الارهاب في فرنسا: التطرف لن يولد الا تطرفا / وفاصندي

جمعة, 01/09/2015 - 20:35

في عملية ارهابية اعتبرت الاشد دموية في فرنسا منذ 40 عاما، استهدف ثلاثة مسلحين ملثمين برشاشات أوتوماتيكية  مقر صحيفة “شارلي ايبدو” الساخرة، التي سبق وان نشرت رسما مسيئا لشخص الرسول الكريم، وأطلقوا النيران بشكل عشوائي على المتواجدين مما اسفر عن مقتل عشر صحفيين واثنين من رجال الشرطة واصابة عشرين اخرين، فيما جاء الرد من الجانب الفرنسي سريعا مع توالي عدد من حوادث الاعتداءات على مسلمين وقاعات للصلاة بعدد من المناطق الفرنسية، لتتوسع بذلك دائرة ردود الافعال وتتوسع معها اكثر منظومة التطرف والتطرف المضاد، وتكبر كرة الثلج بين الحضارات التي باتت تعيش صراعات متفاقمة في ظل غياب الحوار والبعد عن اعلاء قيم الانسانية مقابل الترويج لخطاب الكراهية، ليصبح صوت التطرف، الذي لا يمثل في أي حال سوى الاقلية وان كانت الاكثر بروزا، هو الاعلى، وتتوارى اصوات الاغلبية المعتدلة الصامتة التي تدفع في كل مرة وزر اخطاء المتطرفين.

العالم يعيش ازمة حقيقية بعدما صار التطرف هو لغة الخطاب ووسيلة التواصل واداة الرد، ومخطئ من يعتقد او يروج الى ان هذا الارهاب هو صناعة اسلامية محضة، بل هو صناعة عالمية الكل شريك في بلورتها وتفاقمها. فعالم تتضارب فيه المصالح، وتكثر فيه الحروب، ويستقوي فيه القوي على الضعيف، وتغيب فيه العدالة، ويستشري فيه العنف، وتختلط المفاهيم، وتضيع القيم الانسانية، ويحل الكره بدل التسامح والتعايش.. لا يمكن الا ان ينتج نماذج مختلفة من التطرف التي تقود بالنهاية الى الارهاب السلوكي والارهاب الفكري قبل الارهاب المادي.

فبإسم حق انشاء الدولة، اسرائيل مارست على مدار تاريخها منذ بداية الفكرة مرورا عبر خطوات التأسيس الى القوة التي باتت تشكلها اليوم مثالا للتطرف والارهاب بكل مستوياته بسلوكياتها العدوانية ومخططاتها التوسعية وحملاتها الاستيطانية وسياساتها الإقصائية. وبأسم محاربة الارهاب احتلت امريكا العراق وشتت شعبه بسياستها الطائفية، ووقع الاسلام في شبهة “الارهاب”، وحورب “الارهابيون” في كل مكان، وحورب معهم الاسلام والمسلمون بغير ذنب. وبإسم الديمقراطية تدخلت القوى العظمى في شؤون الدول الضعيفة وشنتت حروبا ضد انظمتها “المستبدة”، وتسببت في القتل والدمار واشاعة الكراهية بين ابناء الوطن الواحد والعداء للمحتل.. وبإسم الحرية يساء للاديان ورموزها. وكل هذه النماذج التي تمثل مظاهر تطرف دول او اشخاص تمخض عنها تطرف وارهاب اخر في الضفة الاخرى. فبأسم نصرة الدين، وبإسم الجهاد تدبر عمليات ارهابية. اضف الى ذلك، ان هناك من يحمل في افكاره فكرة العداء لاسرائيل والكره لامريكا، والغرب عامة، لاسباب يرونها تستحق ان يعادونهم من اجلها، ويعلنوا المقاومة ضدها وضد مخططاتها وتواجدها في المنطقة، او يشنوا عمليات ارهابية ردا على احتلالها او معاداتها، في عقر دارها. لتجد، مرة اخرى، امريكا والغرب في اعلان هذا العداء، او ترجمته الى افعال او استهداف مصالحها، فكرا متطرفا وارهابا جديدا يجب محاربته واستئصاله.

وبعيدا عن جدلية من السباق للعداء والتطرف، ومن خاض اولا حربه الارهابية ضد الاخر، الحقيقة التي لا يمكن ان تحجبها شمس هو اننا نعيش واقعا مؤلما وحلقة مغلقة من التطرف والتطرف المضاد، والارهاب والارهاب المضاد، الانسانية جمعاء وقعت ضحيته. والعالم يدفع ثمن سياساته المتطرفة وارهابه الفكري والثقافي والسلوكي مما يجعلنا امام حرب مفتوحة وخطاب يبث الكراهية اكثر، وصور دم تترجم خلاصة هذه السياسة الفاشلة والفوضى العارمة التي نعيشها كمكون بشري بالاساس.. مما يجعلنا جميعا امام حثمية تغيير هذا الواقع المزري، الذي يجعلنا نعيش في عالم مليء بالاحقاد والضغينة وتبادل الاتهامات ومعها تفشي التطرف وتعدد اعمال العنف والارهاب، وذلك من خلال توسيع مساحة الفكر واحترام الاختلاف وتبني ثقافة الحوار كرسائل حضارية تطالب عقول العالم كله، في الغرب كما في الشرق، ان تقف عندها وتستوعبها وتلتزم بها من اجل تحقيق الحد الادنى من التعايش السلمي والقبول بالاخر واحترام تواجده.

ليس اتهاما لأحد، ولا دفاعا عن الاخر، ولكن وقوفا عند حقيقة يجب الايمان والاقتناع بها، التطرف سواء كان تطرف دولة او حركة او تنظيم او شخص، وسواء كان تطرفا دينيا او علمانيا او فكريا او اعلاميا او سلوكيا.. فهو لن يولد الا تطرفا مثله او اعنف منه. فرسام كاريكاتير يسيء الى رمز ديني، او شخص كالكاتب والإعلامي الفرنسي اريك زمور الذي يشحن الرأي العام الفرنسي ضد الإسلام والمسلمين مدعيا ان الجماعات الإسلامية لا تمثل الإسلام، وداعيا إلى الاعتراف بأن القرآن هو من يحرضهم على ذلك كون ربع منه تعرض للتحريف بغية الدعوة إلى قتال غير المسلمين، ومطالبته في كتابه “الانتحار الفرنسي” بضرورة تهجير كل مسلمي فرنسا وطردهم، لا يقل رسمهم ولا فكرهم تطرفا ولا كتبهم ارهابا عمن قادوا العملية الارهابية ضد الابرياء في مقر صحيفة “شارلي ايبدو”.

كلهم متطرفون، وكلهم يتحملون مسؤولية ما وصل إليه العالم من تنافر وعداء يهدد بزيادة مظاهر العنف. والارهاب بوجوهه المختلفة لا دين له، ودائما ما يجد، في ظل ما نعيشه، ارضا خصبة لينمو ويتجذر اكثر. والعالم اليوم باختلاف معتقداته وتوجهاته وسياساته، وبتضارب مصالحه الا انه مطالب بالانفتاح والحد من الحروب واعتماد مبادئ التسامح وقبول الاخر والتعايش معه بسلام للحد من هذه الظواهر التي باتت تشكل الخطر الذي يداهم حياتنا جميعا دون ان يستثني احدا.