الجزائر: وتاريخ أهمله التأريخ

أربعاء, 05/15/2019 - 15:00

دكتور محيي الدين عميمور

نقلت وكالة الأنباء الفرنسية تصريحات لمن يرفعون صرخات الدفاع عن حقوق الإنسان بصفة انتقائية، مضمونها الهجوم على رئيس أركان الجيش الجزائري، الذي كان صرّح بأن هناك قوىً أجنبية، لم يُحددها، تدعم عملية الإخلال بالاستقرار في الجزائر، وهكذا تتكامل الوكالة مع التلفزة الفرنسية التي تتعامل هي أيضا مع ما يحدث في الجزائر بصفة انتقائية، لهذا أواصل استعراض تصرفات فرنسية قديمة أتصور أن من واجبنا الاحتفاظ بوجودها حية في الأذهان، لأن الماضي ضوء كشاف ينير طريق الحاضر ويمكن من خوض مسيرة المستقبل، في انتظار ما سيكشف عنه الغد القريب.

وكنت تناولت العمل الخبيث الذي كان يسهر على تحقيقه في السبعينيات مدير المخابرات الفرنسي الأسطوري “الكونت دو مارانش”، والذي حمل عنوان نادي “السفاري”، وكان البند الأول هو التحكم في القارة السمراء، وعلى ضوء مخطط جهنمي كان وراءه “جاك فوكار”، الذي كان يسمى “رجل إفريقيا” ويقف وراء أهم الانقلابات التي عرفتها مستعمرات فرنسا السابقة، بدءا بالغابون في 1966، ولمصلحة الدولة الفرنسية وشركاتها البترولية.

وكان البند الثاني في ملف دو مارانش هو الإسلام، والذي أتوقف عنده لسبب رئيسي هو أنني أتصور بأن الجزائر هي من أقدر البلدان العربية على التحرك إسلاميا في أوروبا وفي فرنسا على وجه التحديد، وخصوصا إذا أمكن تحقيق التكامل والانسجام مع دول المغرب العربي، والمغرب الأقصى في المقدمة، وإذا كانت هناك إرادة مخلصة لدى المرجعيات “السنية” في الوطن العربي كله، وبعيدا عن حسابات البقالين ومناورات المخابرات وعناصرها، وإذا أمكن خلق التكامل مع المؤسسات الدينية في المشرق العربي، وعلى رأسها الأزهر، بعيدا عن روح الاستعلاء الممقوت وإدعاءات الفوقية، وبشرط أن تتصرف تلك المؤسسات بأسلوب أكثر عالمية وأقل إقليمية وأبعد بقدر الإمكان عن إرادة السلطات التنفيذية، والتي جعلت الشيخ خالد الجندي (وهذا لقبه وليس صفته) ينهى عن سبّ إسرائيل، بحجة أن إسرائيل نبيٌّ واجبنا أن نحترمه كبقية الأنبياء.

ومعروف أن للجزائر أكبر جالية إسلامية في أوربا، وكانت، مع المملكة المغربية، من أهم ركائز مسجد باريس، الذي افتتحه في 16 يوليو 1926 الرئيس الفرنسي غاستون دوميرغ ( الذي تحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية ليضمن بقاءه في منصبه بعد أن كان سلفه ألكسندر ميلييران، غير الكاثوليكي، قد اضطر للاستقالة بضغوط من اليسار الفرنسي، وهو أمر يثير تساؤلات كثيرة لأنه يحدث في بلد يرفع لافتة العلمانية ولكنه يرفض أن يرأسه غير كاثوليكي، وليس فقط غير مسيحي)

وافتتح المسجد بحضور مولاي يوسف، والد السلطان محمد الخامس، أهم رموز الوطنية في الشمال الإفريقي والذي أدى عزله في منتصف الخمسينيات إلى ثورة الشعب المغربي ضد الوجود الفرنسي، وكان ذلك من شرارات الثورة في المغرب العربي ضد الاستعمار الفرنسي.

وكان أول أئمة المسجد قدور بن غبريط، وهو فرنسي من أصل جزائري، وهو والد وزيرة التربية في الحكومة قبل الأخيرة للرئيس بة تفليقة، والتي نجحت في استثارة كل الوطنيين ضد اختياراتها التربوية وكانت من العناصر التي أشعلت تصرفاتها الحراك الجزائري، ورُويَ أن معظم مستشاريها كانوا فرنسيين وفرانكوفيليين.

كان مسجد باريس قلعة روحية ينضوي تحتها أبناء المغرب العربي في المهجر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبرغم السيطرة الفرنسية الإدارية على المسجد فقد كان للجزائر وجودها المؤثر في نشاطه.

ولا مجال لاستعراض ما حدث خلال مرحلة الثورة وأقفز سريعا إلى مرحلة الاستقلال حيث تميز الوجود الجزائري بتكوين ودادية الجزائريين في أوروبا، وتألق على رأس الودادية عبد الكريم غريب.

ولم يكن سرّا أن في فرنسا سلطات لا ترضي عن وجود جزائري فعال، ومن هنا فإن المخابرات الفرنسية فكرت في اختراق الساحة الإسلامية للالتفاف حول التأثير الجزائري، الذي بدا، في الستينيات والسبعينيات، مشاكسا وغير منسجم مع المطامع الفرنسية في المنطقة وفي القارة الإفريقية.

وبدأ ذلك التفكير يتبلور أكثر فأكثر بعد التأميمات التي قامت بها الجزائر ابتداء من 1966، عندما أممت المناجم وانتهاء بعام 1971، عام تأميم البترول (وأرجو أن أذكر هنا أنه بعد تأميمات المناجم احتضنت باريس الأكاديمية البربرية بحجة الدفاع عن الثقافة “البربرية” وهو ما لم تفكر فيه فرنسا منذ 1830 إذا صحّ الادعاء أن الهدف كان ثقافيا محضا، ولن أذكر بهوية الأعضاء المؤسسين وبتاريخهم في خدمة العلم الفرنسي والأهداف الفرنسية، وكان من عناصر الأكاديمية “جاك بينيت”، الذي ابتكر علماً ضراراَ يسخر منه جزائريون بتسميته علم “الفورشيطة” (شوكة الأكل) وهي الرمز الموجود على علم “بينيت” ويشبه آلة التعذيب الحديدية التي كانت تستعملها محاكم التفتيش الإسبانية ضد المسلمين في نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر، وكانت عبارة عن كتلة حديدية لها شوكتان علويتان وسفليتان، تُثبّت تحت الفك لتنغرس الشوكتان العلويتان فيه وتحول دون فتح الفم بارتكاز الجزء الأسفل على الصدر، وأصبحت رمزا للعداء ضد الإسلام، ولعل هذا هو سرّ اختيار الصهيوني الفرنسي لها.

وقرر دو مارانش تشجيع إحدى الدول الإسلامية على الوجود في الساحة الفرنسية، بشرط أن : “يُحْسَن اختيار الدولة، ويكون مضمونا عدم تناقض نشاطها مع الاتجاهات الفرنسية، وارتأى أن تكون الدولة المهيأة للقيام بهذا الدور هي المملكة العربية السعودية (هيكل – العربي التائه – ص 125) وكان وجود كمال أدهم في مجموعة السفاري تحصيل حاصل، وهكذا أرسِل إلى باريس علماء دينٍ سعوديون”.

ولكن عملية الاختراق لم تتم كما أراد لها دو مارانش، وكان من الأسباب أن معظم مسلمي فرنسا “مالكيون أشعريون”، حتى ولو لم يكن معظمهم يعرف ما معنى المالكي الأشعري، ولكنه تأثير العمق التاريخي والأعراف السائدة في دول المغرب العربي.

وتنفجر الثورة الإيرانية في نهاية السبعينيات، وكانت إسرائيل أكبر متخوف من آثارها ونتائجها، ويتجاوب معها الفرنسيون المصابون بعقدة ذنب تجاه اليهود، وهو ما أحسنت إسرائيل استثماره، وساهم في ذلك العديد من يهود الجزائر الذين نزحوا إلى فرنسا بعد انتصار الثورة الجزائرية، وكان من بينهم “غاستون غارناسيا”، المدعو “أنريكو ماسياس”، الممنوع من دخول الجزائر منذ تهليله لانتصار إسرائيل في 1967، والمُرحّبُ به في بلاد دفعت الثمن غاليا آنذاك.

ونجح اللوبي الصهيوني في إشعال ثورة الشارع الفرنسي ضد الرئيس دوغول، بتجنيد شباب كانت مشاكله تتراكم في السنوات الأخيرة، وكانت الخلفية الصهيونية هي  الانتقام من الجنرال، الذي كانت تصريحاته في 1967 متجاوبة إلى حد كبير مع الحق العربي بقدر إدانتها للغلو الإسرائيلي، وانفجرت أحداث مايو 1968 بقيادة “كوهين بندت”، والاسم يدل على المُسمّى كما تدل البعرة على البعير، ولقيت تلك الأحداث دعما كبيرا من المخابرات الأمريكية عقابا للرئيس الفرنسي على خروجه من الحلف الأطلسي، ليكون ذلك رادعا ضد من يُفكر في الخروج عن إرادة واشنطون، وانتهى الأمر بالاستفتاء الذي فشل فيه دوغول وخرج على إثر ذلك من السلطة.

لكن اختراق الساحة الإسلامية ظل عنصرا سائدا في السياسة الفرنسية، ولسبب ما سقط التفكير في الدور السعودي بعد خروج دو مارانش من موقعه وتغير القيادات المعنية، وتغير الطرف الإسلامي فأصبح مصريا، وكان الراعي العربي المقترح هو الأزهر، الذي لم يُعارض ولم يرفض، ولعله انتظر “إشارة من الدولة تشير إلى ما تراه صالحا للأزهر وللبلد” (هيكل ص 128-) وكان واضحا أن هناك تجاهلا تاما لمسجد باريس، خصوصا وقد عرفت الجزائر أحداثا همشت الاهتمام بالمسجد، الذي كان سفارة شعبية للجزائر في أرض الغربة الأوربية كلها وليس في فرنسا وحدها، وعلى وجه التحديد عندما انهارت ودادية الجزائريين في أوروبا بعد العددية الحزبية (وليس التعددية) التي جاءت نتيجة لأحداث أكتوبر 1988.

وهكذا تجاذب القصور التقصير، وتكامل الإهمال واللامبالاة، واختلط الجهل بالتجاهل، وعجزنا عن تقديم الإسلام للغرب كما نراه وكما يجب أن يكون، بل ووصلنا في مرحلة ما إلى محاولة التبرؤ منه بعد أحداث اختلط فيها سوء التقدير مع سوء التدبير، وعجزنا عن تنظيم أبنائنا في المهجر، خصوصا بعد انفجار التناقض المغربي الجزائري، وتركنا أبناءنا، هنا وهناك، نهبا للفتاوى المستوردة والأفكار الغريبة عن مجتمعنا وعن أخلاقياته، وكان هذا أمرا دفع ويدفع المغرب العربي ثمنه غاليا.

في هذا الإطار يجب أن نضع الأحداث التي اصطلح على تسميتها اليوم بالإرهاب الإسلامي.

فقد كان ما يصل إلى المهاجرين المسلمين من أنباء وطنهم وما يرونه من صور التعامل مع رفاقهم تذكيرا بعبارة قالها، خلال الفترة الاستعمارية، ضابط جزائري في الجيش الفرنسي برتبة كولونيل: “العربي عربي ولو كان الكولونيل بن داوود”، وكان هذا مما تأثر به الشباب، الذين عرفوا المهجر في نهايات القرن الماضي، عندما كان الواحد منهم يسير بجانب حائط الحياة، منتظرا في كل لحظة شرطيا يمسك بتلابيبه ليمارس عليه نفوذه.

وربما كان سبب الفشل الفرنسي الرئيسي في استيعاب حركة الشباب المهاجر هو أن الفرنسيين حاولوا دراسة الظواهر التي تقلقهم من أبناء الجنوب على ضوء دراسات أعدّت على أساس الفهم الفرنسي والمنطق الفرنسي والنظرة الفرنسية والتحليل الفرنسي، المُتّسم بالتعالي والغطرسة، ولم تدرك السلطات أن للعربيّ منطقه وأسلوب حياته ومنطلق أفكاره، ولو كان لا يعرف من اللغة العربية إلا … “بَاردون، موش يعرف عربي”.

ولكي نفهم هذا الأمر، يجب أن ندرك أن نظام الأسرة في المغرب العربي بوجه عام كان نظاما أبويّا، حيث يدين الجميع للأب بالسمع والطاعة، وتنتقل سلطته المعنوية للابن الأكبر، ولدرجة أن الابن الأصغر في العائلة في كثير من المناطق يسير متأخرا عدة خطوات عن أخيه الأكبر، الذي لا تناديه الأخت باسمه، وإنما بكلمة: سيدي.

واختلّ كل هذا في المهجر، فالأسَرُ ألقِيَ بها في أحياء جانبية أصبحت أقرب إلى “غيطو” ولم تندمج تماما في المجتمع الفرنسي، وأصبح شبابها يعاني من تناقضات اجتماعية نشأت عن تأثير نداءات التحضر والتقدم التي تتناثر في المجتمعات الغربية، والإغراءات المتواصلة التي يتعرض لها الشاب والفتاة، وانحياز السلطات لفتاة تخرج عن إرادة أسرتها.

وهكذا تعثر دور رب الأسرة ثم تلاشى، وبدأت “الشيزوفرانيا” تفعل فعلها لدى كثير من الشباب الذي أصبح يعيش وضعية ضياع، فمرجعية الأسرة ذابت، وخصوصا بالنسبة للفتيات، مع ملاحظة ردّ فعل إخوتهن الذكور، الذين لم يتخلصوا من الأعراف العربية الإسلامية إلا فيما يتعلق ببنات الآخرين.

ولم يكن باستطاعة المجتمع الفرنسي أن يعطي لهؤلاء الشباب مرجعية ذات مصداقية، فتعبيرات الحرية والإخاء والمساواة تأخذ غالبا أساليب انتقائية.

وحقيقي أن الناس هناك يتميزون بأدب التعامل، وبونجور وميرسي وأورفوار هي عملة يومية رائجة، لكن الغريب عن الديار فكريا وعاطفيا، حتى ولو كان يعيش فيها جثمانيا، يُحسّها كمجرد صورة ملونة لورقة عملة بنكية، لا تشتري حبة زيتون.

وكان الملجأ الروحي والمرجعية الفكرية لمن يريد تفادي الالتحاق بتجمعات الشباب على نواصي الطرق في الأحياء الهامشية هو رجال الدين، لكن مجتمع الحرية والعدالة والمساواة قضى تماما على كل دور فعال لهؤلاء.

فبينما تتولى مؤسسات الكنائس والبيَع اختيار رهبانها وحاخاماتها بالاختيار الكهنوتي تطبيقا للتوجهات اللائكية المُعلنة، فان “انتقاء” الأئمة الإسلاميين يمر غالبا عبر عناصر قسم الشرطة في الحيّ، ممن يتخصصون في تجنيد المخبرين وتوظيف المنحرفات، أو من خلال مستويات أعلى في مخابرات حماية التراب الوطني (DST) وهو ما يمكن أن يُفسّر تصرّف ذلك الإمام الذي يدعو في التلفزة الفرنسية للإسلام “الجمهوري” (Islam Républicain) ومفهومه، تشكيلة الطقوس الدينية الظاهرية التي يكتفي بها أي أمّي يقال له أن هذا هو طريق الجنة وضمان التخلص من مضايقات الشرطة.

وما لم تدركه السلطات الفرنسية أن هذا الطراز من رجال الدين، والذي تعرف مثيله بلدان عربية وإسلامية كثيرة، هو السبب في ضياع مصداقية الأئمة الذين أصبحوا يحملون صفة “علماء السلطان”، ففقدوا أي تأثير إيجابي على الشباب بل والأقل شبابا، وتملك بعضَهم الحقدُ على رفض الشباب له، فبالغ في عدائه لهم، كما رأينا من الشيخ علي جمعة وأمثاله في مصر وفي غير مصر، ويضاف لهذا تلك “التوبة” النصوح لدي رجال دين انحرفوا عن فتاواهم بـ180 درجة عندما أمر الأمير بذلك.

ولأن الطبيعة لا تحتمل الفراغ فقد دخل إلى ساحة الحياة ملتحون جدد، تلقوا قدرا محدودا من المعلومات الدينية جعلت الواحد منهم مجرد “ميكانيكي” شؤون فقهية، ولأن هذا لا يكفي للتجنيد ولاكتساب هيبة القيادة وتبرير ضخامة العمامة لجأ هؤلاء إلى أكثر العناصر فاعلية، وهو خلق حالة “بارنويا” حادّة يمكنها أن تجذب شبابا متورمي النفس بالسخط على مجتمع يتعالى عليهم، ويرفض تقبلهم في عالم أصبح قرية صغيرة وغابة كبيرة، وجعل من بلدانهم مثال الخنوع ومن قادتهم رمز التبعية ومن قيَمهم الدينية محل السخرية.

وأضيف إلى هذا ما سبق أن قلته من ممارسة السلطات الفرنسية للانتقائية في تعاملها مع أبناء المغرب العربي بشكل عام، حيث لا تثق إلا في من يتأكد لها أنهم ملكيون أكثر من الملك، وأقصد الملك …الفرنسي.

وهنا ندرك سبب القلق الذي تشعر به اليوم سلطات فرنسية نتيجة لما يحدث في الجزائر، وخصوصا لأنها لم تعد تعرف خبايا كل ما يحدث عندنا، فمعظم من كانت تلجأ لهم وتعتمد عليهم لا يوجدون اليوم حيث تتخذ القرارات وتُعرف كل المعطيات.

 وللحديث بقية، خصوصا إذا كشفت التحقيقات القضائية ما يخفي على الكافة.

آخر الكلام.

 *  –  أجد نفسي مضطرا للاعتذار للجنرال توفيق بعد أن حرفت بعض الصحف ما قلته في حديثي الأسبق، حيث نسبت لي أنني حمّلته مسؤولية “كل” ما أصيبت به الجزائر منذ بداية التسعينيات، وأنا أعتذر تعبيرا عن سخطي لأنني أرفض أن يحاول البعض تصفية حساب مع الجنرال بما يُظهرني كأنني أطعن جريحا، وما كتبته هو معلومات معروفة للجميع في الجزائر، ومضمون حديثي كان قد صدر في كتاب لي منذ نحو خمس سنوات، وقبل إحالة الجنرال للتقاعد في 2015.

 

مفكر ووزير اعلام جزائري سابق