حُكم أكثر ديمقراطيّة تسوده المؤسّسات المُنتَخبة، ويحتكم إلى نظامٍ قضائيٍّ مُستقل، ومؤسّسة تنفيذيّة تخضع لرقابةٍ تشريعيّة صارِمَة.

الرئيس تبون تحدّث عن تعديلاتٍ دستوريّةٍ تُحدّد طبيعة نظام الحُكم، فهل يكون رِئاسيًّا أو بَرلمانيًّا، والخِيار النهائيّ سيكون للشّعب، الذي سيُصَوِّت عليها وباعتباره مصدر جميع السّلطات، وهذا توجّهٌ مسؤولٌ يحب أن يُعطَى الفُرصة الكافية من قبل الشّعب والحِراك معًا.

الحِراك الشعبيّ الحضاريّ السلميّ الذي غيّر وجه الجزائر وفكّك مفاصل الفساد، أو مُعظمه، وأدّى إلى اعتِقال مُعظم رموزه بِما في ذلك رئيسيّ وزراء وعدد كبير من الوزراء السّابقين، ورجال أعمال يقبعون خلف القُضبان انتِظارًا لمُحاكمتهم، هذا الحِراك يجب أن يستمر، ويكون بمثابة سُلطة الرّقابة التشريعيّة في ظِل غِياب البرلمان الجديد المُنتَخب.

الجزائر وبفضل هذا الحِراك المسؤول، والانتِخابات الرئاسيّة المرحليّة، وعودة مؤسّسات الدولة للعمل بطريقةٍ أكثر فاعليّة وإنتاجيّة، ولو بإيقاعٍ أقل من السّرعة المُتوقّعة، تعيش مرحلةً من الاستِقرار النسبيّ وبدأت تستعيد عافيَتها ودورها ومكانتها الإقليميّة والدوليّة، وينعَكِس ذلك بوضوحٍ في تحوّل عاصِمتها إلى “مَحجٍّ” للكثير من زُعماء العالم ووزرائه لأخذ رأيها، والسّعي للاستِفادة من إرثها التاريخيّ في حلّ النّزاعات والأزَمات، والليبيّة منها على وجهِ الخُصوص.

حمَى اللُه الجزائر، وأدام عليها نعمة الأمن والاستقرار والتّعايش، نقولها من قلبٍ مُحِبٍّ لها، وحريصٍ على عودة ريادتها، وازدِهار شعبها وصلابة وِحدَتيها الترابيّة والديمقراطيّة وليس ذلك على اللِه بكثير.

“رأي اليوم”