في تعزية محظرة اتويمرات وهل فحف

جمعة, 07/20/2018 - 23:27

في تعزية محظرة اتويمرات وأهل فحف
الرحلة المطوية لما يندب من التعزية
تلاميذ محظرة اتويمرات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، هذه رحلة مطوية لما يندب من التعزية موجبها الخطب الجلل، والله يعصم كاتبها من الخطأ والزلل.
صحبة شيخ محظرة الشلخة ـــ بداخلت انواذيب ـــ عبد الرحمن ولد حمدي ولد ابن عمر في أواسط ربيع الثاني سنة 1433هـ كانت الرحلة إلى محظرة اتويمرات وفقيد الأمة العالم الزاهد الورع المرابط الحاج فحف حيث التقوى يتجلى بأسمى معانيه.
كنت متشوقا لزيارة الفقيد ومحظرته منذ زمن بعيد، وبعد التنسيق مع الشيخ عبد الرحمن وقبل أن ننطلق من نواكشوط بأسبوع تواصلنا عن طريق الهاتف مع الشيخ ولد محمد الأمين ولد إمو ــ شيخ محظرة قرية كيفه التابعة لبلدية كامور ــ لأن أهل مكة أدرى بشعابها كما أن أي زيارة لتلك المنطقة لا تبدأ به فهي خداش بالنسبة لنا، وفي يوم السفر تواصلنا معه أيضا فزودنا بإرشادات عامة ووعدنا بلقط شروط الشح عند ما نصل إلى قرية كَيْفَه فبدأنا الرحلة من نواكشوط في حدود منتصف النهار ولم نتوقف إلا وقت صلاة العصر في مدينة صكرافه ثم واصلنا السير بعد ذلك وعند تمام العاشرة ليلا تقريبا وصلنا قرية كيفه ووجدنا الشيخ ولد إمو على جانب طريق الأمل ينتظرنا فبتنا هناك عنده ليلة مليئة بالبشر والسرور والجفان المكللة باللحوم والتمور، فلما كان من الغد وأذن مؤذن العصر انطلقنا من كيفه لمدينة كرو (قيروان الصحراء) فوصلناها في ربع ساعة وانتظرنا حتى تضيفت الشمس للغروب خرجنا منها في سيارة من نوع لاندكروزر ميممين شطر (توميرات) ـــ بصيغة الجمع المُشَمِّ رائحة التصغير العامي واحدتها تامورت وهي الأرض التي يكثر فيها الشجر المسمى بآمور الذي توصف صغاره بأنها تشبه السلم ـــ وكنا كلما اقتربنا أكثر منها تضافرت قنن الجبال وتلاشت كثبان الرمال إلى أن وصلنا بعد صلاة العشاء فأضافنا قوم من التلاميذ ــ وهو أمر ما غاب عنه الشيخ ولد إمو ولا حضره ــ (لهم شرف العلى من حِمْيَرٍ)
1. يخوضون في كل العلوم بفهمهـم فــهــذا بــذا أدرى وذاك بــذا أدرى
2. فـمن كاتـب قـفا طويلا وكـاتــب عـلـوم أصول الـدين يـجـعـله ذخـرا
3. ومن معرب يرمي فيعرب كلمـة من البيت إذ يرمي ويسقط في الأخرى
4. فمن قائل تلك اسم كان أو اسـم لا ومن قائل تـلك اخـتـصاص وذا إغرا
5. ومن قائـل تـلك اسـم فعل وقـائـل لـقـد حـاز هـذا بـالـمجـاورة الـجـرا
6. ومن كـاتـب عـلم البـيان ومقـرئ لكاتـبـه الإنـشاء والحـذف والقصرا
7. ومن قارئ عـلم الـبـديـع ومظهـر لـقارئـه التـدبـيـج واللـف والـنأشـرا
8. ومن كاتب عكس النقـيض موضحا لكـيفـية الصغـرى وكمـية الكـبـرى
9. ومن جائـب عـيشا كثيـرا لقـومـه ومـن جائب لحما ومن جائـب تمرا.
بتنا مع أولئك الفتية ليلة هادئة ننتظر بشغف انجلاء الليل حتى كان الصباح وأشرقت الأرض بنور ربها بعثنا رائدا لمنزل المرابط الحاج يتحسس الوقت المناسب للسلام والكلام معه، وفي وقت يسير رد بالإيجاب فأسرعنا متوجهين إليه في العريش حيث الساعة تشير إلى تمام التاسعة صباحا فلما دخلنا رأينا شيخا ضميره التقوى وشعاره البر ولباسه السكينة، رأينا إمام هدى على ملة الإسلام ينطق الحكمة ويأمر بالمعروف؛ قربنا وأدنى مجلسنا ثم أمر الحاضرين من أهل بيته أن يقوموا بواجب القرى وبعد ذلك دعا لنا بكلمات جامعة صالحة ما أحب أن لي بها حمر النعم لأن شنا وافق بها طبقة فلم يعدُ المرابط في دعائه ما تعلق بها البال وشدت له الرحال، حينها شعرت بأننا دخلنا قبة ذي الأعواد.
يخالق بالجميل الخلق طرا وهو مع الجليل الفرد خال
ثم بعد ذلك جلس معنا سبطه عبد الله بن المرابط أحمد فال ابن أحمدنا ودار بيننا وبينه حديث كامل مقتضب، ينبئ عن معرفته بأخلاق وعادات العرب، ومن خلال ذلك الحديث
تعرف فيه من أبيه شمائلا ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
ثم انتقلنا للسلام على المرابط حدمين فاستقبلنا استقبالا عنه حدث ولا حرج؛ فهو مرابطي يعلوه الوقار والهيبة الممزوجان بالتواضع ودماثة الأخلاق ولين العريكة وإفشاء السلام وإطعام الطعام وصلاة الليل والناس نيام.
كانت مُحادثة الرُّكبانِ تُخبرُنَا عنْ عامر بن فلاح أحسن الخبرِ
ثمّ التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وقد خصنا طيلة ليالي الزيارة ــ بعد صلاة العشاء حين يفرغ من تدريس التلاميذ والواجبات اليومية ــ بجلسات يسألنا فيها عن أحوال العلماء وشيوخ المحاظر في المناطق التي أقبلنا منها ونسأله عن رأيه في بعض النوازل وفتاوى العلماء فيجيب ولسان حاله يقول:
ولك أن تسأل للتثبت عن مأخذ المسؤول لا التعنت
ثم عليَّ غاية البيــان إن لـــم يكـن عـذر بالاكتنـان
عرض عليه الشيخ عبد الرحمن ولد ابن عمر بحثان أحدهما معنون بـ "دعابة عمر" أما الآخر فمعنون بــ "محاورة صب مستمال حول نازلة مقابر الشمال" فحظي البحثان بعد مناقشة لمحتوى الآراء الواردة فيهما بإعجاب من المرابط حدمين حيث قام بكتابة تسليم على " محاورة صب مستمال..." ولا غرابة في ذلك فــ (كل إناء بالذي فيه يرشح).
أما كاتب الرحلة فقد اكتفى بعرض ما علق بذاكرته من أنظام في العقيدة للقاضي محمد بن محمذ فال ابن أغربط حيث استمع المرابط حدمين لها بعناية فائقة فنالت إعجابا وتسليما شفهيا منه كما طلب إرسال نسخ منها على وجه السرعة إليه، وقد تخلل عرض تلك الأنظام أحاديث في الفقه والمقرإ والأنساب والتاريخ والوقائع أيام الاستعمار الفرنسي لربوع الوطن؛ وأذكر من تلك الأحاديث على وجه التحديد كيفية النطق بالجيم الشديدة المنفتحة، والإشالة والاستطالة في الضاد وإبدال الهمزة هاء، وما يترب على اللحن الجلي ــ الذي يستوي في معرفته الذكي والغبي ــ من صحة وفساد بالنسبة للمصلي والتالي؛ أما الحديث عن التاريخ فإنه كان يدور حول "إمارتا إدوعيش ومشظوف" وتناول الشيخ سيدي (باب) لهما في كتابه المسمى بهذا الاسم، ولم يكن عندي شخصيا في كل تلك المواضيع غير ما تلقيته من أفواه بعض الشيوخ الذين درست في محاظرهم، أو ما تعلمته على أحد القضاة في حاضرة الفرات.
وبعد أن قضينا ليال الزيارة تذكرنا أن (تمام الحج أن تقف المطايا..) فقمنا بزيارة المرابط أحمد فال ولد أحمدنا في محظرته بعين الخشبة حيث دخلناها في وقت متأخر من الليل فوجدنا بعض التلامذة محطين به ــ لا أعرف منهم إلا الفتى الألمعي عبد الودود ولد الحسين ولد مزيد وكان يقرأ وقت دخولنا كتابا من الكتب الصفراء ــ فجلسنا حيث انتهى بنا المجلس فلما فرغ التلاميذ من درسهم قمنا وسلمنا على المرابط أحمد فال وهو نسخة طبق أصلها فما تقدم من الحديث عن شيخه المرابط الحاج هنا يعول عليه ويرجع إليه.
كانت مدة تلك الرحلة ستة أيام وخمس ليال وباختصار شديد كانت رحلة خالية من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب، التقيت فيها بعلماء كبار منهم ابن عمي القاضي أحمد ولد محمد مولود (أهل عبدُ) و الشيخ الناسك سيد محمد ولد الطالب اعل وفتية من بني جاكان لا تحضرني الآن أسماؤهم الكاملة كما رأيت فيها لأول مرة بعض مدن الوطن كمقطع لحجار و صنكرافة والقايرة وكامور وكرو؛ كما شاهدت فيها أيضا ربوة "التومية" التي تقع غرب مقطع لحجار بــ 7 كلم، حيث يوجد هناك ضريح كافل الأيتام وواصل الأرحام جدي محمذ فال (الأول) ولد أغربط في تلك المقبرة التي يوجد بها مزار الشيخ سيد محمد ولد إمنِّي الذي يؤثر عنه أنه كان يقول "نحن قوم شغلنا إصلاح أفئدتنا عن التأليف" إنها رحلة ستبقى خالدة في ثنايا الذاكرة وسأقوم بإخراج ما أجملته هنا من حيز الإشكال إلى التجلي فأعرف بكل من لقيناه فيها إما بالاسم أو بالرسم فأنشر ما طويت وأذكر ما نسيت مما دُوِّنَ في مذكرات تعذر الحصول عليها في الوقت الحاضر، وسأصرف القول لما قصدته من التعزية فأقول :
تلاميذ محظرة اتويمرات وأخص بالذكر: الشيخ ولد إمو؛ والأستاذ يحيى ولد الطالب زيدان؛ والأستاذ محمد فال ولد الصيام؛ والأستاذ محمد ولد حمنِّ؛ لقد أصابنا من الحزن والأسى ما أصابكم؛ ولكن "في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت فبالله فثقوا، وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب " وفي هذا المقام أود منكم نقل أخلص التعازي وأصدق مشاعر المواساة للمرابط حدمين ولجميع تلاميذ محظرة اتويمرات وأفراد تلك الأسرة الكريمة.
أسأل الله أن يلهمنا جميعا الصبر؛ وأن ينزل على ضريح المرابط شآبيب رحمته، وسحائب مغفرته.
أرْسَى النّسيمُ بِوَاديكُمْ وَلا بَرِحَتْ حوامل المزن في أجداثكم تضع
وَلا يَزَالُ جَنِينُ النّبْتِ تُرْضِعُهُ على قبوركم الهتانة الهمع
هَلْ تَعلَمُونَ عَلى نَأيِ الدّيَارِ بكم أنّ الضّمِيرَ إليكُمْ شَيّقٌ وَلِعُ؟
لكم على الدهر من أكبادنا شعل مِنَ الغَليلِ، وَمن آماقِنا دُفَعُ
لواعج أفصحت عنها الدموع وقد كادَتْ تَجُمجمُها الأحشاءُ وَالضِّلَعُ
أنزَفْتُ دَمْعيَ حَتّى مَا تَرَكْتُ لَهُ غَرْباً يَفيضُ عَلى رُزْءٍ، إذا يَقَعُ
ثم اضطررت إلى صبري فعدت به وَأعرَبَ الصّبرُ لمّا أعجَمَ الجَزَعُ
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون
"اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده".
كتبه ليلة السبت 8 ذي القعدة 1439 هــ موافق 20 يوليو 2018 م
عبد الله بن أبوبكر بن محمذ فال ابن أغربط. كان الله لهم وليا ونصيرا آمين