مشاعل الحكيم.. جورج حبش

سبت, 02/02/2019 - 21:27

د. يوسف عبدالحق

في الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد الحكيم أثناء تأدية واجبه مفكرا ماركسيا فلسطينيا عربيا أمميا في منهجية النهضة العربية وفي مقدمتها فلسطين، تسطع امام القاصي والداني من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى، مشاعل الحكيم تنير الدرب لكل من يؤمن بصدقٍ بهذه النهضة للخلاص من  طوفان هذا الانحطاط والتبعية الذي يعم اليوم الوطن العربي من شرقه الى غربه.

 ويكفي هنا ان يتم التعرض لثلاث مشعل فقط وذلك نظرا لأهميتها. يسطر المشعل الأول للحكيم  ماهية هذه النهضة حين قال” إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية – ومسيحيتي – وتراثي الإسلامي كجزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية وماركسيتي التقدمية”. لم يكن الحكيم في هذه المقولة يقصد كما قد يظن البعض شخصه او حتى شخصية المواطن العربي، فهو يعلم تماما أن هذه المقولة ليست فقط قيما فردية على أهمية ذلك، بل هي وهذا هو الأهم، تمثل منهجية متكاملة للنهضة العربية. بمعنى أن النهضة العربية المطلوبة هي نهضة تقوم رسالتها على انسجام العروبة وأديانها مع الماركسية التقدمية. وعلميا لا يمكن ان يتم مثل هذا الانسجام بدون نظام اساسي يقوم على مِرْجلٍ ديمقراطي تتفاعل فيه العروبة والدين والماركسية لتنتج عملية التفاعل هذه في النهاية نظاما ديمقراطيا علمانيا اشتراكيا تٌحترم فيه حرية الأديان كقيم فردية مصانة. ذلك أن الانسجام الذي تحدث عنه الحكيم لا يمكن ان يتحقق بالعصا والجزرة فالقهر والمال السياسي لا يمكن أن يحقق غير العبودية، وبالتالي فإن الانسجام المقصود يتم عبر تفاعل ديمقراطي اشتراكي مع البيئة الثقافية السائدة في المجتمع.

أما المشعل الثاني الذي أنار فيه الحكيم درب المقاومة الفلسطينية فهو ما قاله في خطابه في 17/12/1973 حين قال عن مؤتمر جنيف ” لا نتحدث اليوم عن مفاوضات او مساومات قد تضطر لها أي ثورة، وانما نتحدث عن  المفاوضات في مؤتمر جنيف ، إن هذه المفاوضات في ظل ميزان القوى المختل حاليا لصالح العدو الصهيوني لن تنتج اذا وافق العدو الصهيوني على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة …. إلا اعترافا باسرائيل في حدود آمنه وحراسا من القوى المشاركة فيه على أمنها”. ليس هذا الموقف ناجما عن علم الحكيم بالغيب بل هو نتاج تشغيل التفكير العلمي بعيدا عن التمنيات والشطحات، ولذلك وجدنا هذه النتيجة وأخطر منها في مفاوضات أوسلو في ظل ميزان قوى اعمق واكثر اختلالا لصالح الكيان الصهيوني. والحقيقه أنه من المستغرب بل والمستهجن ان تدخل القيادة الرسمية الفلسطينية مفاوضات أوسلو رغم الوضوح الموضوعي في مقولة الحكيم قبل اوسلو بحوالي عشرين عاما . وباختصار فإن المطلوب وفقا لذلك وبعد ما دمرته أوسلو من الطاقات الفلسطينية والعربية المقاومة للكيان الصهيوني، وما انتجته من حراسات فلسطينية وعربية للكيان الصهيوني ، هو على الأقل وقف الجانب الفلسطيني المفاوضات مع الكيان الصهيوني وسحب اعترافه ب ” اسرائيل” واعتماد المقاطعة BDS  نهجا فلسطينيا معتمدا للدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني يلتزم به الأمير قبل الفقير.

وفي المشعل الثالث الذي اشعله الحكيم يقول ” قد نخسر الجبهة العسكرية والجبهة السياسية, ولكن لا يجوز أن نخسر الجبهة الثقافية.” هذه المقولة  تشكل اساسا لحياة المؤنسنين في الأرض في كفاحهم ضد القهر الاستعماري، وهي من ألزم لزوميات هذه المرحلة في المسيرة الفلسطينية والعربية، فالشعوب المقهوره التي تفيض وعيا بقهرها من قبل الامبريالية العالمية، عليها ان تتسلح بوعي ثقافي عميق ومتناغم مع ايمانها بعدالة قضيتها. وتزداد اهمية هذا الوعي الثقافي للشعوب المقهورة مع تراجع قدرتها العسكرية والسياسية في مواجهة أعدائها، وهذا الحال ينطبق تماما على الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة. وفي هذا الخصوص لا يجوز  للشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى أن تخسر جبهتها الثقافية القائمة على العدل وحقها في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعدالة الاجتماعية والمساواة لصالح الثقافة الاستعمارية العنصرية التي جمَّلت الوجه القبيح للامبريالية. وهذا يقودنا الى ما نسمعه اليوم من انهزامية ثقافية طالت بعض تجار القلم والموت من اجل دولارات مسمومة بهدف استدخال الهزيمة الى الذات الفلسطينية والعربية. تفيد دروس التاريخ الانساني الحديث أنه رغم الطغيان الامبريالي فإن ثقافة ووعي الأنسنة دفاعا عن حقوق المقهورين تزداد يوما بعد اليوم، وان دعاة الانهزامية وان ارتفعت أصواتهم لدي هذه الحكومة او تلك، ولدي تجار القلم وخاصة في مجال التطبيع مع العدو الصهيوني ، هم اضعف من أن يواجهوا الحركة الثقافية التحررية اللهم الا اذا فقدنا بوصلة الوعي الثقافي في الأجيال القادمة وهو ما يمكن أن يؤدي الى هزيمة استراتيجية في الصراع العرب الفلسطيني/ الصهيوني، وعلى ذلك يصبح تعزيز الثقافة الوطنية العربية في جميع الأقطار العربية في مواجهة التطبيع قاعدة اساسية للانطلاق الى اعادة بناء القدرات الفلسطينية والعربية للمواجهة الحاسمة مع الاستعمار الصهيوامبريالي.

أكاديمي ومستشار اقتصادي قانوني/ نابلس / فلسطين المحتلة