قراءة في مشهد الثورة السودانية.. والبحث عن قيادتها الحقيقية

ثلاثاء, 03/05/2019 - 15:39

صديق محيسي

 كان السودان في السابع عشرمن نوفمبرعام19 5 8  من القرن الماضي علي موعد مع اول انقلاب عسكري يطيح اول تجربة ديمقراطية في البلاد وهي في طور التّكون ,ومهما اختلف الناس عن طبيعة ذلك الحدث إن كان   ناتج عن كيد حزبي” عملية تسليم وتسلم ” او لم يكن,فهو في النهاية إستيلاء علي السلطة بواسطة القوة المسلحة ,غيران في ثقافة ذلك العصر كانت  الإنقلابات التي يقوم به كبار الضباط اليمينيون في العالم العربي توصف بأنها انقلابات “رجعية” بينما اذا قام بها صغار الضباط  اليساريون تكون إنقلابات “تقدمية” وفي كلتا الحالتين كان يطلق عليها اسم “الثورة”.

 استولي عسكريو17 نوفمبر علي الحكم فعطلو الدستور وحلوا الأحزاب والنقابات وألإتحادات واذاعو في بيانهم الأول بأنهم جاءوا لإنقاذ البلاد من الفوضي والفساد الحزبي, وعلي الفوربارك الإنقلاب زعيما طائفتي الإنصار والختمية السيدين عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني ثم اعقب ذلك مذكرة تأييد اطلق عليها اسم مذكرة”كرام المواطنين “قدمها زعماء حزب الشعب الديمقراطي بتوجيه من طائفة الختميةعلي الميرغني .

اذا نظرنا الي طبيعة إنقلاب السابع عشر من نوفمبر نجد ان الذين قاموا به عسكريون ليبراليون ذوي ثقافة “سانت هريسية بريطانية”ولم تكن لهم اصلا ايديولوجية سياسية ,وكان اكثر ما يزعجهم هم الشيوعيون الذين شنوا عليهم حملة كبيرة وقدموا قادتهم الي المحاكمات العسكرية .

كان الشيوعيون يوزعون المنشورات التي تطبع علي ماكينات الرونيو ويكتبون شعارات باللون الأحمرعلي الجدران في الشوارع الرئيسية تنادي بأسقاط عصابة 17 نوفمبر فيقوم البوليس السري بمحوها فيزيد المارة فضولا لمعرفة ما هو مكتوب.

جاء نظام ابراهيم عبود تحت شعار” احكموا علينا بإعمالنا”ولم تكن له كما قلنا ايديولجية سياسية محددة , فقبل المعونة الإمريكية التي كانت ترفضها القوي اليسارية ,ولكنه شرع في انجاز العديد من المشروعات التنموية المعروفة.

وفي خضم اشرس حرب باردة في السياسة الخارجية اقام عبود علاقات متوازنة بين المعسكرين الإشتراكي والراسمالي ,زار الإتحاد السوفييتي وعدد من دوله كما زار الولايات المتحدة ,وبريطانيا فاستقبل في كل هذه الدول إستقبالا يفوق التصور يليق به كرئيس لدولة السودان, وزمانئذن لم تبرز بعد الي الوجود دول الخليج النفطية,فقد كانت كلها امارات بريطانية محمية عدا المملكة العربية السعودية.

في مجال محاربة الفساد فقد كانت اكبر قضية فساد وقعت في عهده وتناولتها الصحف هي قضية مباني قري حلفا الجديدة في خشم القربة والتي انهارعدد كبير منها فكتبت عنها الصحف يومذاك كحدث غريب واعتقل فيها المقاول المسئول عن الإنشاءات وقدم الي المحاكمة بتهمة تجاهله شروط عقد البناء,كما إن اشهرعملية إختلاس للمال العام وقعت عام 1962 وعرفت بإختلاسات مشروع النويله بالجزيرة والتي احدثت ضجة إجتماعية كبري تناولتهاالصحافة ايضا كفضيحة اخلاقية لم يعهدها السودانيون .

حكم عبود ستة  سنوات” فقط لم تزد ولم تنقص  ,وبالرغم من تعامله مع قضية الجنوب تعاملا دينيا عروبيا خادعا إلا انه عارض معارضة قوية دعاة إنفصال الجنوب” الفديريشن ” واي حكم ذاتي للجنوب , ثم اتبع كل ذلك بطرد البعثات المسيحية التبشيرية من البلاد وفي وقت لاحق قام بسودنها وفرض اللغة العربية كمنهاج في الدراسة وهي تراث سيء استفاد منه الإنقاذيون فيما بعد عندما اعلنوا الحرب الجهادية ضد الجنوبيين.

كان دافع الضباط الإنقلابيين علي عبود انفسهم وثيق الصلة بالعداءات الشخصية اكثر من كونه موقفا ايديولوجيا .وكان اقدامه علي عملية الإعدام خمسة منهم نابعة فقط من مفهوم عسكريين خالفوا قواعد المهنة, وذلك مالم تفعله حكومة البشير عندما اعدمت 28ضابطا عشية عيد الفطر بدافع سياسي إنتقامي وتخويفي ودون ان تتاح لمحامين الدفاع عنهم ,بل ان جثمانينهم غير معروفة لأهليهم حتي الان فقد دفنوا في قبرجماعي مخالفين إسلامية حرمة الموتي .

عند قيام ثورة اكتوبرالشعبية التي اطاحت  نظامه عام1964اطل عبود من شرفة قصره فرأي قيامة من الجماهير تطالب بإسقاط نظامه , فما كان منه الإ ان جمع المجلس العسكري وقررتسليم السلطة فورا الي القوي السياسية المدنية مادام كل هذه الحشود لاتريد حكمهم وفي هذا الموقف قال عنه الصحفي الكبيرمحجوب محمد صالح” رغم أنه كان حكما عسكرياً إلا أنه كان حكم عقلاء حكم شرفاء، أياديهم نظيفة، لم يفسدوا إطلاقاً وما خرجوا عن المألوف وهو من الشخصيات التي لم تُغيِّرها السلطة، دخلها كرجل بسيط وضابط منضبط وعسكري مهني عاش بنفس صفاته تلك إبان حكمه، لم يحاول أن يبحث عن أضواء أو أن يفرض نفسه أو يدَّعي شيئاً، عاش حياة بسيطة حتى وفاته”.

وقال عنه محمد سعيد معروف وكان كادرا قياديا في الحزب الشيوعي”احترم استقلالية الخدمة المدنية لذلك كان التشريد والفصل في عهده أقلّ ما يمكن بالنسبة لكل العهود، لم يتدخَّل مطلقاً في الخدمة المدنية ,أو في القضاء، فظل القضاء محافظاً على استقلاله وعلى دوره القيادي.اما منصور خالد فقد قال” كان قراره بالتنحي عن الحكم هو قرار الرجل السوداني الكبير الذي يدرك معاني التراحم فقد أبى أن يكون البقاء على اجداث الرجال.

حتي ذلك الحين لم يعرف عن نظام عبود انه مارس التعذيب البدني او النفسي ضد معارضيه في الرأي ,وعند اعتقاله قيادات الأحزاب وإرسالهم الي جنوب البلاد سمح لأهاليهم التواصل معهم كما سمح لهم بالصحف والراديو والنزل الطيب, لم يعرف عن نظام عبود انه عذب معارضيه وكان اكثر ماتم تداوله في ذلك العصرأن الحاكم العسكري لشمال كردفان قام بتعذيب معتقل شيوعي بنفخه بواسطة خرطوم ماء وهي واقعة لم تتأكد تماما ونفاها الحاكم نفسه اكثرمن مرة .

 نميري بوابة العنف

في سيرة ذرع ثقافة القهر كان إنقلاب مايو 69 هو اول من قص الشريط التقليدي نحو الأيديولوجية ردا علي الدستور الإسلامي الذي اوشكت الجمعية التأسيسية “البرلمان”ان تجيزه بدعم من الإخوان المسلمين وتواطؤ من الحزبين الكبيرين الأمة والوطني الإتحادي

وفي غمرة المد القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر وسطوع نجم اليسار العربي اعلن المايويون تطبيق الإشتراكية في السودان وجرت عمليات تأميم عشوائية طاولت حتي المطاعم ,وللمحافظة علي “النظام الثوري” الجديد المدعوم من الإتحاد السوفييتي والمعادي “للإمبريالية العالمية” ارسل النميري كوادره الي دول اوربا الشرقية لتؤسس اول جهاز مخابرات عقائدي ومنذ ذلك التاريخ وعلي النمط الشمولي في مصر وسوريا والعراق بدأ تصنيف الناس الي تقدميين ورجعيين.

 تحت  شعا ر وحدة  القوي الثورية وليس الوطنية بدأ  النميري عهده ,وقصد بهذا الشعارعزل الأحزاب التقليدية وإستبدالها بالحزب الثوري الواحد “الإتحاد الإشتراكي”, اما الإخوان المسلمون “جبهة الميثاق الإسلامي” فقد اطلق عليهم اليسار”عادم الرجعية”اي هم ثاني اوكسيد الكربون السياسي الملوث “للثورة”فزج بهم في السجون وعندما  دخول  مرحلة التيه السياسي وتقلبه بين  معسكري الشرق والغرب وفي غمرة ازمة إقتصادية ضارية اعلن بموجبها  السودان اقليم مجاعة اضطر النميري الي اللجوء للمصالحة للوطنية خصوصا بعد  الغزو  المسلح الفاشل الذي قادنه الجبهه الوطنية في  الأول من يوليوعام   7619واطلق عليه إعلام النميري هجوم المرتزقة.

الترابي عراب التغيير

 حتي ندقق في ابعاد المشهد  السياسي في ذلك العصرعلينا معرفة الدورالذي لعبه عقل الجبهة الإسلامية حسن الترابي والذي كان اول من قبل بالمصالحة الوطنية التي اعلنها النميري ولكن وفق  نظرية ” الكمون” التي استنها كان الرجل يخطط للأنقلاب علي زعيمه والإستلاء علي السلطة وتحقيق مشروعة       الدولة الإسلامية ,ولكن النميري تنبه الي المخطط  فزج  به  وجماعته في السجن ومرة اخري اسعفه الحظ  فخرج كبطل  ضمن  مئات المعتقلين الذين حررهم الثوارفي الإنتفاضة التي اطاحت  حكم النميري في ابريل 1 9 8 5  .

كان النميري هو اول من وضع حجر الأساس للعنف السياسي  في الحكم فقتل العشرات ودفنهم في قبور جماعية بعد فشل  المحاولة  العسكرية الفاشلة

التي قادتها الجبهة الوطنية لإسقاطه بالعمل العسكري في عام 1976

واعقب ذلك اعدامه لرفاقه  في السلاح وقادة الحزب الشيوعي في نزعة تشفي مرضية مبالغ فيها ,ولكن تحول عنفه الي “ايد يولوجية دينية”عندما نصبه الاخوان المسلمون اماما جديدا  للمسلمين فقتل المفكرالكبير محمود محمد طه ,وقطع الأيدي ,وتسور المنازل, وكان وراء كل هذا  العنف الترابي وجماعته  من خلف ستار, ولاتنفصل  سيرة العنف عن نظرية الرجل التي تري ان الشعب السوداني لايحكم إلا بالقوة ,ففي هذا كتب القانوني محجوب ابراهيم دراسة مهمة  في تسعينات القرن الماضى عن شخصية الترابي حلل فيها نفسيته “المضطربة وعشقه  للزعامة.”

عنف الاسلامويون

       يقودنا هذا الي الوضع الراهن وإستدعاء نظرية الترابي مجددا باعتماد  العصبة الحاكمة العنف وحده سبيلا للاستمرارفي حكم السودان ,والعنف وحدة جرعات كبيرة لإخماد الثورة السودانية المذهلة الجديدة ,وهو اخر سلاح  يلجأ  اليه النظام من اجل البقاء ,علي ان الحالة السياسية الحالية الملتبسة  دعت الكثيرين يواجهون بتغيرالأرضية التقليدية التي كانت  تساعد علي إسقاط الأنظمة العسكرية ,ثورة شعبية ,ثم إنحياز الجيش الي الشعب ثم الإنتصار ,فهذا التصور قد طواه النسيان عندما نكتشف إن الأبالسة الجدد  تحوطوا منذ البداية الي هذا السيناريو فغيروا من طبيعة وتركيبة الجيش التقليدية التي كانت سائدة حتي عهد النميري الي جيش عقائدي شروط الإلتحاق به  تحددها  الغرفة السرية  للتنظيم  فأغلق باب القبول إلا للموالين فقط فكان جيشا غريبا استبدل الروح الوطنية بالروح الحزبية لضيقة المقيتة وحال كبار قادته البيولوجية يشبه الي حد كبير طيور البطريق في اجسامهم  المكدسة بالشحم من كثرة الفساد ولايعول عليهم  ابدا  في إعادة التاريخ الي الوراء حين كان سابقوهم ينحازون  الي الجماهير الثائرة ضد الديكتاتورية فعبر ثلاثين عاما جري استبدال طبيعة الجيش الوطنية الأصلية الي ” ميلشيا إسلاموية”  ترتدي “يونوفورم” الدين ,وللحفاظ علي كرسيه قام رئيسهم  ايضا بتكوين جيش خاص به لحمايته شخصيا , اذن فأن مقولة ان الجيش إنحاز  الي الشعب لم تعد واردة في ظل هذه الوضعية الجديدة .وحتي لو افترضنا إن ذلك  يمكن ان يكون متاحا بقيام  صغار الضباط بهذه العملية سنواجه بماكاينة رقابية تحصيي دبيب النمل داخل القوات المسلحة وعليه تصبح إمكانية ذلك شديدة الصعوبة اذا لم تكن مستحيلة اصلا .

علي الجانب السياسي ظهر ولأول مرة ما اطلق عليه تجمع المهنيين كأداة جديدة لمنازلة النظام  ولا اتفق مع كثيرين من ان هذا التجمع  هو “عويش” عشوائي نبت فجأة  دون ان يكون من وراءه احد , فطوال السنوات الماضية عملت قوي سياسية في مقدمتها الحزب الشيوعي الذي عمل بدأب علي احياء  النقابات الشرعية القديمة مقابل نقابات النظام الموالية  وفي ذلك نجح الي حد كبير الي بناء مثل هذه  الإجسام  النقابية  خارج مظلة ,بل واستطاع ايضا ان يخترق نقابات النظام نفسها ويكّون له جيوبا داخلها ,وفي السياق نفسه  إجترح حزب المؤتمر السوداني اشكالا جديدة  للمقاومة وهي مخاطبات الشارع , اذن  لا يمكن التسليم بأن تجمع المهنيين هو نبت شبحي دون جذور     ونلاحظ  ان قادة النظام  وانصارره حينما يحاولون  الحط  من قيمته يقولون كيف لنا ان نتحدث عن تنظيم غامض لا تعرف قيادته وفي الوقت نفسه يعلنون انهم اعتقلوا عددا من قادته .

كاتب سوداني