زرت الموصل.. واليكم شهادتي عن يوم القيامة فيها

أحد, 06/24/2018 - 09:56

البرفسور ياس خضير البياتي

لاتحدثني عن طائفتي وقوميتي وديانتي ،عندما اكتب عن مدينة موصلية عراقية ،ابيدت عن آخرها ،وبقيت مجرد أنقاض وذكرى ومواقف تشهد على فعل فاعل حاقد مع سبق الاصرار،وعلى بربرية لامثيل لها في التاريخ ،وحقد شعوبي مستورد ،وديانة مبتكرة لتشويه اصل الدين ، هي حكاية طويلة ليس لها زمن محدد،فهي تمتد لقرون واعوام وأشهر من الحقد والتآمروالتدمير والموت.نعم لاتحدثني عن اسم عشيرتي وطائفتي وقوميتي لانني اكتب عنها بهويتي العراقية الوحيدة ،مثلما افعل مع البصرة والعمارة وبابل والانبار وديالى وصلاح الدين واربيل ،وباقي المدن العراقية،واذا قيل لي ماهو خيارك الأوحد:سأقول عراق ..ليس سوى العراق .

واذا كان هناك من هو مهووس بالطائفية ،وبالاموات التي يحكمون عقولنا ومصائرنا،ومصدر موتنا وأقتتالنا وتخلفنا ،فأنني خارج هذه التغطية الجاهلية التي تفرق بين مدننا وانساننا،وتحاول رفع الخيمة العراقية من على رؤوسنا لتكون قادرة على اصابتنا بقذائف الطائفية ،وتقسيمنا الى مذاهب وطوائف وعشائر وقوميات ،ليصبح العراق هامشا بلا لون وطعم ،وخارج العقل والوجدان!

مهما كان الوصف والصور من خارج القيامة الكبيرة للموصل ، فلن تكن موضوعيا وشاهدا حقيقيا ، الا وان تكن في وسط نارها وسحبها السوداء وانين الناس الاحياء والاموات ،واحلامهم  البسيطة . كنت أصرخ من بعيد كلاما على الورق ، واحتجاجا لااجد الا صداه يرجع كسراب ليس له معنى ،وكان السياب صادقا في حنينه للوطن: صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق كالمدّ يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون،الريح تصرخ بي عراق،لذلك كان القرار صعبا أن اقطع الاف الاميال من اجل (عمرة )احج فيها فقراء بلادي ،واتقاسم معهم بلاءهم ودمارهم وموتهم وعشقهم واحلامهم ،واكون شاهدا لقيامتهم الكبيرة يوم عرفاء والعيد .

لاتقل لي كيف كانت الموصل ،ناسها ونهرها وشوراعها وأحياءها ومبانيها ،لانني لم ارى الا مدينة أخرى لاتشبهها تاريخا ،مدينة اشباه ازيلت عنها كل مقومات الحياة ، وسلبت منها تاريخها ،وطمست معالمها الحضارية ،وأختفت (ام الربيعين) الواقع والحلم ،لتظهر على أنقاضها أحياء مدمرة بالكامل مع ساكنيها ،وشوراع متهالكة ،وتلال من أكداس النفايات ،وروائح لجثث مازالت تحت الانقاض ، ونسمات لهواء مثقل بروائح المجاري والسواقي ، ومع ذلك تجد صور لقادة ميليشيات وأحزاب ، ومرشحين للأنتخابات ،ورايات سود وخضر وصفر ، يتنافسون بلا خجل ويتابهون على مدينة أنقاض بلا حياة ،وشعارهم العراق يتقدم..!!

لكن الجانب الآخر المضيئ في حياة هذه المدينة المدمرة التي لن انساها ،ان ناسها يتألقون في ابداع اعادة الحياة لمدينتهم وأحياءهم ومدارسهم وجامعاتهم بطريقة تسر القلب ،بعيدا عن الدولة المشغولة بتوزيع حصص احزابها ،وتقاسم النفوذ والمال ،وتقزيم الحصص التمونية ورواتب العباد .لقد تاسست في هذه المدينة بعد هذه القيامة الكبيرة قواعد سلوك جديدة للموصلي العراقي ،هو التلاحم الاجتماعي الذي قل نظيره ،فقد برزت بقوة (نكران الذات ) ،وارتفع منسوب ( التضامن الاجتماعي ) الى اعلى مستوى ،وشاعت ثقافة (التطوع ) بين الشباب بين الاحياء والمدينة ،وابدع الناس في ابتكار صناعة الوجود ،حتى لتشعر أن هناك مدنا جديدة ستظهر بعد الانقاض ، وان حياة جديدة ستبزغ من بين هذه المأسأة .وهذا هو تاريخ العراق ، وتاريخ الموصل . ما زلنا هنا وما زلنا أحياء!

وقيل من يريد تعلم الحياة ، عليه ان يقرأ التاريخ، فالموصل تختلف عن مدن عربية اخرى في تسمياتها العديدة ، فهي (الموصل) لأنها كانت توصل بين الشام وخورستان يعني بلاد الشمس بالكردية التي فتحها العرب المسلمين من بعد. وهي (الحدباء) لأن فيها منارة للمسجد الكبير وهي منارة منحنية وأيضا لتحدب مسار نهر دجلة فيها ،وهي( أم الربيعين) لأن الخالق عز وجل وهبها ربيعين إثنين في السنة فخريفها هو الربيع الثاني والزاهي بعذوبة هواءه. ومنذ ان كانت الموصل قرية زراعية في الالف الخامس من قبل الميلاد ، وسكنها الاشوريون ،ثم سقوطها بيد الكلدانيين ،ودخول المسلمون لها عام 643،ثم حكمها السلاجقة 1096،ودخول المغول عام 1262،حيث قتلوا معظم أهلها ، وهدموا أكثر من نصف مبانيها ، ثم الصفويين الذي لم يدم طويلا، وحصارهم لمدينة الموصل، وصمود المدينة وسورها ضد مدافع الصفويين وانكسار الحملة عام 1743م بانتصار أهل الموصل ، وأخيرا احتلال العثمانيون عام 1535 .لم تسلم من الحصار والحروب والتدمير ،لكنها خرجت بأمتياز أكثرقوة وارادة على حب الحياة ،وأستنهاض مجدها عبر انسانها العصامي الكادح والمثقف والعالم والمبتكر والعسكري.

اما (المدينة القديمة ) في الموصل ،فأنها تحمل عبق التاريخ ، حيث يبدو الطراز المعماري  التاريخي  هو الطاغي ، فهناك بيوت من الحجر والجس ، وشوارع ضيقة ذات كثافة سكانية  عالية تقطنها قبائل عربية معروفة ، وبيوتات موصلية عريقة،وكانت قبل قرن من اليوم هي مدينة الموصل وتمتد داخل سور الموصل التاريخي الذي يعود بنائه الأولي الى سنة 699 م،وقد هدم السور أكثر من مرة ، وجعله الصفويين اداة حصار قاتلة لأهلها بحملة الشاه الصفوي نادر شاه،لكن السور لم يصمد امام تحديث وعصرنة الحياة ، حيث قررت بلدية الموصل ازالته على مراحل متعاقبة ابتداء من القرن العشرين،مع بقاء الاحياء على نسقها التاريخي القديم ،وبشوارع جديدة ابرزها شارع (فاروق )الي يخترق قلب المدينة القديمة ويوصل الى ابرز معالم المدينة الاثرية جامع النوري الكبير ومنارة الحدباء الشهيرة .اما اليوم فلا تقل لي ان هناك مدينة اسمها ( المدينة القديمة)،انها مجرد تاريخ من الماضي،وقصص حب قديمة،ومورثوات شعبية زائلة ،ومآذن وكنائس مهدمة ،واطفال يبتسمون للحزن ،وامهات صابرات يحلمن بعودة ابناءهم الاحياء والاموات على السواء . مدينة انقاض تزدحم بذكريات الاباء والاجداد ،وتنتظر حلم التاريخ والانسان والنهر.

 لم يتبقى من هذه المدينة الا شهادات متأخرة من قيامة الموصل القديمة ،فالاهالي قالوا:لسنا من قبيلة (داعش) كما يقول البعض ،انما ارغمنا على العيش معهم تحت حراب السلاح الابيض ،وقطع الرؤوس، وتعليقنا على اعمد الكهرباء لعدة ايام،وأبادتنا بالقهر والذل .كما لم نكن حاضنة لهم ،فقد جاءوا من خارج الحدود بالمئات القليلة ،ودخلوا الموصل وفيها فرق الجيش والشرطة واسلحتهم الحديثة ،ومع ذلك تم اقتحامها بساعات قليلة ،وكأن امرا كان معدا له من حكومة المالكي .كما لم نكن من (الدواعش) التي تم رفعهم بطائرات امريكية خاصة اثناء القتال والحصار امام ناظرينا وتركونا لوحدنا، بل كنا جبهة امامية لرفد الجيش بالمعلومات عن تواجد وتحركات (الدواعش) ، حتى ان البعض تم نحرهم لانهم تم اكتشافهم . لقد رأينا صور رائعة لبطولات الجيش وشجاعة الشباب الذي امتزجت دماءهم بدماء أبناء الموصل ،وانسانيتهم في تقديم العون للعوائل بطريقة رائعة تصل الى حد التضحيات بأنفسهم ،بالمقابل وجدت من انتقد طريقة الخطة العسكرية وطريقة الاقتحام ،وتذكر احد القادة العسكريون القدماء المشارك في معركة المحمرة وتحريرها ، وطريقة الجيش في أقتحامها من بيت للبيت دون ان يكون هناك تضحيات في البشر والعمران ،وأردف مستغربا : ان الحرب على المدينة القديمة كانت تعتمد على سرعة الحسم على حساب ارواح الناس وممتلكاتهم !

وقالت لي  انجليا جولي الممثلة العالمية سفيرة النوايا الحسنة التي تزامن وجودي معها ،بأنها تشعر بالخجل والمهانة كانسانة  ان ترى هذه الصور الرهيبة والمفزعة  من صنع البشر،وهذه السادية الوحشية التي تتلذ بتخريب وتدمير الحياة ،مستغربة من وجودي الشخصي فقط ، ومعلقة بأن ما شاهدته يصلح ان يكون مزارا للحكومات والمنظمات والافراد ليكون شاهدا على بربرية من فعل بهذه المدينة التراثية من اقتلاع لجذورها التريخية !مثلما انا شخصيا مستغربا أن لاتكون هذه (القيامة) موضوعا انسانيا للكتاب والادباء والفنانين في اعمالهم ،وان تكون لطلبة المدارس والجمعات درسا  عمليا بليغا لتحصينهم من التطرف والارهاب،وحب الحياة ،وشهادة حية للتاريخ الذي يقول لنا دائما :أقرأوا مني وتعلموا الدرس الجديد.

ام اننا مازلنا أمة تنسى احداث التاريخ الكبيرة ،ونتلذذ بالدم الذي نشاهده يوميا ،ولم يعد لدينا مناعة  الحياة والمقاومة والتذكر ،وكأننا اصبحنا نردد مع محمود درويش :ايها الاحياء تحت الارض عودوا فأن الناس فوق الارض قد ماتوا !

كاتب واعلامي عراقي

      yaaas@hotmail.com