قبل طوفان التعليم الحضوري

اثنين, 08/31/2020 - 09:52

 

في موضوعي السابق: "كورونا التعليم.. السرعة الثالثة"، اعتبرت أن الحق في الحياة مقدم، دائما، على الحق في التعليم؛ وعلى سائر الحقوق الأخرى.

أما مع هذه الجائحة التي تسكن جزرنا المتوحشة: الجهل، اللامبالاة، التهور، وهشاشة المواطنة؛ فإن الحياة تغدو أعز ما يطلب، الآن والساعة واللحظة؛ وأدنى تثاقل أو جدل، في إنفاذ هذا الحق يجب أن ننظر إليه على أنه مخاطرة كبرى تقامر بحياة الأفراد والوطن.

بناء على هذا اقترحت أن ندفع، في سنتنا الدراسية هذه-20-21- بالتي هي أحسن وأسلم وأنجع؛ ولم أجدها مكتملة إلا في التعليم عن بعد؛ قدرا وليس اختيارا؛ يسري على سائر مستويات التعليم ببلادنا؛ عامِّه كخاصِّه. يمكن تعديل هذا التعميم، باستثناء التعليم الأولي، والقسمين الأول والثاني من الابتدائي.

اختارت الوزارة أغلب هذا الطرح، لكنها أبقت، مضطرة ربما، على خيار التعليم الحضوري، وعلقته في أعناق الأسر، ولم تحسم فيه بدءا.

نِعم المنحى، ديمقراطيا؛ لولا أن وطأة الوباء ديكتاتورية ولا تقبل هذا الترف الذي متع به الآباء والأولياء.

هل أننا سرنا على عجلتين، إحداهما جديدة وآمنة، والأخرى قديمة ومعرضة للانفجار في كل لحظة ومنعرج؛ ثم انفجرت فعلا؛ ففي أي شيء ستفيد الجديدة، والسيارة قد انقلبت ومات ركابها؟

إن التعليم الحضوري، إلى أن تثبت اللجنة العلمية العكس، حاضر التهديد قويُّه، وقد ينفجر بؤرا وبائية، عبر كل الوطن.

وهو تهديد مباشر للتعليم عن بعد الآمن جدا، بما في ذلك حواضنه من الأسر؛ خصوصا إذا فشت "كوفيد19" التعليمية وأصابت التلاميذ وأساتذتهم وكل الأطقم الإدارية؛ وغدا الحاضر الموبوء يبلغ الغائب السليم، ويهمس في محياه بكوروناه.

ديكتاتورية القرار ضرورة قاهرة:

لقد سبق أن قلت: إن أغلب تعليمنا كان يتم دائما عن بعد؛ فلماذا نحرص اليوم على أن تلتف الساق بالساق؟

أعتمد هنا معيار الوظيفية، في الحكم على البرامج والمناهج. أغلب المخرجات التعليمية، عندنا، لا تلامس الواقع المعرفي المجتمعي التنموي. تنتهي أغلب الوحدات التعليمية إلى استظهارات وإجابات تلاميذية في ركح الامتحان، كزبَد البحر يتلاشى كلية.

أغلب البحوث الجامعية تنتهي أثاثا متلاشيا في الرفوف، ووليمة للأرَضَة والرطوبة.

من هنا فتعليمنا في أغلبه تعليم عن بعد؛ وسيان اختزلت المضامين أو أسمنتها، إذ لن تشحذ ذاكرة، ولن توتر سؤالا، ولن تثير فضولا.

ها مِحكُّ الوباء؛ فأي جامعة طمأنتنا بمصل أو دواء؟

حتى ما فرحنا له في حينه من أوكسجين مغربي، يمر عبر أجهزة مغربية، إلى رئات مغربية موبوءة، تأكد أنه لم يكن حقيقة؛ وربما كان مزايدة فقط في نظم أشعار التفاؤل.

اقتراب التعليم المغربي من بناء الذهنية المغربية الفعالة في التنمية، لا يزال مشروعا فقط، ينتظر القرار السياسي الشجاع.

أقول كل هذا وأنا استحضر أن مغاربة العلم والكفاءة العليا، في الخارج المتقدم، حجة علينا، وإدانة لبرامجنا.

وعليه فحينما أدعو اليوم إلى الاقتصار على التعليم البُعدي، فإنني لا آتي بجديد؛ ولا أغامر بمعارف تعليمية حيوية بالنسبة لتنمية الوطن؛ ما دام شحنها في ذهن التلميذ، أو إراحته منها سيان.

1+1 في منظومتنا التعليمية لا تساوي بالضرورة 2؛ قد تساوي 3،5،7.. (أنت وزَهْرك)

إن الحتمية الرياضية والفيزيائية والكيميائية، التي ينبني عليها الوطن العلمي، تضيع معالمها كلية في خضم معارف فضفاضة، تكلف المال العام غاليا؛ وما هي في الحقيقة سوى سقط علم.

يجب أن نراهن على التعليم عن بعد، الذي فرضته الجائحة علينا، على أنه المنقذ من الهلاك؛ إذا انكببنا على برامجنا منخلين ومقومين ومعدلين، حتى لا يضيع الزمن الرقمي الثمين في سفاسف العلم.

أغلب الدروس، حتى العلمية التجريبية، تقدم نظريا فقط؛ وقد تأكدت من هذا مرارا. وأغلب هذه الدروس تملى من طرف ضعاف الأساتذة ولا تشرح. فماذا سنخسر إذا أرحنا التلاميذ من هذا العبث البيداغوجي الحضوري؟

لن ينجح التعليم عن بعد، إلى درجة تفوق حصيلته فيها التعليم الحضوري، بدون مأسسته، تشريعيا وتأطيريا ولوجيستيكيا؛ فقد لا يكون هناك عدول عنه، إذا أرخت الجائحة سدولها لسنين؛ كما يتوقع الخبراء.

وقد لا يعود التعليم الحضوري إلى سابق عهده، حتى ولو زالت الجائحة؛ لأن الرقمية هي مستقبل البشرية، وركيزة العولمة.

ولا تخفى أهميته بالنسبة للدول الفقيرة، ذات الأسِرة الخصبة، التي لا يمكن أن تغطي حكوماتها مستقبلا كل حاجياتها التعليمية المعمارية والتأطيرية.

ولا تخفى أهميته، إذا استحضرنا ما يعانيه الأساتذة اليوم، من العنف المدرسي؛ خصوصا ولا شركاء لهم من الأسر يكفونهم شر الجانحين والمنحرفين والمتهورين من التلاميذ.

التعليم عن بعد ليس جائحة تربوية:

هذه النظرة السلبية إلى التعليم عن بعد، ناتجة عن تصور انتهازي للمؤسسة التعليمية؛ باعتبارها السجن الناعم الذي يريح الأسر من شغب الأبناء.

يستطيع رؤساء المؤسسات التعليمية تأكيد هذا، انطلاقا من الغياب شبه الكلي للآباء والأولياء عن حضور اجتماعات جمعيات آباء التلاميذ. هذا يدل على أن تتبع تمدرس الأبناء وتحصيلهم، والاتصال بأساتذتهم، هو آخر هواجس الأسر.

أرحني منهم، هذا هو المهم؛ أما سائر مشمولات "العقد الديداكتيكي" الذي تتأسس عليه العملية التربوية التعليمية، فغالبا مالا يفكر فيها أحد.

طبعا يحرُم التعليم عن بعد الأسر من متعة الراحة من الشغب.

كما يعقد مشكل الغياب المهني للأبوين عن المنزل، مخلفين وراءهما أبناء لا يأتمنونهم على أنفسهم.

ويتدخل في بناء هذا التصور السلبي للتعليم البُعدي، نظرتنا الكلاسيكية للمعرفة، باعتبارها سلطة بيد الأستاذ، يمارسها حضوريا داخل الفضاء المدرسي؛ حيث ينزلها من عل، إلى أذهان التلاميذ. لا نتصور أن هناك نقلا للمعرفة، يتم خارج هذه العلاقة العمودية السلطوية.

لم نتمثل بعد مفهوم التلميذ الأستاذ؛ الذي بوسعه، اليوم، التحرر من السلطة التعليمية.

ماذا تمثل معارف الأستاذ مقارنة ب"الداتا الضخمة" BIG DATA التي توفرها الشبكة؛ بل تفجرها في كل يوم في وجوهنا؟

هل ستتواصل الأستاذية الكلاسيكية، في تجاهل تام للثورة الرقمية؟ إذا قلنا بهذا فإننا لا نزيد على ترسيخ التعليم عن بعد، بالمفهوم الذي شرحت.

في وطننا، من السابق لأوانه أن نقول بموت الأستاذ؛ وإن كان دوره آخذا في الانزياح.

التعليم الخاص في المغرب، رهان فاشل:

الفيديو

تابعونا على الفيس