في مثل هذا اليوم قبل 32 عام انتفضنا.. ضاعت الانتفاضة.. وبات لدينا وزراء وسفراء.. وعمارات وقصور

اثنين, 12/09/2019 - 12:05

نادية عصام حرحش

شكلت الانتفاضة الأولى مفصلا أكيدا في وعي جيل كامل من الفلسطينيين الذين عاشوا حلم التحرر من الاحتلال. كنت ابنة ١٥ ربيعا، تحولت احلامي الى ترقب لجني حصاد الحرية المطلقة من الاحتلال. فنحن شعب انتفض عن بكرة ابيه وحمل الحجر في مواجهة احتلال لم يرحم. كانت فلسطين المطبوعة في وجداني هي تلك التي تشكل حدودها الجليل والجولان من الشمال وبئر السبع من الجنوب. كانت كلمة إسرائيل كلمة غير محكية. كانوا يهودا سيرحلون عودة الى بلادهم، فإسرائيل ليست الا “طارئا”، “مؤقتا” الى زوال.

صار الحجر سلاحا نحمل فيه احلامنا ونقذف فيه كوابيسنا لنتخلص من احتلال قتم على حلم الحرية في نفوسنا.

كان اول حاجز، وتوالت أوامر منع التجول، وكان الضرب بالهراوات والرصاصات المطاطية. صار صكيك اقفال المحلات عندما تغلق الساعة الواحدة تماما، كصوت أجراس الكنائس مبشرا بحلول عيد.

جيل كامل تشكل وعيه نحو هذا التوجه للتحرر. فلقد حان وقت خلاصنا… كنا بسذاجة نفكر.

لم نكن نعرف ان ما كنا نزرعه من امل للحرية، كان يتم التخطيط لبيعنا وهم ما صار أوسلو.

كان حنيننا لناسنا في الغربة وأماكن اللجوء عظيم.

كانت هواجسنا من اجل علم فلسطين يرفرف على سارية او حتى على شباك منزل كالحلم المستحيل.

كان املنا بقيادة فلسطينية تحمل همنا وتفض الظلم عن ظهورنا طيلة عقود احتلال ظالم حقيقي وكبير.

سنوات من الانتفاضة صارت تشكل مظاهر حياتنا بكل اتجاهاتها. التعليم صار بالبيوت، واللباس صار متناغما مع انتفاضتنا، فكل فلسطيني معرض لأن يحمل الحجر في أي لحظة. معالم الحياة اقتصرت على ما تحتاجه الانتفاضة، فلا فرح مع شهيد قريب او جار معتقل او فتى جريح. توحدنا نحو املنا بحرية لا بد قادمة.

كبرنا وكبر الحلم نحو الحرية. ازدادت الحواجز وتحول من “طيارة” الى ثابتة.  وزاد القمع والظلم، فصارت الهراوات توجه لتكسير العظام والرصاصات المطاطية تضرب بالرؤوس. ازدادت الاعتقالات وكثر منع التجوال. وصمدنا بحجم ايماننا بانه لا بد للقيد ان ينكسر، بعدما انتصرنا كشعب لرغبتنا بالحياة.

كانت رغبتنا بالثورة تتأجج بوجود ثوارها المنتظرين للعودة. فانتفض وجداننا نحو انتفاضة يكللها ثوار فنوا حياتهم باللجوء من اجل قضيتنا وانتظرناهم بقدر انتظارنا للحرية.

انتظرنا المخلص منهم والمحرر والمحقق لنا حلم العودة.

انتظرنا تحرير فلسطين بعودتهم.

انتظرنا قيادة تصد عنا الرصاصات والهراوات.

انتظرنا انتصارا لانتفاضة شعب اعزل يقبع تحت اضطهاد وظلم احتلال.

وجاءت أوسلو…

تكسر الحلم فينا، كما تتكسر اجنحة طائر محلق نحو السماء.

واستبدلنا حلم الطيران والتحليق بالزحف على امل ان تنبت الاجنحة بوجود قيادة ستغذي امالنا وتحملنا نحو التحليق بتحقيق الحرية.

وصار الوطن علما مرفوعا بأرض محدودة على امل لمفاوضات تحولت مع السنوات الى القضية ونسينا القضية الاصلية.

وتقسمت الأرض الى مناطق، وزرعت المستوطنات بأراضينا وخلعت أشجار الزيتون.

ورفع العلم الفلسطيني ورفرف وفرحنا وانتصرنا لعلمنا.

صارت الحواجز معابرا، ودكت الأرض جدارا وأسلاك شائكة، وصار حلم المرور عن الحاجز بحجم حلم دولة آفلة.

وصار عندنا وزارات ووزراء، هيئات واستثمارات وبنوك ومؤسسات وامن وموظفين من مدراء ووكلاء وعقداء والوية بحجم وطن.

صار عندنا ابنية حديثة وقصور وحدائق ومتاحف ومعارض، وضعنا فيها امنياتنا بحلم وطن.

وانتخبنا رئيس وعشنا حلم الانتخابات والم رحيل رئيس رحلت معه الاحلام وانفضت الأوهام وصارت من لحظتها حياتنا نفض لمآسي تتراكم فتتناثر فتتشكل من جديد لتنفضنا كأشخاص وكشعب ووضعتنا في هذا الحال المقيت.

في مثل هذا اليوم قبل ثلاثة عقود، كنت احلم بهذا اليوم متخيلة نفسي وانا ام فخورة بجيلها الذي استطاع ان يدحض اضطهاد سنوات احتلال مباغت. كنت أرى في حلمي الربيعي فلسطين محررة من احتلال كان يقهر الحياة فينا ويقمع احلامنا وينهي امالنا. لأجد نفسي في حقيقة غاب عنها الربيع ولم نعش منها الا شتاء قاحل لا ينتهي. انفض من الانتفاضة أحلام الصبا، وابعثر اماني امام ابنائي لا يفهمون معانيها، لأحلام يرونها عبثية لجيل لا يمكن وصفه الا بالساذج.

ولم يبق من الحلم الا اسمه، ومن الانتفاضة الا ما تناثر من اثرها علينا بحاجز صار معبر ، وجدار صار يحدد ملامح مدننا وقرانا، وحلم بتصريح للدخول والخروج بلا تعطيل واثارة ، ومقاطعة صارت بها حدود السيادة وينتهي اليها حلم وطن ليس بالوطن من قريب ولا بعيد.

وطن منقسم على نفسه تحول العلم فيه الى علم حزب، وصارت حدود السيادة تشكل يوميا من قبل جندي بلا رتبة.

وطن يتناحر النزاع في داخله من كل الاتجاهات.

وطن نفضته أوسلو وصارت انتفاضته ذكرى لحلم لم ير النور.

كاتبة من القدس