العدالة الكلية / بقلم: أحمد يعقوب أحمد بزيد

أحد, 04/19/2015 - 23:52

نجحت النظم التشريعية والقضائية في معظم دول العالم نجاحا كبيرا في البت في النزاعات وإيصال الحقوق إلى مستحقيها عندما تكون المشاكل شخصية أو شبه شخصية، لكنها فشلت فشلا ذريعا في انتزاع الحق من مغتصبيه وإعادته لأصحابه عندما تكون النزاعات بين جماهير وطوائف وأعراق وجهات وطبقات ومجموعات ومؤسسات مختلفة داخل المجتمع،وهذا ما يفسر لنا عجز القضاء التقليدي عن تحقيق العدالة الكاملة بين المتنازعين والمتحاربين في المجتمعات التي شهدت نوعا من الانقسام والحروب الأهلية.

 

ومن المثير للاستغراب أن تكيّف تهم أنظمة ومؤسسات وجماعات كانت قد عاثت في الأرض فسادا وأهلكت الحرث والنسل بأفعال جزئية شخصية قاصرة كإهدار أحد عناصرها للمياه، وحصول أحد مسؤوليها على هدية أو تذكار من قبل شخص هنا أو هناك. وأغرب من ذلك التعامل مع تصرفات ملايين الجماهير الغاضبة بطريقة انتقائية لا تنظر للأسباب التي جمعتهم، ولا للدوافع التي جعلتهم يتصرفون بهذه الطريقة أو تلك، فتكيف تهمة لاثنين أو ثلاثة منهم بكسر جرة أو تحطيم زجاج سيارة كانت في الجانب الخطأ من التاريخ.

 

 والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى أن النظريات القانونية الحديثة قد صيغت متأثرة -في الغالب- بالفلسفة الليبرالية الأحادية، والمؤسسات القضائيةالمعاصرة قد بنيت من الأساس على نظام فردي متأثر هو أيضا بالوضع السياسي والاجتماعي المستقر نسبيا في الدول الغربية، ومن ثم فإنه يتعامل مع سلوك الناسفرادى، بعد أن حسمت معظم النزاعات الجمعية بالتجارب الديمقراطية التي رسخت على مر التاريخ، ولم يبن النظام من أجل التعامل مع النزاعات الجماهيرية المصيرية التي لا تزال قائمة في كثير من البلدان العربية والإسلامية كالنزاع على الهوية والتاريخ واللغة والدين والمذهب والنظام.

 

وربما كان أيضا من الأسباب وراء ذلك انبناء النظم القضائية المعاصرة على مسلمات صارت مقدسة مع الأيام، مثل مبدأ شخصية العقاب، الذي غلا فيه بعض الفقهاء والحقوقيين المعاصرين غلوا أدى ويؤدي إلى إفلات آلاف المجرمين من العقاب، وأصبح الاتهام بنقيضه وهو العقاب الجماعي تهمة من أمهات التهم الكبرىكفيلة بإدانة أيدولة أو أمة تمارس هذا النوع العقاب على أمة أو فئة أخرى من المجتمع.

 

نعم هي كذلك، لكن بشرط ألا يكون ذلك العقاب لمن لا يستحق ممن لا يملك حق العقاب، وإذا لم يكن الأمر كذلك، بأن كانت ممن يملك لمن يستحق، فلم لا يكون العقاب جماعيا إذا كانت الجريمة جماعية؟

 

 ثم أطل علينا في عصر التقنين مبدأ آخر لا يقل أهمية وحسما وأصبح مسلما به في العقاب على القضايا الجنائية ألا وهو اشتراط النص الصريح على التجريم والعقاب، وقد أصبح هو أيضا ملاذا آمنا لمخترعي الجرائم والمتهربين من سلطان القوانين، لأن المجرمين كما يقول علماء الإجرام دائما متقدمون على المشرعين بخطوة واحدة على الأقل، ولا نجد في الغالب نصا على تجريم فعل إلا بعد ارتكاب تلك الجريمة عدة مرات في أرض الواقع. فإلى متى يظل المشرع تابعا ويظل المجرمون الأوائل خارج دائرة العقاب؟

 

صحيح أن هذين المبدأين رسخا على مر التاريخ، وأثبتهما العقل والشرع، وفيهما ضمانات ضرورية قد تكون مبالغا فيها لحقوق المتهمين، ولا يمكن أن يدعو داع إلى تجاوزهما على سبيل الإطلاق، وكل ما ندعو إليه إنما هو إعادة تعريف الشخصية المسؤولة عن الفعل في القانون، وتمييز الشخصية الفردية عن الشخصية الجماهيرية، وإلى توسيع مفهوم النص على العقاب ليشمل مقاصد الشريعة، والأعراف الراسخة، والمبادئ الثابتة، والإرادة العامة للأمة التي يفترض أنها تفوق جميع النصوص القانونية.

 

هذا القصور القانوني والقضائي الذي أدى إلى مساواة تصرفات الأفراد بتصرفات المجموعات نراه في الوقت الذي أجمع فيه علماء النفس والاجتماع على أن قواعد علم نفس وسلوك المنظمات والجماهير تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي تحكم نفس وسلوك الأفراد؛ فالفرد يتصرف بإرادة واحدة بسيطة وغير مركبة، والمؤسسات يعبر عن إرادتها العامة من خلال نظمها وأعرافها السائدة، والجماهير تتصرف بإرادة معقدة ومركبة من كثير من المشاعر والإرادات، ومن جهة أخرى فإن الفرد يعرف بالضبط ما ذا يريد من خير أو شر، والمؤسسات التي تخضع للتراتبية قد لا يعرف جميع منتسبيها ما ذا تريد، وأما الجماهير فكثيرا ما يغيب عن وعي أفرادها ما ذا تريد بالتحديد، لأنها تتصرف بإرادتها العامة التي هي مستلقة بشكل تام عن إرادة الأفراد الذين يشكلون الجمهور.

 

ولعل أهم وأخطر صفات الجماهير أنها تنصهر جميعا في شخصية معنوية واحدة يفقد فيها الأفراد خصائصهم الذاتية، حتى إن غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجيا الجماهير يرى –بحق-أن خصائص الجماهير تختلف بشكل جذري عن صفات الأفراد، وأن الفرد الخاضع الجبان وهو حده، يتحول إلى شخص آخر مغامر متهور لا يهتم بالحسابات ولا ينظر للعواقب إذا كان ضمن جمهور عام، فالجماهير عندما تتشكل لا تخضع لقانون غير قانونها الخاص، ولا تأتمر بأمر آمر ولا تنتهي بنهي ناه، ولا تخضع تصرفاتها لقوانين المجتمع المتغيرة ولا لقوانين الطبيعة الثابتة.

 

ولذا فإنه عندما يتعلق الأمر بانشطار في المجتمع، أو بغي فئة منه عليه لا يمكن أن يوكل فض النزاع إلى قاض جالس عرضة للانحياز، ولا إلى مؤسسة قضائية معرضة هي أيضا للانشطار والانقسام الذي وقع فيه المجتمع، وإنما تجتمع كل الصلاحية بيد الأمة والمجتمع أو في أيدي أهل الحق منه ليتصرفوا به بالطريقة المباشرة، أو يكلوه إلى من ينوب عنهم باتفاقهم واختيارهم أو بأي طريقة يرونها تناسب الزمان والمكان وتحقق العدل المطلق.

 

ومن تدبر آي القرآن الكريم وأحكام الشرع يرى بوضوح الفرق بين الحكم على الأفراد والحكم على المجموعات، فهناك فروق كثيرة في الصيغ والأحكام بين قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ..الآية) فالأولى تتحدث عن الفردبصيغة المفرد، والثانية تتحدث عن المجموع بصيغة الجمع، والأولى جزئية محكوم فيها على شخص واحد، والثانية كلية محكوم فيها على المجموع من حيث هو مجموع.

 

ورغم عظم جناية هذا المجموع المعروف في اصطلاح الفقهاء بالمحاربين فقد خص القرآن الكريم أهله بقبول التوبة منهم قبل التمكن منهم، مع أن وصفهم بالحرابة يفترض علمه من القاضي والحاكم ومن عامة الناس، بخلاف غيرهم من المجرمين الفرادى الذي لا تقبل توبتهم بعد وصول أمرهم للقضاء.

 

ولما أمر القرآن الأمة بالإصلاح بين المقتتلين وإلى نصرة المظلوم وردع الظالم كان كل ذلك بالنظر إلى كلية المجتمع وكلية الطائفتين المتقاتلتين: قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.. الآية). وعندما تفرق المسلمون فريقين في عهد الصحابة وجدوا أمامهم الخبر النبوي بأن إحداهما طائفة عدل والأخرى طائفة بغي، ولكل واحدة ما لها وما عليها من أحكام منوطة بالتوصيف الكلي لكلتا الفئتين.

وأكد ذلك الفقه فيما بعد بإعفاء الطرفين من المسؤولية الجنائية والمدنية في حال قتال البغاة، من أي تعويض عن مال أو نفس كانوا قد أتلفوه خلال مواجهتهم، ويعلل الفقهاء ذلك بالتأول، والترغيب في التوبة ويمكن أن يزاد مع هاتين العلتين طبيعة المواجهة العامة وصعوبة تحديد المسؤول بشكل محدد.

 

إن أفعال الجماهير أشبه ما تكون بتغيرات الطبيعة والظواهر الكونية الغريبة؛ فبركان أيسلندا الذي شل حركة الطيران العالمي في أسبوع أعياد الميلاد منذ عدة سنوات لم يستشر خبيرا، ولم يستفت فقيها، ولم يخبر أحدا بانفجاره ولا بموعده، بل فاجأ الجميع دون سابق إخبار ولا إنذار.

 

والتقلبات العفوية التي عرفتها البشرية على مر تاريخها مارست نفس السلوك، وجاءت نتيجة لضغط هائل من الظلم والاضطهاد المنصهر تحت طبقات النفس البشرية ليصل إلى مرحلة يقول فيها للجميع بلغة الجماهير: هذه هي النهاية.

 

ومن الخطأ الفادح الحكم عليها بشكل قبلي وإن جاز الحكم عليها بشكل بعدي تحليلي بعيدا عن فرض رأي أو حكم على ظواهر الطبيعة الاجتماعية التي لا تعرف الاختيار.

 

وإذا لم تنجح الأمة في بناء نظام قضائي مواز للنظام التقليدي مخصص للبت في النزاعات الكلية التي نشهد بعضها اليوم، فلن يبقى أمام الأمة إلا واحد من ثلاث خيارات، إما يعاقب الكل باسم العنف الثوري والعدالة الاستثنائية، وحينها سنكون أمام عدالة انتقامية ظالمة، وإما أن يعاقب البعض دون البعض أمام المنظومة التقليدية نفسها بشكلها وموضوعها، ووقتها ستكون العدالة انتقائية قاصرة، وإما يعفو الكل عن الكل وهذا مقام يصبو إليه كل حليم لكن لم ينجح بالفعل إلا في جنوب إفريقيا لسبب يصعب أن يتكرر ألا وهو سحر مانديلا الأسود.